تشيرالتحليلات المتعلقة بالحرب في أوكرانيا إلى أنها مرشّحة ليس فقط للتصاعد، وإنما أيضا للاستمرار فترة طويلة، ما سيؤثر حتما، وإنْ بدرجات متباينة، على بقية الصراعات الدولية والإقليمية المحتدمة في مناطق أخرى، بما في ذلك إعادة تشكيل خريطة التحالفات والتفاعلات المتعلقة بمعظم هذه الصراعات. فروسيا، التي تقول إنها لجأت مضطرّة إلى استخدام القوة العسكرية ضد أوكرانيا لمواجهة تهديد وجودي شكله اقتراب حلف الناتو من حدودها الغربية، تبدو مصمّمة على مواصلة عملياتها العسكرية هناك إلى أن تتمكّن من تحقيق كامل أهدافها واستئصال التهديد الذي تتعرّض له، أيا كان الثمن المطلوب، حتى لو اضطرّت للدخول في حرب تستخدم فيها الأسلحة النووية. أما الولايات المتحدة، التي تقول إن الطموحات الشخصية للرئيس الروسي بوتين، المصرّ على إعادة فرض الهيمنة الروسية على مختلف المناطق التي كانت فيما مضى جزءا من الاتحاد السوفييتي، هي السبب الرئيسي وراء اندلاع هذه الحرب العدوانية غير المبرّرة، فتبدو بدورها مصمّمة ليس فقط على منع بوتين من تحقيق طموحاته وأهدافه، وإنما أيضا على إلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا، حتى لو اضطرّت لمساعدة الحكومة الأوكرانية الحالية لخوض حرب استنزاف بعيدة المدى في مواجهة القوات الغازية.
الولايات المتحدة قدّمت معلومات استخباراتية سمحت للقوات الأوكرانية باستهداف الطراد الروسي موسكفا وإغراقه في بحر البلطيق
نظرةٌ عابرة على الطريقة التي تدير بها الولايات المتحدة الصراع على الساحة الأوكرانية، بصرف النظر عن الطرف المتسبب في اندلاعه، تظهر، بوضوح، أننا لسنا إزاء محاولة لمساعدة دولة حليفة على مواجهة عدوان تتعرّض له، وإنما إزاء طرفٍ يعتبر نفسه مستهدفا بالصراع، وبالتالي شريكا فيه بشكل أو بآخر، فلم تكتف الولايات المتحدة بتقديم مساعدات إنسانية وعسكرية ضخمة لأوكرانيا، بلغت حتى حينه ثمانية مليارات دولار بالإضافة إلى ثلاثة أخرى قدّمها حلفاؤها الأوروبيون، وإنما قامت أيضا بتفعيل “قانون الإعارة والتأجير” الصادر قبيل مشاركتها الرسمية في الحرب العالمية الثانية، ومهد لدخولها في هذه الحرب، لتتيح الفرصة أمام أوكرانيا للاغتراف من مخازن السلاح الأميركي مباشرة، خصوصا أن إدارة بايدن طلبت من الكونغرس فتح اعتماد إضافي في الموازنة بمبلغ 30 مليار دولار لتمويل الاحتياجات العسكرية والإنسانية لأوكرانيا، وهو مبلغ ضخم بكل المعايير، يدل على أن الولايات المتحددة تستعد لحرب طويلة الأمد في أوكرانيا.
وتفيد تقارير صادرة عن جهات أميركية وغربية موثوق بها بأن الولايات المتحدة قدّمت أيضا معلومات استخباراتية سمحت للقوات الأوكرانية باستهداف الطراد الروسي موسكفا وإغراقه في بحر البلطيق، ومعلومات أخرى سمحت باستهداف جنرالات روس مشاركين في الحرب واغتيالهم، فإذا أضفنا إلى ما تقدّم أن الولايات المتحدة تمارس ضغوطا هائلة على كل من فنلندا والسويد، المحايدتين، للانضمام إلى حلف الناتو، كما تمارس ضغوطا هائلة، في الوقت نفسه، على حلفائها الذين لم يتّخذوا موقفا واضحا وقويا لإدانة روسيا، لتبين لنا بوضوح تام أن الولايات المتحدة تعد نفسها طرفا مباشرا في هذه الحرب التي تتعامل معها بمنطق “من ليس معي فيها فهو ضدي، وعليه أن يتحمّل العواقب”، وهو منطقٌ ستكون له تأثيرات مباشرة على الصراعات الدائرة في مناطق أخرى، وفي مقدمتها منطقة الشرق الأوسط.
