يزداد القلق الدولي يوماً تلو آخر كلما تقدمت الحرب الروسية في أوكرانيا. إطلاق الحروب أكثر سهولة من العودة منها، وهذه الحرب ليست استثناء. قلق مبرر من المدى الذي ستبلغه ومن الحدود التي يمكن أن تقف عندها. إلى أي مدى سيمضي الغرب في حربه العسكرية والاقتصادية على روسيا؟ وإلى أي مدى سيكون الغرب مستعداً للمخاطرة بحرب أطلسية – روسية على الأرض الأوروبية؟ وهل يلجأ بوتين إلى خياراته المدمرة، الكيماوية أو النووية، إذا أدرك أنه يواجه خطر الهزيمة في أوكرانيا مع ما يعنيه ذلك لصورة روسيا وموقعها الدولي؟
لم يعد هناك شك أن حسابات فلاديمير بوتين كانت خاطئة منذ 24 فبراير (شباط) الماضي، عندما اقتحمت دباباته الحدود الأوكرانية. لكن بوتين ليس الرجل الذي يعترف بالخطأ ويتراجع. بعد التدخل الغربي الواسع لدعم أوكرانيا عسكرياً واقتصادياً وسياسياً، صار هذا التراجع أكثر صعوبة، حتى لو شاء بوتين، أو تجرأ قائد روسي على أن يهمس في أذنه إيحاء من هذا النوع. المعركة الروسية لم يعد هدفها اليوم تحرير أوكرانيا من «النازية»، حسب مزاعم بوتين، ولا الدفاع عن حقوق المتكلمين بالروسية في الشرق الأوكراني، وهي حقوق كان يمكن الدفاع عنها بوسائل أخرى أقل ضرراً من الاجتياح. المعركة اليوم صارت تتعلق بروسيا نفسها، بموقعها على الخريطة الدولية وبنفوذها، وفوق ذلك صارت تتعلق بمصير فلاديمير بوتين نفسه على رأس القيادة الروسية.
الطريقة التي سيعود بها بوتين من هذه الحرب ستقرر إلى حد بعيد مصيره ومستقبل روسيا كما نعرفها اليوم. لم يعد القادة السوفيات من أفغانستان كما دخلوها، مع أن ما خسره بوتين من ضباط وجنود في أوكرانيا خلال أقل من ثلاثة أشهر بات يفوق ما خسره الجيش السوفياتي في قتاله في الجبال الأفغانية خلال عشر سنوات.
لا يخفي القادة الغربيون، من سياسيين وعسكريين، تصورهم للنهاية التي يريدونها لهذه الحرب. الرئيس جو بايدن لا يرى إمكانية لعودة علاقة مع روسيا، ولو في حدودها الدنيا، ما دام بوتين في الكرملين. ووزير الدفاع الأميركي لويد أوستن يقول بصراحة إن هدف العملية العسكرية الغربية في مواجهة روسيا هو منع أي قائد روسي في المستقبل من التفكير في اتخاذ قرار شبيه بما فعله بوتين في أوكرانيا. أي أنها حرب غربية لا تهدف إلى الانتصار فقط بل إلى معاقبة روسيا لسنوات طويلة وإبقائها في العزلة والحجْر الدولي إلى أن تقوم موسكو بتصحيح مسارها أو سلوكها.
عشرات مليارات الدولارات تنفق من الخزائن الغربية، والمكلفون من دافعي الضرائب في هذه الدول يعضون على أوجاعهم الاقتصادية وارتفاع تكاليف معيشتهم لهدف واحد، هو منع بوتين من الانتصار في حرب أوكرانيا. والسبب؟ أن العالم الغربي لا يثق بأن انتصار الرئيس الروسي في أوكرانيا، حتى لو تحقق، سيقف عند حدود هذه الدولة. وهو ما يدفع بولندا مثلاً للمغامرة بكل ما تستطيع لدعم أوكرانيا، ولفتح حدودها لما يقارب 5 ملايين ممن لجأوا إليها هرباً من الحرب، كما يدفع ألمانيا إلى إعادة تقييم حساباتها العسكرية ورفع مستوى الأسلحة التي تقدمها لأوكرانيا، وهو ما يفرض على دولتين اختارتا الحياد منذ الحرب العالمية الثانية، هما فنلندا والسويد، البحث في طلب الانضمام إلى الحلف الأطلسي، رغم المخاطر التي تحملها خطوة كهذه على علاقاتهما بالجار الروسي.
مقارنات كثيرة جرت بين ما يشهده العالم اليوم في الحرب المندلعة في الشرق الأوروبي وبين ما واجهه خلال أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962. والمقارنات تنطلق من المخاوف التي برزت آنذاك من التهديد النووي، وهو التهديد الذي يتكرر اليوم، بلهجات ومناسبات مختلفة على لسان بوتين ووزير خارجيته لافروف وعسكريين آخرين. غير أن ما هو مختلف بين الأزمتين أن قنوات الاتصال بين جون كيندي وخروتشيف لم تنقطع خلال الأزمة الكوبية، التي لم تصل إلى حد المواجهة المسلحة على أي حال، ودامت 13 يوماً، انتهت بسحب الصواريخ الروسية من الجزيرة في مقابل تنازل من كيندي بإزالة صواريخ أميركية في تركيا. وخرج الطرفان قادرين على المفاخرة بتحقيق انتصار أمام شعبيهما.
مثل هذا المخرج غير متاح في الأزمة الحالية. كل خطوط الاتصال الروسية – الغربية مقطوعة، رغم المكالمات المتوترة بين بوتين وماكرون التي لا تفضي إلى نتيجة، وتنتهي عادة بإساءات معنوية لفرنسا ولرئيسها. أفكر في أنجيلا ميركل وفي الدور الذي كان يمكن أن تلعبه في البحث عن «ماء وجه» لبوتين وللغرب، لإنقاذ العالم من الخطر الذي يواجهه. حتى الموقع المعنوي للبابا فرنسيس لم ينفع في توفير فرصة له للقاء بوتين، وانتهى الأمر بقطيعة دينية بين الفاتيكان ورأس الكنيسة الأرثوذكسية في موسكو، تذكر بالانشقاق الكنسي الكاثوليكي – الأرثوذكسي الذي يعود إلى مطلع القرن الحادي عشر الميلادي. لا شك أن بوتين تذكر مقولة سلفه ستالين رداً على طلب البابا للقائه: كم لدى الفاتيكان من دبابات؟
هذا الانقطاع في التواصل وانعدام المخارج الممكنة لتسوية النزاع في أوكرانيا يهدد أوروبا بحرب استنزاف طويلة الأمد، مع ما يرافقها من مخاطر التمدد إلى خارج الحدود الأوكرانية، كما تشير التطورات بين مولدوفا والمقاطعة الانفصالية في شرقها، أو التهديدات لفنلندا رداً على اتجاهها إلى طلب عضوية حلف الأطلسي.
لقد بلغت أضرار الحرب في أوكرانيا، وتكاليفها الباهظة بشرياً ومادياً، حداً صار يصعب فيه على هذا البلد القبول بتسوية مع موسكو تعيد الوضع إلى ما كان عليه قبل 24 فبراير. وبلغ الالتزام الغربي، السياسي والعسكري، في هذه الحرب حداً لم يعرفه العالم منذ الحرب العالمية الثانية. كما بلغ التورط الروسي حداً صار يصعب معه تراجع موسكو والقبول بالعودة إلى الوضع الذي كان في شبه جزيرة القرم وإقليم دونباس قبل الغزو.
الياس حرفوش
الشرق الاوسط