مع الحذر الشديد من الوقوع في تسويق نظريات المؤامرة، إلا أن الحديث عن خفايا وكواليس الحرب الأوكرانية يبدو في كثير من الحالات وكأنه نوع من نظرية مؤامرة، وقد كتب عدد من الباحثين عن استدراج الغرب لروسيا بوتين إلى الفخ الأوكراني، والغاية كانت تدمير القدرات الروسية، بل أصبح مصطلح (المستنقع الأوكراني) الذي ستغرق فيه روسيا أكثر شيوعا بشكل لافت في الكتابات والتحليلات التي تناولت الحرب الأوكرانية، لكن ما هي مصداقية، أو دقة هذه الطروحات؟ خصوصا إننا شهدنا على مدى الأسابيع المنصرمة حربا إعلامية غربية شرسة تشن على روسيا.
في البدء يمكننا طرح السؤال المحوري كمدخل لفهم ما يجري في الساحة الأوكرانية: ماذا يريد الغرب من الحرب؟ لقد كتب جيمس لاندال مراسل الشؤون الدبلوماسية في (BBC) في هذا الشأن فقال: «ربما تكون أهداف الحرب ضد روسيا هي المصدر الأهم للتوترات. ففي الوقت الحالي، يتحد الغرب وراء شعار الدفاع عن أوكرانيا، ويقدم الدعم الاقتصادي والعسكري لمساعدة البلاد على المقاومة، لكن ما هو الهدف على المدى البعيد؟ وقف الأعمال العدائية بالطبع. لكن هل يجب أن تتم هزيمة روسيا؟ هل يجب أن تنتصر أوكرانيا؟ كيف ستبدو كل من الهزيمة والنصر من الناحية العملية؟».
اليوم يتم استذكار زبيغنيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس الديمقراطي جيمي كارتر وخطته التي أغرقت الاتحاد السوفييتي في أفغانستان نهاية السبعينيات، ويعتبرها بعض الكتاب مقاربة كثيرة الشبه بما تفعله إدارة الرئيس الديمقراطي جو بايدن في الملف الأوكراني، الذي تسعى لأن يكون فخا لتدمير روسيا بوتين، إذ أشار روبرت ويد أستاذ الاقتصاد السياسي في كلية لندن للاقتصاد في جامعة لندن، في مقال تحليلي شامل نشرته كلية لندن للاقتصاد إلى هذه المقاربة بشكل تفصيلي، وأوضح أن فخ أوكرانيا يشبه إلى حد كبير الفخ التي صنعته وكالة المخابرات المركزية لتوريط الاتحاد السوفييتي في أفغانستان أواخر السبعينيات، عندما بدأت الولايات المتحدة سراً تمويل مجموعات المجاهدين المسلحة ضد الحكومة الشيوعية في أفغانستان على أمل استفزاز الاتحاد السوفييتي للتدخل ودعم حكومة كابل الشيوعية. نجحت خطة بريجنسكي أواخر عام 1979، عندما دخلت القوات السوفييتية أفغانستان بناء على طلب من الحكومة الأفغانية، وغرق الجيش السوفييتي في مستنقع الاقتتال الأفغاني على مدار عقد كامل، حتى قيل إن الفشل السوفييتي في أفغانستان كان أحد أهم أسباب تفكك الاتحاد السوفييتي بعد عامين من الانسحاب من أفغانستان، ويقتبس روبرت ويد من مذكرات بريجنسكي ما قاله عن تلك الخطة: «وكانت تلك العملية السرية فكرة ممتازة، وكان لها تأثير كبير في جر الروس إلى الفخ الأفغاني، وتريدون مني أن أندم عليها؟ في اليوم الذي عبر فيه السوفييت الحدود رسمياً، كتبت إلى الرئيس كارتر، وبشكل لا لبس فيه: «لدينا الآن فرصة لمنح الاتحاد السوفييتي حرب فيتنام». ويجادل ويد بأنه على الرغم من أن تصرفات روسيا في أوكرانيا لا تغتفر، إلا أن خطط الحرب الحالية تم وضعها في واشنطن أكثر منها في موسكو. ويضيف روبرت ويد في مقاله: «اليوم بالطبع، لا توجد حكومات اشتراكية أو تقدمية معنية بأي جانب من هذا الصراع. بدلاً من ذلك، هناك مواجهة بين القوى الإمبريالية والدول التي تُستخدم كبيادق في استراتيجية أمريكية كبرى، وربما أقل من استراتيجية روسية. ومع اعتراف الكرملين الآن (بخسائر كبيرة) وسحب قواته للتركيز على معركة شرق أوكرانيا، يبدو أن الخطة الأمريكية، وليست الروسية، هي التي بدأت تؤتي ثمارها حتى الآن». ويشير سي جيه أتكينز مدير تحرير دورية (People World) في مقال له حول (الفخ الأوكراني) إلى أن استغلال المخاوف الأمنية الروسية المشروعة، جنباً إلى جنب مع الطموحات الإمبريالية لحكومة بوتين، جعل وضع الفخ أمراً مباشراً إلى حد ما، إن لم يكن بسيطاً. واستفاد راسمو السياسات الغربية من ضعف روسيا في أعقاب سقوط الاتحاد السوفييتي، وتحركت الولايات المتحدة للتأكد من أنها لن تواجه مرة أخرى أي تحد لهيمنتها في أوروبا، فتم توسيع حلف الناتو الذي تقوده الولايات المتحدة بشكل مطرد باتجاه الشرق في التسعينيات وبداية الألفية الجديدة ليضم الدول التي كانت ضمن حزام الدول الاشتراكية المحيطة بالاتحاد السوفييتي سابقاً، مثل بولندا وبلغاريا ورومانيا وجمهورية التشيك، وكلها كانت موضع ترحيب كبير من الاتحاد الاوربي وحلف شمال الأطلسي.
