يوماً بعد يوم يزداد الوضع السياسى فى العراق تعقيداً وتأزماً منذ أن فشلت القوى السياسية فى ترجمة نتائج الانتخابات التشريعية التى أجريت فى أكتوبر 2021، إلى واقع سياسى يتمثل فى تحديد الكتلة البرلمانية الأكبر- 165عضواً برلمانياً- وانتخاب البرلمان لرئيس الجمهورية الجديد، وتسمية الأخير لرئيس الوزراء الذى يتم اختياره من قبل الكتلة البرلمانية الأكبر تمهيداً لتشكيل الحكومة. وقد مرت التحالفات السياسية التى تمخضت عن نتيجة الانتخابات الأخيرة بالعديد من التغيرات فى مواقفها الساسية تجاه عملية التشكيل الحكومى الجديد على خلفية الجدلية الخاصة بتكوين الكتلة البرلمانية الأكبر، إلى أن تبلورت تلك التغيرات – خلال مارس 2022 – فى وجود تحالفين كبيرين يتنافسان على تسمية كل منهما بالكتلة الأكبر صاحبة الأحقية فى تسمية رئيس الحكومة الجديد: التحالف الأول، هو تحالف” إنقاذ وطن” الذى يضم تيار الزعيم الشيعى مقتدى الصدر المتصدر لنتائج الانتخابات، والحزب الديمقراطى الكردستانى، وتحالف السيادة السنى الذى يرأسه خميس الخنجر ويضم تكتل تقدم لمحمد الحلبوسى رئيس البرلمان، وتكتل عزم لمثنى السامرائى، ويشغل هذا التيار حوالى 155 مقعداً برلمانياً، وذلك قبل الأنباء -غير المؤكدة – عن انسحاب كتلة عزم، فى 19 إبريل الحالى، من تيار الاتقاذ، استناداً إلى وجود اتصالات بين التكتل وبين قوى الإطار التنسيقى الشيعية على خلفية محاولات الأخيرة تشكيل الكتلة البرلمانية الأكبر.
أما التحالف المقابل فيتكون من الإطار التنسيقى ويضم كافة القوى السياسية الشيعية التى فشلت فى الحصول على نتائج وازنة انتخابياً، وتتمثل فى الأحزاب السياسية التقليدية الأكثر ارتباطاً بإيران ويتقدمها تيار الفتح لهادى العمرى، وائتلاف دولة القانون لنورى المالكى، وتيار الحكمة لعمار الحكيم، وكتلة السند الوطنى لأحمد الأسدى.. وغيرها، ويشغل حوالى 140 مقعداً برلمانياً، وانضم لهذا التحالف حزب الاتحاد الكردستانى – كان سابقاً جزءاً من التحالف مع تيار الصدر والتيارات السنية – على إثر الخلافات الحادة التى ضربت المكون السياسى الكردى فى سياق تحديد مرشحى منصب رئيس الجمهورية، الذى جرى العرف السياسى فى العراق على أن يكون كردياً، ما يترجم حقيقة أن التحالفات فى العراق تتسم دوماً بكونها تحالفات رخوة متغيرة طبقاً لمصالح القوى السياسية المختلفة.
كلا التحالفين المتعارضين يتواجهان سياسياً بشأن شكل الحكومة المزمع تشكيلها؛ فتحالف مقتدى الصدر يصر على ضرورة أن تكون الحكومة الجديدة ذات أغلبية وطنية تتشكل من الأحزاب الفائزة بنتائج الانتخابات، على اعتبار أن “التوافقات” القائمة على “المحاصصة الطائفية” لم تنجح عبر سنوات فى مواجهة التحديات والأزمات الأمنية والاقتصادية والسياسية التى يواجهها العراق. وفى المقابل يرى تحالف الإطار التنسيقى ضرورة أن تكون الحكومة قائمة على قاعدة “التوافق السياسى” على غرار الدورات الانتخابية السابقة، على اعتبار أن التوافق المحاصصى – إن جاز التعبير – يؤدى إلى حفظ “إرث الكتلة الشيعية موحدة” فى إدارة الدولة باعتبارها المكون السياسى الأكبر عدداً، وهى الإدارة التى كانت تضع التيارات والقوى الشيعية كلها موحدة داخل البرلمان، مقابل معارضة سنية كردية ضعيفة ومنقسمة، أما طرح مقتدى الصدر بشأن حكومة “أغلبية وطنية” فمن شأنه فصم القوى الشيعية إلى فريقين أحدهما فى السلطة والآخر فى المعارضة، وهو ما ترفضه قوى الإطار التنسيقى ومن ورائها إيران، وهو أمر لم تشهده الحياة السياسية العراقية منذ إقرار المسار الانتخابى عام 2006.
