في العام 1996، طرح عالم السياسة الأميركي، صموئيل هنتنغتون، عدة ادعاءات قوية حول عالم ما بعد الحرب الباردة. قال إن السياسة العالمية لم تصبح “متعددة الأقطاب” فحسب، بل أصبحت “متعددة الحضارات”، مع تحديث القوى المتنافسة نفسها وفقا لخطوط ثقافية متفارقة بدلا من التقارب مع الغرب الليبرالي ببساطة. كان “ميزان القوى بين الحضارات” يتحول، وكان الغرب يدخل فترة من التدهور النسبي. وكان “نظام عالمي قائم على الحضارة” في صعود، ويغلب عليه أن تقوم المجتمعات “التي تتقاسم الانتماءات الثقافية” المشتركة بتجميع نفسها في تحالفات أو تكتلات. وكانت النزعة العالمية الشمولية المحتملة للغرب قد مهدت الطريق لصراع دائم مع الحضارات المنافسة، وعلى الأخص مع الصين والعالم الإسلامي.
كانت هذه الادعاءات هي العمود الفقري لكتاب هنتنغتون “صراع الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي”، الذي نظر إليه على أنه بديل تأويلي شامل لنظرية “نهاية التاريخ” التي كان قد وضعها فرانسيس فوكوياما، برؤيتها للديمقراطية الليبرالية على أنها الأفق الذي يغلب أن تتقارب في اتجاهه مجتمعات ما بعد الحرب الباردة.
الآن، قد تبدو أطروحة هنتنغتون ناضجة لتلقي اهتمام جديد في أعقاب غزو فلاديمير بوتين لأوكرانيا، والاستجابة الغربية الموحدة بشكل مدهش لهذا الغزو، وردود الفعل الأكثر غموضا من الصين والهند. لكن استدعاء أطروحة هنتنغتون تم في كثير من الأحيان إما بحذر، على أساس أن بوتين يريد صدام حضارات والذي ينبغي أن لا نعطيه له؛ أو من منطلق الاستبعاد أو النقد، على أساس أن محاولة بوتين لاستعادة روسيا الكبرى دحضت في الواقع نظرية هنتنغتون في السياسة العالمية.
كانت هذه هي الحجة التي قدمها، على سبيل المثال، الباحث الفرنسي في الإسلام، أوليفييه روي، في مقابلة حديثة مع “المراقب الجديد” الفرنسية. ويصف روي حرب أوكرانيا بأنها “دليل قاطع (لأن لدينا العديد من الأدلة الأخرى) على أن نظرية “صراع الحضارات” في الحقيقة “لا تعمل” –بشكل خاص لأن هنتنغتون توقع عدم ترجيح أن تخوض البلدان التي تشترك في المسيحية الأرثوذكسية حروبا مع بعضها البعض، لكن لدينا هنا بدلا من ذلك روسيا بوتين التي تشن الحرب، وليس للمرة الأولى، ضد جارة مسيحية أرثوذكسية إلى حد كبير، حتى في الوقت الذي يُستوعب فيه جمهور من المسلمين داخل روسيا.
في مقال لمجلة “كومباكت”، التي توفر موطنا محتملا للراديكاليين من اليسار واليمين، يستحضر كريستوفر كالدويل أيضا تنبؤات هنتنغتون المزيفة على ما يبدو حول الوحدة المسيحية الأرثوذكسية. لكنه بعد ذلك يقدم أيضًا سببًا مختلفًا لرفض ملاءمة فكرة هنتنغتون للحظتنا الراهنة، مشيرا إلى أن النموذج الحضاري كان إطارا مفيدا لفهم الأحداث على مدار العشرين عاما الماضية، لكننا أصبحنا نعود في الآونة الأخيرة إلى عالم يحكمه صراع أيديولوجيات واضح –واحدة تعرفها نخبة غربية تبشر بإنجيل عالمي لـ”النيوليبرالية” و”الوعي المستيقظ” wokeness (1) من جهة، وأنظمة وحركات مختلفة تحاول مقاومته من جهة أخرى.