دول الغرب، وفي مقدمتها الولايات المتحدة وبريطانيا تسعى بشكل لا لبس فيه إلى إطاحة ديكتاتورية بوتين واستبدالها بحكومة أكثر مرونة في تعاطيها السياسي
ويبدو أن دول الغرب، وفي مقدمتها الولايات المتحدة وبريطانيا تسعى بشكل لا لبس فيه إلى إطاحة ديكتاتورية بوتين واستبدالها بحكومة أكثر مرونة في تعاطيها السياسي، فقد قال رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون في اجتماع للبرلمان منتصف شهر نيسان/إبريل الماضي: «علينا ببساطة أن نفعل كل ما في وسعنا، وبشكل جماعي، لضمان فشل فلاديمير بوتين، وفشله الشامل». وعلى الرغم من تأكيده «من المهم جدا ألا نجعل من إزاحة الزعيم الروسي أو تغيير السياسة في روسيا هدفا، لأن الأمر يتعلق بحماية شعب أوكرانيا. سيحاول بوتين جعل الأمر يبدو صراعا بينه وبين الغرب، لكن لا يمكننا قبول ذلك» إلا أن النظرة المتمعنة للسياسة البريطانية تشير إلى سعيها المحموم لإطاحة بوتين.
لقد قالها الرئيس الأمريكي جو بايدن في وارسو يوم 26 آذار/مارس: «من أجل الله، لا يمكن لهذا الرجل أن يبقى في السلطة». كما أشار سابقا عشية الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 شباط/فبراير بأن العقوبات لم تكن تهدف لمنع الغزو، بل المعاقبة «حتى يعرف الشعب الروسي ما جلبه (بوتين) عليهم». وبالمثل، أعلن وزير القوات المسلحة البريطانية جيمس هيبي، أن العقوبات تهدف لضمان أن «أيام بوتين كرئيس ستكون معدودة» وقال وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان إن النية هي»خنق الاقتصاد الروسي». وقال المتحدث باسم رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون في أوائل مارس إن العقوبات «تهدف إلى إسقاط نظام بوتين» كما أشار وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن إلى أن هزيمة القوات الروسية لن تكون كافية، وقال «نريد أن نرى روسيا وقد ضعفت لدرجة أنها لا تستطيع القيام بما قامت به عند غزوها لأوكرانيا». وقد اتهم الرئيس فلاديمير بوتين يوم 25 إبريل الحكومات الغربية بمحاولة تدمير بلده من الداخل، وحث الروس على البقاء متحدين، وقال إن وكالات أجنبية، خاصة وكالة الاستخبارات الأمريكية المركزية، تخطط لشن هجمات مروعة. وأضاف بوتين، في اجتماع سنوي للمدعين العامين في روسيا، أن الولايات المتحدة وأوروبا تمارسان نوعا غريبا من الدبلوماسية بإرسال أسلحة إلى أوكرانيا. وقد كشف اجتماع وزراء خارجية حلف شمال الأطلسي في مارس عن المساعدات الأمريكية المقدمة لأوكرانيا منذ بداية الحرب، إذ قدمت الولايات المتحدة لأوكرانيا أكثر من 1.7 مليار دولار في صورة مساعدات أمنية، و2.4 مليار دولار منذ تولي بايدن منصبه بحسب مذكرة وزّعها البيت الأبيض». لذلك يرى بعض المحللين أن الخطوة التالية في استراتيجية الولايات المتحدة، ستتكون من جزأين، وكلاهما قيد التنفيذ بالفعل. أولاً، ستستمر الولايات المتحدة ودول الغرب في إمداد أوكرانيا بالأسلحة الكافية لإغراق الجيش الروسي في المستنقع الأوكراني أكثر وأكثر، لكن ليس إلى الحد الذي يكفي لتوجيه ضربة حاسمة للقوات الروسية، لأن الهدف هو جعل الحرب طويلة ومكلفة قدر الإمكان بالنسبة لروسيا، وليس بالضرورة للدفاع عن استقلال أوكرانيا وسيادتها. أما الشق الثاني من الاستراتيجية فهو العقوبات، إذ حشدت الولايات المتحدة حلفاءها والدول التابعة لها لفرض عقوبات شديدة على الاقتصاد الروسي، بينما تركز وسائل الإعلام على «الأوليغارشية» الروسية المتضررة من القيود التجارية والمالية، بينما يتمثل الهدف الأساسي للعقوبات بالضغط على مستويات المعيشة للطبقة العاملة الروسية والطبقة الوسطى. ويرى هربرت ويد استاذ الاقتصاد السياسي: أن «الولايات المتحدة تأمل في أن استراتيجية تسليح اوكرانيا، بالإضافة إلى العقوبات ستستمر لفترة كافية حتى يتمكن الروس من القيام بانتفاضة تطيح حكومة بوتين، ليتم بعدها تنصيب رئيس يشبه يلتسين، أكثر تعاطفًا مع الغرب». ويبدو أن كلمات بايدن والقادة الغربيين الآخرين في الأسابيع الأخيرة تكشف عن الكثير من تفاصيل لعبة الحرب الدائرة في (المستنقع الأوكراني).
القدس العربي