تعقيدات سياسية متصاعدة
هذا التمايز فى التحالفات السياسية العراقية وخلافاتها المتزايدة بشأن إجراءات تشكيل الكتلة البرلمانية الأكبر، أدى إلى تجاوزات “دستورية” من شأنها نسف مخرجات العملية الانتخابية الأخيرة برمتها، أهمها تمثل فى تعثر عملية انتخاب رئيس الجمهورية الجديد من قبل البرلمان عبر ثلاثة جولات كاملة، فى خرق واضح للقواعد الدستورية التى تقر ضرورة انتخاب رئيس الجمهورية خلال 30 يوماً من تاريخ أول جلسة ينعقد فيها البرلمان المنتخب (9 يناير 2022)، حيث فشل البرلمان خلال جلستى 9 فبراير و26 مارس 2022، فى إتمام الإجراء نفسه، نتيجة لعدم اكتمال النصاب القانونى لعملية الانتخاب وهو 220 عضواً من إجمالى 329 عضواً – حضر 202 عضواً فقط – حيث تعمدت قوى الإطار التنسيقى الشيعية عدم حضور أعضائها للجلسات، هذا بخلاف فشل تيار الإنقاذ الوطنى فى حشد المستقلين لحضور الجلسة بما يكمل النصاب القانونى، فقد كان ينقصه حضور 18 نائباً فقط حتى يتسنى له عقدها، وهنا تحديدا يلاحظ تراجع المستقلين من تحالف ” من أجل الشعب” الذى يضم حركتى “امتداد والجيل الجديد” عن المشاركة فى جلسات انتخاب رئيس الدولة.
تجاوز المدد الدستورية لانتخاب الرئيس بهذا المنطق دفع المحكمة الاتحادية العليا إلى البحث عن “مخرج” لهذا الوضع، بمد مدة اختيار الرئيس الجديد حتى 6 إبريل 2022، إلا أن البرلمان فشل أيضاً فى تسمية رئيس الجمهورية فى المدة المحددة، ويبرز هنا سبب إجرائى بشأن عدم رغبة التحالفات البرلمانية – تحالف إنقاذ وطن وغريمه الإطار التنسيقى- إتمام عملية انتخاب رئيس الجمهورية، وهو أنه فى حالة تسمية البرلمان لشخص الرئيس سيكون لزاماً عليه تسمية رئيس الوزراء الجديد خلال 15 يوماً من داخل الكتلة البرلمانية الأكبر، وهى الكتلة التى لم يتم تحديدها فعليا حتى وقت كتابة هذه السطور، وذلك على وقع التجاذبات الحادة بين التحالفات السياسية فى سياق مدى (ارتباط أو عدم ارتباط) تلك القوى بمعادلة التفاعل الإقليمى لإيران والولايات المتحدة.
الأمر الذى يدفع العراق نحو مسار معقد من البدائل والخيارات الصعبة التى لا يستطيع – فى ظل أزماته الأمنية والسياسية الحالية – تحمل تكلفتها وأعبائها، لاسيما فى ظل تغيرات دولية حادة، آخذة فى التشكل، سيكون لها مردودها على حالة الإقليم وتفاعلات القوى الدولية فيه بدءاً من الحرب الروسية الأوكرانية التى تفرض أعباءً اقتصادية شديدة الوطأة على دول الإقليم ومن بينها العراق، مروراً بالمفاوضات الخاصة بالبرنامج النووى الإيرانى واقتراب التوصل لاتفاق، ومردوده المتوقع على تفاعلات إيران بشأن ملفات انخراطها فى المنطقة وأهمها العراق مرتكز مشروعها الإقليمى، ووصولاً إلى التغيرات الطارئة على سياسة الولايات المتحدة داخل منطقة الشرق الأوسط وتوجهها لمناطق مصالحها الاستراتيجية فى مواجهة روسيا والصين، ومدى تأثير هذه التغيرات على حالة “التحالف والتعاون الاستراتيجى” بين بغداد وواشنطن التى بلورتها مسارات وجولات “الحوار الاستراتيجى ” بين الجانبين على مدار السنوات الماضية.