تعجّ منطقة الشرق الأوسط بصراعاتٍ لا حصر لها، تمتد من اليمن جنوبا إلى ليبيا شمالا، ومن سورية ولبنان شرقا إلى المغرب غربا، غير أن مستقبل المنطقة سيتوقف في المقام الأول على مصير الصراعات التي انخرطت فيها الدول الإقليمية الكبرى في المنطقة، وتحديدا إيران وتركيا وإسرائيل. ولأن هذه الدول الثلاث توجد وتتفاعل معا على الساحة السورية، جنبا إلى جنب مع كل من روسيا والولايات المتحدة، يمكن القول إن الأزمة السورية أصبحت المرآة العاكسة لمعظم أزمات المنطقة، ومن ثم ستكون هي الأشدّ تأثرا بالتغيرات المحتملة والمتوقعة في التحالفات الإقليمية والدولية المرتبطة بالصراع الدائر حاليا على الساحة الأوكرانية. لذا علينا أن نتابع هذه التغيرات عن قرب، خصوصا المتعلقة بمواقف إيران وتركيا وإسرائيل. صحيحٌ أن وضع إيران، في علاقتها بطرفي الأزمة الأوكرانية، يختلف عن وضع كل من تركيا وإسرائيل، غير أن مواقف هذه الأطراف الثلاثة تجاه عديد من أزمات المنطقة تتقاطع وتتصادم حينا، وتتوازى وتتقارب حينا آخر، ومن ثم ستتأثر جميعها تأثرا كبيرا بالتطوّرات التي يتوقع أن تشهدها الأزمة الأوكرانية خلال الأشهر القليلة المقبلة، فإيران، والتي لا تزال تنظر إلى الولايات المتحدة باعتبارها “الشيطان الأكبر”، تربطها بروسيا علاقات وثيقة، يحرص الطرفان على الحفاظ عليها وتنميتها باضطراد، على الأقل بحكم عدائهما المشترك للولايات المتحدة. ومع ذلك، قد تبدو إيران حريصةً على عدم إظهار تأييدها للحرب على أوكرانيا، مكتفية بإبداء تفهمها الدوافع والأسباب التي حدت بروسيا لشنها. ولأن الاهتمام الإيراني في هذه المرحلة يبدو مركّزا على مفاوضات فيينا حول شروط العودة الأميركية إلى الاتفاق الخاص ببرنامجها النووي، فمن الطبيعي أن تتعامل إيران مع حرب أوكرانيا من منظور ما قد تتيحه من فرص، أو ما تفرضه من قيود لدعم أو عرقلة قدرتها على تحقيق ما تسعى إليه من أهداف في هذه المفاوضات. ولأن الصدام الدائر بين روسيا والولايات المتحدة على الساحة الأوكرانية يساعد على دعم الموقف الإيراني في مفاوضات فيينا، فمن الطبيعي أن يزداد التحالف الإيراني الروسي متانةً وعمقا كلما طال أمد الحرب، الأمر الذي سيؤدّي، بالضرورة، إلى تنسيق متزايد بين الطرفين بشأن الموقف من القضايا والأزمات الشرق أوسطية، خصوصا الأزمات المحتدمة في سورية واليمن ولبنان وفلسطين… إلخ.
حاولت تركيا استغلال علاقاتها القوية بكل من روسيا وأوكرانيا للقيام بدور الوساطة بينهما، لكن لم يكن في مقدور هذا التحرّك أن يكلل بالنجاح
الوضع يختلف كثيرا بالنسبة لكل من تركيا وإسرائيل، فتركيا عضو مهم في حلف الناتو. ورغم محاولاتها المستمرّة لاتخاذ نهج مستقل عن السياسة الأميركية في أمور كثيرة، وهو النهج الذي عمّقته خلافات أميركية تركية حول المسألة الكردية، وحول قضايا تفصيلية أخرى متعلقة بتطورات الأزمة في سورية، ما دفعها إلى التقارب مع روسيا إلى الحد الذي مكّنها من شراء منظومة الدفاع الصاروخية إس 400 التي أغضبت الولايات المتحدة، إلا أن هذا النهج المستقل لا يمكنه الذهاب بعيدا، خصوصا في القضايا المتعلقة بحلف الناتو، فارتباطات تركيا مع هذا الحلف راسخة جدا وعميقة جدا إلى الحد الذي يجعل الانفكاك من إسار سياساته محفوفا بالمخاطر. ولإضفاء قدر من التوازن والاستقلالية حول سياستها تجاه الأزمة الأوكرانية، حاولت تركيا استغلال علاقاتها القوية بكل من روسيا وأوكرانيا للقيام بدور الوساطة بينهما، لكن لم يكن في مقدور هذا التحرّك أن يكلل بالنجاح، خصوصا أن ارتباطاتها بحلف الناتو دفعتها، من ناحية، إلى تقديم مساعدات عسكرية لأوكرانيا، كما دفعتها، من ناحية، إلى التجاوب مع الضغوط الأميركية الهادفة إلى إطالة أمد الأزمة، وليس تسويتها. لذا يمكن القول إن إطالة أمد الأزمة الأوكرانية يعقّد الخيارات المتاحة أمام السياسة الخارجية التركية، ويدفعها تدريجيا للكشف عن انحيازها الواضح والعميق للمعسكر الغربي، ما سينعكس حتما، وبطريقة سلبية، على المكانة الإقليمية لتركيا، ويعرّي مواقفها الحقيقية تجاه أزمات شرق أوسطية عديدة، خصوصا ما يتعلق منها بالأزمة السورية وبالقضية الفلسطينية.