وتبدو هذه قراءة يمينية للمشهد العالمي؛ قراءة معادية للحماسة التبشيرية الغربية التي تصفه. لكن تحليل كالدويل يشبه الحجة الليبرالية الشائعة القائلة بأن العالم ينقسم باطراد بين الليبرالية والشمولية، والديمقراطية والاستبداد، بدلاً من أن ينقسم إلى أقطاب متعددة وحضارات متنافسة.
ومع ذلك، تقدم كلتا هاتين الحجتين المعاصرتين أطرًا تأويلية أضعف من الحجة التي قدمها هنتنغتون. ليس ثمة نظرية منذ 25 أو 30 عاما يمكن أن تكون دليلا مثاليا لقراءة الشؤون العالمية. لكنك إذا ما أردت أن تفهم اتجاه السياسة العالمية في الوقت الحالي، فإن أطروحة هنتنغتون تبدو أكثر صلة الآن من أي وقت مضى.
لمعرفة السبب، عد بذهنك وراءً إلى السنوات التي أعقبت نشر كتابه مباشرة -مطلع الألفية، سنوات عهد بوش وأوائل عهد أوباما. في تلك الأيام، كان تحليل هنتنغتون يُستدعى غالبًا لشرح صعود “الإرهاب الجهادي”؛ أو المقاومة الإسلامية لسلطة الغرب.
لكن أطروحته بدت، في كل مسرح آخر في العالم، مشكوكًا فيها نسبيا. لم يكن يبدو أن القوة الأميركية تتراجع بشكل واضح. وكانت الصين تتكامل مع العالم الغربي وتذهب نحو الليبرالية إلى حد ما ولم تكن ترسم مسارها الحضاري الخاص. وبدت روسيا في فترة ولاية بوتين الأولى وكأنها تتطلع إلى عقد تحالفات مع أميركا وأوروبا وإلى نوع معين من التطبيع الديمقراطي. وفي الهند، لم تكن قوى القومية الهندوسية في حالة صعود بعد. وحتى في العالم الإسلامي، كانت هناك لحظات متكررة، من “الحركة الخضراء” في إيران إلى “الربيع العربي”، والتي بدت وكأنها تعِد بثورات ديمقراطية على غرار ثورات العام 1989، يعقبها تقارب مع الغرب.
بعبارات أخرى، قدمت السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين قدرًا لا بأس به من الأدلة على الجاذبية العالمية للرأسمالية الغربية والليبرالية والديمقراطية، مع اقتصار المعارضة الصريحة لتلك القيم على الهوامش -الإسلاميين، منقتدي العولمة من أقصى اليسار، وحكومة كوريا الشمالية.
من ناحية أخرى، جعل العقد الماضي تنبؤات هنتنغتون بشأن الافتراق الحضاري تبدو أكثر تمتعاً بالبصيرة. ولا يقتصر الأمر على أن القوة الأميركية قد تراجعت بشكل واضح قياساً بخصومنا ومنافسينا، أو أن جهودنا بعد 11 أيلول (سبتمبر) لنشر القيم الغربية بقوة السلاح غالبًا ما وصلت إلى نهاية محزنة. إن الاختلافات والافتراقات المحددة بين القوى الكبرى في العالم جاءت على الأعقاب، بشكل عام، وفق الأنماط الحضارية التي رسمها هنتنغتون.
إن جدارة الحزب الواحد في الصين، وقيصرية بوتين غير المتوجة، وانتصار ما بعد الربيع العربي للديكتاتورية والملَكية على الشعبوية الدينية في الشرق الأوسط، وشعبوية الهندوتفا (القومية) التي غيّرت الديمقراطية الهندية – ليست كلها أشكال “استبدادية” غير قابلة للتمييز بينها، وإنما هي تطورات ثقافية متمايزة تتلاءم جيدًا مع تصنيف هنتنغتون وافتراضه أن موروثات حضارية محددة سوف تتجسد وتتجلى مع تراجع القوة الغربية وانحدار القوة الأميركية.
بعد ذلك، وبطريقة موحية بنفس المقدار، كانت المنطقة التي كان فيها هذا الاختلاف الأخير أضعف، وموجة ما بعد الحرب الباردة من التحول الديمقراطي أكثر مرونة، هي أميركا اللاتينية، التي اعترف هنتنغتون بوجود نوع من عدم اليقين بشأن ما إذا كانت تستحق تصنيفا حضاريا خاصا بها، أو أنها تنتمي في الأساس إلى الولايات المتحدة وأوروبا الغربية. (ذهب إلى الخيار الأول؛ بينما يبدو الأخير أكثر منطقية اليوم).