هذه التطورات داخل العراق وخارجه تشكل الإطار الذى يحدد تفاعلات القوى السياسية بشأن استحاقات انتخاب رئيس الجمهورية من ناحية، وتحديد الكتلة البرلمانية الأكبر من ناحية ثانية، وتسمية رئيس الوزراء الجديد من ناحية ثالثة. وبشأن الاستحاقات الثلاثة ثمة تمايزات واضحة بين التحالفين المتعارضين – إنقاذ وطن والإطار التنسيقى- ويبدو تحالف إنقاذ وطن الذى يتزعمه التيار الصدرى أكثر بلورة لمواقفه تجاه تسمية مرشحيه لمنصبى رئيس الدولة ورئيس الحكومة؛ حيث يدفع التحالف بالسياسى الكردى ريبير أحمد مرشح الحزب الديمقراطى الكردستانى لشغل منصب رئاسة الدولة، ومحمد جعفر الصدر لشغل منصب رئاسة الحكومة، أما الإطار التنسيقى فأكثر انشغالاً بتحديد شكل الحكومة المقبلة، ومرشحيه لشغل منصبى الرئيس ورئيس الوزراء غير محددة على العكس من تحالف إنقاذ وطن. ويلاحظ هنا، أن مسعى تيار إنقاذ وطن بشأن الدفع بمرشح الحزب الديمقراطى الكردستانى لشغل منصب رئيس الجمهورية، أدى إلى خلافات مع حزب الاتحاد الكردستانى الذى يؤيد التجديد لمرشحه الرئيس الحالى برهم صالح، ما دفع الحزب إلى الانسحاب من تيار إنقاذ وطن، والانضمام إلى الإطار التنسيقى.
ضغوط متبادلة
هذا إلى جانب محاولات الطرفين حلحلة مواقف كل طرف بممارسة مزيد من الضغوط على الطرف الآخر بشأن تشكيل الحكومة، كان أبرزها محاولة الزعيم الشيعى مقتدى الصدر، خلال مارس الماضى، جذب ائتلاف دولة القانون لنورى المالكى عدو الصدر اللدود – 37 مقعداً برلمانياً- للتحالف مع تيار إنقاذ وطن فى محاولة لتفتيت الإطار التنسيقى عبر سحب أكثر أطرافه حصولاً على مقاعد فى البرلمان، لكن محاولة الصدر باءت بالفشل، ورد عليها الإطار التنسيقى المناوئ بوضع مجموعة من التعقيدات مثلت سياقاً عاماً لتفاعلاته ضد تحالف الإنقاذ منها: إمكانية الدخول فى تحالف مع التيار الصدرى فقط، دون التيار السنى والتيار الكردى، ككتلة شيعية واحدة (هدف إيرانى تقليدى) على أن يكون للإطار الحق فى تحديد شخصية رئيس الوزراء، وأن يكون دور تيار الإنقاذ هنا هو “التعاون” وليس “الاختيار”، وهو ما يرفضه الصدر باعتباره التفافاً من قبل قوى الإطار التنسيقى على مكاسبه الانتخابية والشعبية، كما أن هذا الطرح سيكسر التحالف الصدرى مع القوى السنية والكردية. أيضاً هدد الإطار التنسيقى برفض المسلمات المعمول بها فى اختيار الرئيس من بين المكون السياسى الكردى، واختيار رئيس البرلمان من المكون السياسى السنى، فى الوقت الذى يتم فيه – ووفقاً لتصريحات مسئولى الإطار التنسيقى- إضعاف المكون السياسى الشيعى من خلال قيام أحد أضلاعه، وهو التيار الصدرى، بممارسة عملية تفتيت ممنهجة لوحدة الكتلة السياسية الشيعية وأحقيتها – وفقاً لرؤى الإطار- فى تحديد شكل الحكومة الجديدة واختيار رئيسها. يضاف إلى جملة هذه الضغوط تراجع قوى الإطار عن شبه اتفاق غير معلن تم مسبقاً داخل أروقة التفاوض مع تيار إنقاذ وطن بشأن اختيار جعفر الصدر – سفير العراق لدى بريطانيا – لمنصب رئيس الحكومة، وربط العودة لهذا الاتفاق بتشكيل تيار الصدر وحده – دون السنة والأكراد – الكتلة البرلمانية الأكبر مع قوى الإطار التنسيقى.
