تزايد منسوب تشغيل القصّر في تونس، حيث أصبح الأطفال يخوضون معارك الحياة في سنّ مبكّرة، ما يعزّز تعرّضهم للاستغلال من قبل المؤجّرين وتحولهم إلى لقمة سائغة لإكراهات الشارع ومخاطره. وساهم الانقطاع المدرسي دون تحصيل مستوى أكاديمي ومعرفي متوازن في ارتفاع ظاهرة عمالة الأطفال، فضلا عن الظروف الاجتماعية الصعبة التي تواجهها الأسر، ما كرّس نشاط شبكات الاتجار بالبشر وتنامي منسوب العنف والجريمة.
تونس – تشير تقارير عدد من الجمعيات والمنظمات الدولية والمحلية إلى تصاعد مقلق في معدلات استغلال الأطفال في سوق العمل في تونس بشكل غير قانوني خلال السنوات الأخيرة، وذلك في ظل غياب الرقابة وعدم تطبيق القانون بسبب الأوضاع غير المستقرة التي شهدتها البلاد بعد الثورة.
وتنامت ظاهرة عمالة الأطفال في تونس ومست بالخصوص ولايات (محافظات) الجنوب والشمال الغربي والوسط الغربي.
خارج القانون
فؤاد غربالي: على الدولة أن تحدد سياسات أكثر عدالة، في مستويات التعليم
قالت جميلة بالطيب مديرة حقوق الطفل ورعاية الطفولة بوزارة المرأة، في تصريح خاص بـ”العرب”، “ظاهرة تشغيل الأطفال موجودة بكثرة في تونس، وأسبابها الرئيسية تتعلق أساسا بتردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للأسر التونسية”.
ولم تقدم المسؤولة في الوزارة أرقاما رسمية بشأن نسبة عمالة الأطفال وأعدادهم، مبررة ذلك بقولها “هذه مسألة من مهام الهيئة الوطنية لمكافحة الاتجار بالأشخاص ومندوبي حماية الطفولة”.
وحول تحديد السن التي يتأهّل بمقتضاها الطفل لممارسة الأعمال المخولة له يقرّ الفصل 58 من مجلة الشغل على أنه “لا يجوز أن يقل عن ثمانية عشر عاماً السنّ الأدنى للقبول في أيّ نوع من أنواع الأعمال التي يمكن بحكم طبيعتها أو الظروف التي يقع القيام بها أن تعرّض صحة أو سلامة أو أخلاق الأطفال للخطر، وتحدّد أنواع الأعمال المشار إليها بقرار من الوزير المكلف بالشؤون الاجتماعية، يتخذ بعد استشارة المنظمات المهنية لأصحاب العمل والعمال الأكثر تمثيلاً”.
وعمل المشرع التونسي بعد ثورة الرابع عشر من يناير 2011 على منع عمالة الأطفال عبر ترسانة من التشريعات من أهمها قانون الاتجار بالبشر الصادر في الثالث من أغسطس 2016 والذي أقر بمنع “الاستغلال الاقتصادي أو الجنسي للأطفال بمناسبة تشغيلهم” ولكن دون عرض وضعيات مفصّلة. كما أقر القانون المتعلق بالقضاء على العنف ضد المرأة الصادر في الحادي عشر من أغسطس 2017 في الفصل 20 بأنه “يعاقب بالسجن من 3 أشهر إلى 6 أشهر وبخطية من ألفي دينار إلى خمسة آلاف دينار كل من يتعمد تشغيل الأطفال كعملة منازل بصفة مباشرة أو غير مباشرة. يسلط نفس العقاب المذكور بالفقرة المتقدمة على كل من يتوسّط لتشغيل الأطفال كعملة منازل”.
وتظلّ هذه القوانين غير كافية لوقف النزيف المتواصل لعمالة الأطفال، وحسب آخر مسح في 2017 في تونس أكّد وزير الشؤون الاجتماعية السابق محمد الطرابلسي أن “180 ألف طفل يشتغلون ونسبة كبيرة منهم تشتغل في أعمال خطيرة”.
عامر الجريدي: غياب سلطة القانون والرؤية التنموية والتعليمية أدى إلى تشغيل الأطفال
وفسّر خبراء علم الاجتماع ظاهرة تزايد أعداد الأطفال المنقطعين عن التعليم بتراجع دور مؤسسات الدولة في تأطير الناشئة، علاوة على ضعف المستوى الاجتماعي والاقتصادي للأسر التونسية تبعا لضعف القدرة الشرائية والعجز عن مجابهة النفقات المتزايدة، ما دفع العديد منها إلى تشغيل أطفالها.