ثم ماذا عن تنبؤات هنتنغتون المخصوصة بشأن أوكرانيا التي أثارها روي وكالدويل في نقدهما؟ حسنا، هنا فهم هنتنغتون شيئا بشكل خاطئ حقا: على الرغم من أنه توقع بدقة الانقسامات الأوكرانية الداخلية، فإن الانقسام بين الشرق الأرثوذكسي الناطق بالروسية، والغرب الأكثر كاثوليكية الذي يميل إلى الغرب، وافتراضه أن التحالفات الحضارية سوف تتفوق على التحالفات الوطنية، لم تتجسد في حرب بوتين التي قاوم فيها شرق أوكرانيا روسيا بشدة.
يتناسب هذا المثال مع نمط أكبر: لم تقم أي من القوى العظمى غير الغربية الناشئة ببناء تحالفات كبرى قائمة على الصلات الحضارية، مما يعني أن ثالث توقعات هنتنغتون الأربعة الكبيرة يبدو أضعفها اليوم. فقد تخيل، على سبيل المثال، أن صينا صاعدة ربما تكون قادرة على دمج تايوان سلميا وربما تجر اليابان إلى مجال نفوذها؛ ويبدو هذا السيناريو غير مرجح إلى حد كبير في الوقت الحالي. بدلاً من ذلك، حيثما تكون البلدان الأصغر “ممزقة” بطريقة ما، بكلمات هنتنغتون، بين بعض الحضارات الأخرى والغرب الليبرالي، فإنها تفضل عادة التحالف مع أميركا على الاصطفاف مع موسكو أو بكين.
يتحدث هذا عن جاذبية الغرب المرنة، والمزايا الأميركية الدائمة حتى في عالم متعدد الأقطاب. لكن هذا لا يعني أن الليبرالية مهيأة لعودة كاسحة إلى الموقع الذي شغلته عندما كانت القوة الأميركية في أوجها. ولا تشير أي من ردود الفعل الغامضة والمتناقضة على حرب بوتين خارج التحالف الأوروبي-الأميركي إلى قدوم فصل ربيعي مفاجئ للنظام العالمي الليبرالي. وبينما انتشرت جوانب من “نهاية تاريخ” فوكوياما بوضوح إلى ما هو أبعد من الغرب الليبرالي، فإن ذلك غالبًا ما يشكل الجانب الذي في الظل من رؤيته -النزعة الاستهلاكية والشذوذ الذي لا ينجب أطفالا– باعتبارها المثل النهائية للديمقراطية وحقوق الإنسان.
ومع ذلك، لا يعني الصراع في أوكرانيا أن صادرات “الوعي اليقظ” على النمط الأميركي، مهما كان حجم انشغال بوتين به، مهيأة لأن تصبح النقطة المحورية لصراع أيديولوجي عالمي جديد. بل العكس تماما: يبدو أن معظم هذا الوعي ضيق الأفقي ويغلب عليه النظر إلى الداخل، كاستجابة غربية على وجه التحديد -وخاصة استجابة أنجلو أميركية- لخيبات الأمل التي أنجبتها الفترة النيو-ليبرالية. وبدلا من تقديم رسالة عالمية، فإن شعاراتها وأفكارها الرئيسية ما تزال منطقية فقط داخل أميركا وأوروبا -ما الذي يمكن أن يعنيه “استنطاق هيمنة البياض” للطبقة الوسطى في مومباي أو جاكرتا، أو النخب الشابة في البحرين أو بكين؟ من الواضح أنها مصممة خصيصا لعصر تدهور أميركي متصور، حيث تعرض برنامجًا للتجديد الأخلاقي والروحي من ناحية، ولكنها تشكل أيضًا وسيلة لتبرير نوع معين من العادية والسكونية لأن الكثير من التركيز يوضع، بعد كل شيء، على التميز أو المنافسة التي تفوح منها رائحة التفوقية البيضاء.