وتستفيد القوى السياسية العراقية المتعارضة – تحالف إنقاذ وطن والإطار التنسيقى – من تفسيرات المحكمة الاتحادية العليا للمادة 45 من قانون الانتخابات الصادر عام 2020، والمادة 76 من الدستور بشأن الكتلة البرلمانية الأكبر، وما يرتبط بها من مواد أرقام 59 و70، فى استمرار المناورات السياسية بين الطرفين بشأن اختيار رئيس الوزراء، معتمدين على اعتبار المحكمة الاتحادية أن الكتلة البرلمانية الأكبر هى ” الكتلة الأكثر عدداً والتى يمكن تقديمها فى البرلمان فى أى وقت “، وجملة “أى وقت” هنا ووفقاً لبرلمانيين عراقيين تحمل احتمالات عديدة منها؛ تقديمها فى الجلسة الأولى لانعقاد البرلمان، أو تقديمها إلى رئيس البرلمان المنتخب، أو تقديمها بعد انتخاب رئيس الجمهورية من قبل البرلمان. المهم فقط التحسب لعملية إرسالها من قبل رئيس البرلمان إلى رئيس الجمهورية المنتخب، لأن هنا ستصبح الكتلة مسماة بأنها الأكبر فى البرلمان إجرائياً وفعلياً، وبالتالى ستكون مطالبة هى دون غيرها بتسمية رئيس الوزراء، الذى سيكون ملزماً حينها بتقديم التشكيل الحكومى خلال 30 يوماً من تسميته.
وسط هذه التجاذبات وتعمد قوى الإطار التنسيقى تعطيل عملية انتخاب رئيس الدولة، بعدم حضور أعضائها الجلسات البرلمانية المخصصة لذلك باعتبارهم “الثلث المعطل”، طرح الزعيم الشيعى مقتدى الصدر، فى 31 مارس الماضى، على قوى الإطار القيام بتشكيل الكتلة البرلمانية الأكبر- إن استطاعت – والتشاور مع كافة القوى السياسية – دون القوى الموجودة فى تيار الإنقاذ- لتشكيل الحكومة خلال 40 يوماً تنتهى فى 9 مايو من عام 2022 الحالى. وقد تباينت التفسيرات بشأن المغزى الذى استهدفه الصدر من وراء هذا الطرح؛ بعض هذه التفسيرات يشير إلى صعوبة تشكيل قوى الإطار لحكومة لا تشتمل على التيار الصدرى انطلاقاً من فكرة ضمان استمرارية “وحدة الكتلة السياسية الشيعية” التى تؤكد عليها القوى الأكثر ارتباطاً بإيران، وهو المنطلق نفسه الذى يدفع قوى الإطار إلى التمسك بتشكيل حكومة توافق مع تيار الصدر، باعتبار أنها ستضمن إعادة اللحمة للقوى الشيعية التى انقسمت بعد الانتخابات الأخيرة، وإن كان الظهور اللافت لزعيم كتائب عصائب أهل الحق قيس الخزعلى وتصريحاته القوية عن استعداد الإطار تشكيل حكومة تستثنى الصدر يؤشر على ارتفاع حظوظ هذا الطرح.
البعض الثانى من تلك التفسيرات يشير إلى أن هذا الطرح لا يخرج عن كونه مجرد “مناورة تكتيكية” من قبل الصدر هدفها إحراج الإطار سياسيا، بكشف مدى عجزه عن أوعدم قدرته على تشكيل الكتلة البرلمانية الأكبر، وإجراء مشاورات تشكيل الحكومة لكون تيار الإنقاذ يمثل “الثلث المعطل”، وهى الوظيفة نفسها التى مارستها قوى الإطار لتعطيل مسار الإجراءات الخاصة بتشكيل الرئاسات.
وثمة تفسير ثالث، يقول بأن دعوة الصدر لقوى الإطار لتشكيل الكتلة البرلمانية الأكبر وتسمية رئيس الوزراء خلال 40 يوماً – التى يلعب فيها الصدر وتيار الإنقاذ دور “الثلث المعطل” – ما هى إلا وسيلة للهروب من الضغوط التى تواجه مقتدى الصدر نفسه الناتجة عن فشله حتى اللحظة فى استغلال نتائج تقدمه فى الانتخابات وتوظيفها فى تشكيل الحكومة، ما يفرض عليه مزيداً من التبعات أمام المواطنين العراقيين، وأمام حركة الحراك الجماهيرى التى اعتبرته رجل الدين الشيعى المستنير القادر على فك الارتباط مع إيران من ناحية، ووضع خطط لمحاربة الفساد المالى والإدارى من ناحية ثانية، ومعالجة الأزمات الاقتصادية والأمنية من ناحية ثالثة، باعتبار أن هذه التطلعات تشكل مطالب الحراك الوطنى الكبير الذى شهدته العراق فى عام 2019، وكان سبباً فى انتخابات 2021 المبكرة التى حصل فيها الصدر على نتائج متقدمة.
