منذ ابتداء الغزو العسكري الروسي في أوكرانيا يوم 24 شباط/ فبراير الماضي، حرصت دولة الاحتلال الإسرائيلي على إطلاق لعبة توازنات بين موسكو وكييف من جهة، والولايات المتحدة والحلف الأطلسي وأوروبا من جهة ثانية، وتهيأ للساسة الإسرائيليين أنهم يستطيعون بالفعل اللعب على كل الحبال في آن معاً. وحين طلب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أن تبادر تل أبيب إلى تزويد بلاده بالأسلحة، كان الرد الإسرائيلي هو تقديم خوذات وسترات واقية من الرصاص للمشتغلين بأعمال الإغاثة المدنية.
اللعبة الإسرائيلية باللعب على كل الحبال تعثرت مؤخراً وأخذت خيوطها ترتخي أو حتى تتقطع
لكن اللعبة تعثرت مؤخراً وأخذت خيوطها ترتخي أو حتى تتقطع، ليس لأن حبل الكذب قصير غالباً ويقصر أكثر في حالة اتضاح مآسي الحرب والمجازر والمقابر الجماعية فحسب، بل كذلك لأن أصدقاء دولة الاحتلال في واشنطن والحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي ليسوا على قدر طويل من الصبر والتسامح إزاء ازدواجية المواقف الإسرائيلية. وهكذا اضطرت دولة الاحتلال إلى التصويت على قرار تعليق عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وردّت موسكو بمطالبة السلطات الإسرائيلية تسليم مجمع كنيسة ألكسندر نيفسكي الواقع في البلدة القديمة داخل القدس المحتلة لأنه ملكية روسية.
لكن انهيار اللعبة لم يقتصر على هذا النمط من الشد والجذب بل ذهب مؤخراً إلى مستوى غير مسبوق أقرب إلى الضرب تحت الحزام كما يُقال، حين أدلى وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بحديث إلى تلفزة إيطالية ألمح خلاله إلى أن دم أدولف هتلر قد يكون يهودياً، وليس هذا فقط بل جزم أن أسوأ المعادين للسامية هم اليهود أنفسهم. وساق لافروف هذه الأقوال على سبيل تفنيد الحجة التي يلجأ إليها عادة الرئيس الأوكراني زيلينسكي حين ينفي الصفة النازية عن حكومته، متسائلاً: كيف أكون نازياً وأنا يهودي؟
وبصرف النظر عن الخطأ والصواب في أقوال لافروف وكذلك في ردود أفعال المسؤولين الإسرائيليين التي تستصرخ عذابات اليهود في الهولوكوست، لا يخفى إلا على بسطاء العقول أن التراشق اللفظي بين موسكو وتل أبيب لا يمس اتفاقهما العميق حول مسائل جيوسياسية واستراتيجية أكثر جدوى من الخلاف حول دماء هتلر اليهودية. الدليل الأوضح هو التوافق التام بين القاذفات الإسرائيلية التي تقصف أينما شاءت في عمق الأراضي السورية، والرادارات الروسية المنتشرة في طول سوريا وعرضها والصامتة عن الاعتداءات الإسرائيلية بما يشبه التواطؤ.
وفي وسع الراغب بالمزيد حول طبائع النفاق هذه أن يلتمس دليلاً إضافياً من داخل منظومة التراشق اللفظي ذاتها، إذ أن الرد الإسرائيلي على تصريحات لافروف اقتصر حتى الساعة على استدعاء السفير الروسي لدى دولة الاحتلال، بهدف معلن وحيد هو أن يعود وحكومته إلى “فتح كتب التاريخ” كما جاء حرفياً على لسان وزير خارجية الاحتلال. ولن يكون عجيباً أن يتوجه السفير نفسه إلى حكومة الاحتلال بطلب مماثل حول فتح كتب التاريخ التي تسجّل جرائم الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين وانحدار الكيان المنهجي نحو طراز من التمييز العنصري الاستيطاني الأسوأ على مدار التاريخ.
القدس العربي