لم يكن غريبا أن ينكشف تدريجيا الموقف الإسرائيلي الحقيقي من الأزمة الأوكرانية، وأن يتضح اصطفاف إسرائيل الفعلي والكامل مع الموقف الأميركي
يبدو المأزق الإسرائيلي في الأزمة الأوكرانية أكثر وضوحا من نظيره التركي. فقد سعت إسرائيل دوما، ومنذ سقوط الاتحاد السوفييتي، لتوثيق علاقتها بروسيا الاتحادية، وهو ما نجحت فيه إلى حد كبير. وبعد قرار روسيا التدخل عسكريا في الأزمة السورية لدعم نظام الرئيس بشار الأسد، ازدادت حاجة إسرائيل للتنسيق الأمني معها، حتى لا يصبح الوجود العسكري الروسي في سورية عائقا يحول دون تمكينها من محاصرة ومنع انتشار النفوذ الإيراني في سورية، أو تعقب الإمدادات العسكرية الإيرانية لحزب الله عبر الأراضي السورية وضربها، وهو ما نجحت فيه أيضا إلى حد كبير. لذا، حين اندلعت الأزمة في أوكرانيا، حاولت إسرائيل تجنّب إدانة روسيا، وتظاهرت باتخاذ موقف محايد، بل سعت، في البداية، للقيام بدور الوساطة بين روسيا وأوكرانيا، مستغلة العلاقات الجيدة التي تربطها بالطرفين، غير أنه لم يكن بمقدورها أيضا أن تذهب بعيدا في هذا الاتجاه. صحيح أنها ليست عضوا في حلف الناتو، مثل تركيا، لكن علاقتها الخاصة جدا بالولايات المتحدة تعد أقوى بكثير من علاقة الولايات المتحدة بأي دولة أخرى، بما في ذلك الدول الأعضاء في الحلف. لذا لم يكن غريبا أن ينكشف تدريجيا الموقف الإسرائيلي الحقيقي من الأزمة الأوكرانية، وأن يتضح اصطفاف إسرائيل الفعلي والكامل مع الموقف الأميركي، الأمر الذي أدّى إلى إغضاب روسيا، وهو ما عكسته تصريحات وزير الخارجية الروسي، لافروف، أخيرا، عن علاقة زيلنيسكي بالنازيين الجدد في أوكرانيا وعن أصول يهودية لهتلر! وقد أشارت تقارير إلى أن إسرائيل تحاول استغلال الأزمة الأوكرانية للتأثير على الموقف الأميركي في مفاوضات فيينا، ودفعه نحو مزيد من التشدّد تجاه إيران، بل ولمحاولة منع الولايات المتحدة من العودة إلى هذا الاتفاق، وربما جرّها إلى التنسيق معها لتوجيه ضربة عسكرية مشتركة، تأمل أن تقضي نهائيا على البرنامج النووي الإيراني. (راجع مقال الكاتب “إيران وإسرائيل والعودة الأميركية إلى الاتفاق النووي”، في “العربي الجديد”، 30/4/2022).
أخلص من هذا التحليل إلى أن إطالة أمد الأزمة الأوكرانية سيترتب عليها مزيد من الاستقطاب الدولي والإقليمي بين روسيا والقوى المؤيدة لها، وبين الولايات المتحدة والقوى المؤيدة لها، ما سينعكس، بالضرورة، على طريقة إدارة الأزمات والصراعات المحتدمة في منطقة الشرق الأوسط، خصوصا أن إيران والقوى الشرق أوسطية المتحالفة معها مرشّحة للانخراط بشكل أكبر في المحور الداعم لروسيا، وأن تركيا وإسرائيل والقوى الشرق أوسطية المتحالفة معهما مرشّحة للانخراط بشكل أكبر في المحور الداعم للولايات المتحدة وحلف الناتو. ومن شأن هذا الاستقطاب أن يعجّل بانفجار صراع إقليمي واسع في المنطقة، خصوصا في ظل انعدام أفق تسوية القضية الفلسطينية والأزمة العميقة التي يمرّ بها النظام الحاكم في إسرائيل في الوقت الراهن.
حسن نافعة
العربي الجديد