ومن ثم، فإن استمرار عجز الصدر عن تشكيل الكتلة البرلمانية الأكبر بهدف تشكيل الحكومة سيضعه موضع “السياسى المنظر” الذى يكتفى نظرياً بمراقبة المشهد السياسى وإطلاق الشعارات، وانتقاد الخصوم السياسيين دون أن تكون لديه رؤية واقعية وعملية على الأرض تمكنه من ترجمة توجهاته النظرية إلى واقع فعلى، ومن المتوقع أن ينعكس ذلك على شعبيته فى أى انتخابات جديدة، لأنه ببساطة وفى ظل مسار التفاعل بينه وبين قوى الإطار التنسيقى، فمن المحتمل أن ” يُجبر” على النكوص عن تعهداته بتشكيل حكومة أغلبية وطنية ليعود إلى منظومة التوافقات والمحاصصات الطائفية والحزبية. وقد ارتبطت تلك التفسيرات بشأن دوافع الصدر اعتزال المشهد السياسى طوال 40 يوماً، وترك الساحة لقوى الإطار التنسيقى، بمستوى آخر من التعقيد فى المشهد السياسى العراقى، تمثل قى تعليق البرلمان جلساته إلى آجل غير مسمى على وقع الإخفاق الثالث فى جلسة انتخاب رئيس الدولة، بما يشير إلى الوصول الفعلى لمرحلة “انسداد الأفق السياسى” فى العراق لمجرد أن بعض القوى الوطنية لديها الرغبة فى تجاوز الإشكاليات التى خلقتها قاعدة ” التقاسم المحاصصى” للسلطة والنفوذ والسلاح، والبعض الآخر يرى أن تأمين مصالحه يكمن فى الإبقاء على حالة ارتباط سياسات العراق بالداعم الإقليمى الإيرانى، الذى يرغب بدوره فى إبقاء مصالحه داخل العراق محمية بكتلة شيعية سياسية موحدة تتولى السلطة.
خيارات وبدائل
حالة الإنسداد السياسى وفقاً لمعطيات التفاعل بين قوى الإطار التنسيقى وبين تيار إنقاذ وطن، بالكيفية السابق عرضها، تفترض وجود بعض البدائل والخيارات التى تستهدف تجاوز حالة الركود السياسى فى العراق وهى:
البديل الأول، يشير إلى الإبقاء على الحكومة الحالية قائمة تتولى مهامها فى تسيير الأعمال، باعتباره بديلاً ينسجم مع الواقع الحالى فى العراق، وهى حكومة كفاءات وطنية شكلها مصطفى الكاظمى فى مايو 2020 ترجمة لمطالب حراك أكتوبر 2019، وتم “التوافق” عليها من الكتل الشيعية – حينها – نزولاً فقط على مطالب الحراك. لكن سياسات الكاظمى الداخلية والخارجية، التى ابتعدت بصورة نسبية عن سياسات إيران الإقليمية، كانت سبباً مباشراً فى رفض القوى السياسية الشيعية التقليدية إعادة طرحه لرئاسة الحكومة مرة ثانية. ويلاحظ أن حكومة تسيير الأعمال لن يكون بمقدورها اتخاذ قرارات مهمة على المستوى السياسى باعتبارها حكومة منتهية فترة ولايتها قانوناً.