وأفاد المختص في علم الاجتماع فؤاد غربالي بأن “ظاهرة تشغيل الأطفال أصبحت تتزايد حسب ما كشفت عنه أرقام وزارة الشؤون الاجتماعية ووزارة المرأة، وهي مرتبطة أساسا بالانقطاع المدرسي المبكر وتراجع دور المؤسسات الوسيطة (مؤسسات التكوين المهني)، فضلا عن غياب التأطير الأسري اللازم، ما يجعل الأطفال عرضة للالتحاق بالعمل في الشارع”.
وأضاف في تصريح لـ”العرب”، “الفقر والأوضاع الاجتماعية المتردية للأسر أيضا دفعا الأطفال إلى العمل خارج الأطر القانونية، والدولة لم تضع التشريعات اللازمة ولا تملك البدائل الاقتصادية والاجتماعية”.
وأردف غربالي “الظاهرة موجودة في العاصمة تونس وضواحيها بدرجة أولى، ثم في مختلف المدن الكبرى، أكثر مما هي موجودة في الأرياف”، وتابع “على الدولة أن تحدد سياسات أكثر عدالة خاصة في مستويات التعليم ونسبة الانقطاع المبكر للتلاميذ”.
وفي وقت سابق أشارت وزارة التربية في تونس إلى أن قرابة 100 ألف تلميذ يغادرون سنويا مقاعد الدراسة دون تحديد وجهاتهم، بما يعرضهم لمختلف أشكال الانتهاك وخاصة استغلالهم في سوق العمل.
بيع الأطفال الرّضّع يعتبر وجهًا لا إنسانيّا آخر للاتجار بالأطفال في تونس، وهو ما يؤشّر على التفكّك الأُسَري والاجتماعي
وكانت وزارة التربية قد أطلقت خلال سنة 2016 مبادرة “المدرسة تستعيد أبناءها”، والتي تهدف إلى إعادة ما لا يقل عن 10 آلاف تلميذ منقطع سنويا إلى مقاعد الدراسة، وبالتالي الحد من مشكلة خروج الأطفال إلى العمل في سن مبكرة.
وقال عامر الجريدي، كاتب عام المنظمة التونسية للتربية والأسرة، “في الحقيقة ليست لي نِسب، باعتبار أن الإحصائيات الرسمية هي نفسها منقوصة”، مفسّرا ظاهرة تشغيل الأطفال بـ”غياب سلطة القانون والرؤية التنموية والرؤية المجتمعية – التربوية والأخرى التعليمية، فضلا عن تدهور الوضع الاقتصادي بالبلاد”.
وأضاف لـ”العرب”، “لئن تمّ إحصاء 907 حالات اتجار بالأشخاص على المستوى الوطني خلال سنة 2020 أكثر من نصفهم أطفال (452 حالة، يمثلون نسبة 52 في المئة من مجموع ضحايا الاتجار بالبشر)، فإنّ العدد يفوق ذلك بكثير باعتبار أن المعاينة الميدانية بينت أن العشرات من الأطفال يتسوّلون في كلّ مدينة من الجمهورية، كما نلاحظ ارتفاع نسبة الاستغلال الجنسي للأطفال بثلاث مرات وقد مرّ من 103 حالات في 2019 إلى 289 حالة في 2020، ويُعزى هذا التراجع إلى الوضع الوبائي والاقتصادي وإغلاق الحدود وفرض الحجر الصحي الإجباري لمدة أشهر”. وتابع “يعتبر بيع الأطفال الرّضّع وجهًا لا إنسانيّا آخر للاتجار بالأطفال، وقد زاد معدّل هذه الجريمة أكثر من 62 في المئة سنة 2020 مقارنة بالسنة التي سبقتها، وهو ما يؤشّر على التفكّك الأُسَري والاجتماعي، وأمام هذه الظاهرة الخطيرة التي تنخر المجتمع وتواصل الشّلل السياسي والتخطيطي والاستراتيجي للدولة وجب دقّ ناقوس الخطر جماعيا: دولةً ومجتمعًا مدنيّا وإعلامًا، والانكباب على وضع خطّة استراتيجية للقضاء على هذه الظاهرة”.
واستطرد عامر الجريدي “الحلول بيد الدولة وبيد التحالف بينها وبين المجتمع المدني وقطاع الإعلام وجدّية وصرامة المراقبة وإنفاذ القانون”.
والتأمت ندوة وطنية في الرابع والعشرين من مارس الماضي بتونس العاصمة حول “الاتجار بالأطفال والجريمة السبرانية” أقامتها المنظمة التونسية للتربية والأسرة والهيئة الوطنية لمكافحة الاتجار بالأشخاص والمجلس التونسي للاجئين.
تؤكد دراسة استقصائية قامت بها منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) على العلاقة المباشرة بين عمالة الأطفال وظروف مزاولتهم للتعليم وتزايد احتمال وقوعهم في حالات التسرب والانقطاع المدرسي في تونس.