ومن المثير للاهتمام، أن حروب “الوعي اليقظ” تكشف عن شيء رئيسي آخر ربما يكون هنتنغتون قد أخطأ في فهمه. كان مكمن خوفه الرئيسي بشأن العالم الغربي في عصر محكوم بالمنافسة الحضارية هو أن يتخلى الغرب عن تميزه الثقافي الخاص وأن تكون التعددية الثقافية على وجه الخصوص السبب في تقويضه -حتى أن الولايات المتحدة قد تنقسم إلى جيوب ناطقة بالإنجليزية وأخرى بالإسبانية تحت ضغط الهجرة الجماعية. وفي الحقيقة، تعثر بعض اتجاهات التقارب الأخيرة بين سياسات أميركا الشمالية وأميركا اللاتينية -الجاذبية المتزايدة للشعبوية اليمينية والاشتراكية في الولايات المتحدة، وصعود الإيفانجيليكانية والعنصرية (الخمسينية) في أميركا الجنوبية- على الصلة على أساس تلك التوقعات.
لكن المعارك حول “الوعي اليقظ” ليست بالضرورة مثالًا على أن البلقنة العرقية أو التعددية الثقافية قطعت شوطاً بعيدا. بدلا من ذلك، ربما تعمل الحرب الثقافية الحالية مسبقاً على الحد من الاستقطاب العرقي في أحزابنا السياسية –حيث تنجذب بعض الأقليات العرقية إلى اليمين، على سبيل المثال- بينما تعيد إنهاض بعضٍ من أقدم الانقسامات في السياسة الأنجلو-أميركية. غالبًا ما يبدو اليقطون مثل ورثة “تطهيريي إنجلترا الجديدة” والحماسة الطوباوية لـ”اليانكية”؛ وغالبًا ما يكون أعداؤهم هم الإنجيليون الجنوبيون، والكاثوليك المحافظون، والأحفاد الليبراليون للأسكتلنديين-الأيرلنديين؛ وما هو على المحك في المناقشات هي التأويلات المتنافسة للتأسيس الأميركي، والدستور والحرب الأهلية، وتسوية الحدود.
وإذن، تضفي الحرب الثقافية الأميركية الحالية الصلاحية على فكر هنتنغتون بالمعنى الأوسع، بينما تتقاطع مع واحد من مخاوفه المحددة. إن معاركنا المختلفة حول العرق، والنوع الاجتماعي، والليبرالية، والتعليم والدين، هي في الواقع استجابة لعالم لم يعد يعتبر الهيمنة الأميركية أو العالمية الليبرالية أموراً مفروغًا منها. لكنها ليست –أو أنها لم تصبح بعد على الأقل- استسلاماً للقوى المتحللة، أو انحداراً ما بعد أميركي. بدلا من ذلك، إذا كان ثمة صدام سيحدث بين الحضارات، فإن ثمة صداما يدور داخل أميركا حول أي نوع من الحضارة ينبغي أن تكون حضارتنا نحن.
*روس جريجوري دوثات Ross Douthat: محلل سياسي أميركي، ومدون، ومؤلف وكاتب عمود في صحيفة نيويورك تايمز. كان كبير المحررين في مجلة The Atlantic. كتب عن مجموعة متنوعة من المواضيع، بما في ذلك حالة المسيحية في أميركا و”الانحطاط المستدام” في المجتمع المعاصر.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Yes, There Is a Clash of Civilizations
هامش:
(1) الوعي اليقظ، أو الاستيقاط (بالإنجليزية: Woke) هو مصطلح نشأ في الولايات المتحدة، وكان يقصد في الأصل الوعي بمسائل التحيز والتمييز العنصريين. وابتداءً من العام 2010 ، أصبح يشمل وعيًا أوسع بعدم المساواة الاجتماعية، مثل التمييز على أساس النوع الاجتماعي، كما تم استخدامه كاختصار للأفكار اليسارية التي تنطوي على سياسات الهوية والعدالة الاجتماعية، مثل فكرة الامتياز الأبيض وتعويضات العبودية للأميركيين من أصل إفريقي. وه يشير، كمصطلح سياسي إلى الوعي بالقضايا المتعلقة بالعدالة الاجتماعية والعدالة العرقية. والمفهوم مشتق من المصطلح الإنجليزي Stay woke الذي يعني “ابق مستيقظا”، الذي يشير دلالياً إلى الوعي المستمر بهذه القضايا.
الغد