البديل الثانى، يشير إلى احتمالية نجاح الإطار التنسيقى فى تشكيل الكتلة البرلمانية الأكبر خلال فترة المهلة التى منحها مقتدى الصدر وهى 40 يوماً تنتهى فى التاسع من مايو المقبل؛ فثمة تحركات سياسية حثيثة يقوم بها نورى المالكى رئيس ائتلاف دولة القانون تشير إلى مفاوضات يجريها مع بعض الكتل والمستقلين، مستغلاً خبراته السابقة فى توظيف إغراءاته بتولى بعض القوى حقب وزارية ووظائف إدارية وزانة، على خلاف غريمه مقتدى الصدر الذى تواجهه إشكالية عدم القدرة على التوظيف الأمثل لمكاسبه الانتخابية سواء فى انتخابات عام 2018، أو انتخابات عام 2021، هذا بخلاف عدم قدرته على توسيع نطاق تحالفه البرلمانى انقاذ وطن – 155 عضواً – ليكون هو الكتلة البرلمانية الأكبر – 165 عضواً- بالرغم من اقترابه منها، بل يذهب بعض المحللين للشأن العراقى بعيداً بالقول أن المالكى بإمكانه استقطاب بعض القوى من داخل تيار “إنقاذ وطن” نفسه، موظفاً شبكة علاقاته القديمة ببعض القوى السنية والكردية الموجودة فيه. وفى هذه الحالة سيعمل المالكى على إقامة تحالفات برلمانية واسعة يتوقع منها أن “تحيد” التيار الصدرى وتخرجه نهائياً من المشهد السياسى، لكن هذا السيناريو بهذه الكيفية يعتمد تحقيقه على مدى قوة تحالفات الصدر مع القوى السنية الموجودة داخل تيار إنقاذ وطن، وتحالفاته مع القوى الكردية، ويلاحظ هنا تفتت تحالفاته مع الأخيرة على وقع انسحاب حزب الاتحاد الكردستانى من التيار وانضمامه لقوى الإطار، وذلك على خلفية دعم الصدر لمرشح الحزب الديمقراطى الكردستانى – ريبير أحمد- فى مواجهة مرشح حزب الاتحاد – برهم صالح – على منصب رئيس الجمهورية.
البديل الثالث، وهو أسوأ البدائل الممكنة؛ ويشير إلى حل البرلمان لنفسه، ودعوة رئيس الجمهورية إلى إجراء انتخابات مبكرة خلال 60 يوماً من تاريخ حل المجلس، نتيجة تجازو كافة المدد الدستورية الممنوحة له لانتخاب رئيس للدولة، ثم الانتقال لكافة الإجراءات التالية. لكن هذا البديل يتطلب أولاً اجتماع ثلث أعضاء البرلمان على الأقل وعددهم ( 110 عضواً)، وثانياً تقديم هذا الثلث لرئاسة البرلمان طلباً بحل المجلس، وثالثاً الموافقة على الطلب بأغلبية (50+1). هذا البديل يظل محكوماً بآليات حل البرلمان وفقاً لنص المادة 64 من الدستور وهى: أغلبية 50+1 من ثلث أعضاؤه على الأقل، أو بناءً على طلب من رئيس الوزراء وبموافقة رئيس الجمهورية. والآليات الثلاثة تخضع لمناورات القوى السياسية المتعارضة؛ فبالنسبة لشرط حضور ثلث الأعضاء على الأقل مرهون بقرار رئيس المجلس تعليق جلساته، والشرط الثانى منتفى لانتهاء ولاية شاغلى منصب رئيس الدولة ورئيس الوزراء الحاليين بناءً على مخرجات العملية الانتخابية الأخيرة. هذا بخلاف الصعوبات التى تواجه عملية الدعوة لإجراء انتخابات جديدة، والتى من بينها مطالبات قوى شيعية وازنة بتعديل قانون الانتخابات مجدداً، وإعادة تشكيل المفوضية العليا للانتخابات فى ظل الانتقادات الحادة التى وجهت إليها من قبل قوى سياسية مؤثرة خلال انتخابات 2021، والعزوف المتوقع من قبل المواطنيين عن المشاركة خاصة وأن انتخابات 2021 اتسمت بتدنى نسبة المقترعين بالقياس لانتخابات عام 2018 على سبيل المثال.
مشهد الانسداد السياسى فى العراق بمعضلاته السياسية الحالية، يدفع نحو منعطفات خطيرة تضع متطلبات وتطلعات المواطنين فى دولة وطنية غير طائفية على المحك مجدداً، نتيجة لغياب الإرادة السياسية لدى القوى الحزبية التى تمكنها من ترجمة عملية التفويض الشعبى الممنوحة لهم فى انتخابات 2021، إلى واقع ينتشل العراق من أزماته المتعددة والمتجذرة، بما يجعل من حالة الفراغ الدستورى الآنية دافعاً نحو مزيد من التعقيد والتأزم على كافة الأصعدة.
مركز الأهرام للدراسات