وتسعى السلطات في تونس لتأطير الأطفال وإعادة إدماجهم تربويا من خلال مشاريع تهدف إلى مكافحة عمالة هذه الفئة والحدّ من الانقطاع المبكر عن الدراسة.
وتشدد الدراسة على أن ما ينبئ بخطورة المسألة هو الحجم السنوي للانقطاع المدرسي في السنوات الأخيرة والذي تجاوز بحسب إحصائيات وزارة التربية 100 ألف تلميذ، أغلبهم مهددون باللجوء إلى سوق العمل بعد ابتعادهم الاختياري أو القسري عن مقاعد الدراسة.
وفي وقت سابق أطلقت الكشافة التونسية بولاية صفاقس (جنوب) مشروعا جديدا يهدف إلى مكافحة عمالة الأطفال والحدّ من الانقطاع المبكر عن الدراسة شعاره “فرصة جديدة.. أمل جديد”، ويرمي إلى تأطير الأطفال وخلق فرص جديدة لهم وتنفيذ نماذج إعادة الإدماج التربوي وبدائل أخرى في حوالي 20 مجتمعا محليا في الولاية المذكورة على امتداد 7 أشهر، وفق ما ذكره مدير المشروع القائد سليم الحديجي.
وبحسب الخبراء الاجتماعيين فإن أعلى نسب الانقطاع عن التعليم وإجبار الأطفال على العمل تسجل في المناطق الريفية وتحديدا مناطق الشمال الغربي والجنوب الشرقي للبلاد وخاصة في ولايتي سيدي بوزيد والقصرين.
السلطات في تونس تسعى لتأطير الأطفال وإعادة إدماجهم تربويا من خلال مشاريع تهدف إلى مكافحة عمالة هذه الفئة والحدّ من الانقطاع المبكر عن الدراسة
ويفسر الخبراء سبب انتشار تلك الظاهرة في هذه المناطق بارتفاع مشاكل الفقر وضعف البنية التعليمية وغياب المتابعة الإدارية والنفسية للأطفال، خاصة خلال فترة المراهقة.
وتدفع الأوضاع المادية والظروف الاجتماعية السيئة العائلات في تلك المناطق إلى وقف أبنائها عن الدراسة وإلحاقهم بمهن مختلفة.
ويمثل تشغيل الفتيات القاصرات ضمن الخدمة المنزلية أحد أبرز ملامح هذه الظاهرة، حيث تشير بعض المصادر غير الرسمية إلى تعرض الآلاف من الفتيات اللاتي دون السن القانونية للاستغلال والانتهاك والعمل في ظروف غير لائقة في المنازل.
وفي وقت سابق طرح الاعتداء الذي تعرّض له وزير الشؤون الاجتماعية محمّد الطرابلسي مشكلة تشغيل الأطفال في تونس، فخلال زيارة إلى صفاقس كان الوزير شاهدا على حادثة أثارت غضبه حيث انهال بائع خضر ضربا على طفل يشغّله، وحاول محمد الطرابلسي أن يثنيه عن صنيعه مذكّرا إيّاه بأنّ القانون يمنع تشغيل الأطفال، فاعتدى على الوزير بالضرب.
ولاحظ الاتحاد العام التونسي للشغل في بيان أنّ “الحادثة تكشف مرّة أخرى ما يتعرّض له أطفالنا من اعتداءات وأخطرها تشغيلهم خارج القانون الذي يمنع تشغيل الأطفال”.
وأضاف البيان “ومرّة أخرى نقول إنّ منظومة المراقبة فاشلة وغائبة، ولا يمكن أن نوقف جريمة تشغيل الأطفال بتدخّل فردي بل بتفعيل أجهزة الرقابة الصارمة وإنفاذ القانون حتّى لا يحرم أبناؤنا من حقّهم في النمو والتعلّم واللعب والتمتّع بكلّ متطلّبات الطفولة الحقيقية التي تكفلها الطبيعة ويضمنها القانون”.
وذكّر الاتحاد بأنّ عدد الأطفال المشغّلين دون السنّ القانونية يقدّر، وفق المسح الوطني للإحصاء ووزارة الشؤون الاجتماعية ومنظمة العمل الدولية، بأكثر من 215 ألف طفل، أي بنسبة 9.5 في المئة من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 5 و17 سنة.
وأفاد بأنّه منع تشغيل الأطفال الّذين لم يبلغوا بعد سنّ السادسة عشرة، إذ نصّ الفصل 53 من مجلة الشغل على أنّه “لا يمكن تشغيل الأطفال الّذين يقل سنهم عن ستة عشر عاما في جميع الأنشطة الخاضعة لهذه المجلة مع مراعاة الأحكام الخاصة الواردة بنفس المجلة”.
العرب