برلين – شكل النجاح الاقتصادي الألماني بعد الحرب العالمية الثانية ما عُرف بالمعجزة الاقتصادية، واستطاعت ألمانيا أن تعيد مصانعها إلى الحياة مرة أخرى، وعملت على أن تكون “الماكينة الألمانية” مثالا للقوة والجودة، لكن هذا النجاح لم يكن ليتحقق فقط على أيادي الشعب الألماني فقط، بل كان ذلك يعتمد على الإدارة واليد العاملة، ولسد النقص في الشق الثاني كان الاعتماد على العمالة الوافدة من إيطاليا وشرق أوروبا وتركيا.
وظلت الصناعات الألمانية تحقق نجاحات شتى وكذلك النمو الاقتصادي المضطرد؛ حتى بات الاقتصاد الرقم واحد في أوروبا، ونتيجة هذه النجاحات فقد صنعت ألمانيا الاتحاد الأوروبي مع مجموعة شركاء، وتكفلت أيضا بمنع انهيار اليورو بعد 2009 وانتشال اقتصادات دول من الإفلاس ومنها اليونان وإسبانيا والبرتغال، فضلا عن مشكلات بنيوية في الاقتصاد الإيطالي.
ورغم هذا؛ فإن ثمة مشكلات كبرى في الاقتصاد الأقوى، ويأتي على رأسها النقص الهائل في اليد العاملة أو ما بات يصرح به عن حاجة ألمانيا لمليونين من اليد العاملة وافدة، أو ما صرح به قبل ذلك رئيس الوكالة الاتحادية للتوظيف بألمانيا ديتليف شيل في 24 أغسطس/آب 2021 أن ألمانيا تحتاج إلى نحو 400 ألف مهاجر ماهر سنويا لتعويض النقص في اليد العاملة.
كلمة السر في الهرم السكاني
ويقول نبيل شبيب الخبير في الشأن الألماني للجزيرة نت إنه رغم أن ألمانيا ذات كثافة سكانية عالية، فإنها بلد صناعي يفتقر إلى الطاقة والمواد الخام، حيث إن الاعتماد على “الإدارة واليد العاملة” يبقى كبيرا.
ويضيف أنه بقدر ما استطاع البلد استئناف تطوير نفسه اقتصاديا بعد الحرب العالمية الثانية؛ كانت حاجته إلى العمالة الوافدة كبيرة من البداية، في وقت تختلف ألمانيا عن الدول الاستعمارية التقليدية؛ فليس لديها مثل فرنسا وبريطانيا جاليات أجنبية مرتفعة العدد نسبيا.
ومن المفترض أن يوضع في الحسبان أن الجيل الثاني بعد الحرب يختلف عن أسلافه، حيث أصبح يعرف بـ”جيل 68″؛ في إشارة إلى ما عرف بثورة الطلبة عام 1968، وأهم نتائج هذا الوضع حدوث خلل في هرم الأعمار السكاني، أي نقص نسبة الكفاءات العاملة في سن الإنتاج مقابل ازدياد الأكبر سنا، في ظل اختلاف النظرة إلى الحياة الاجتماعية ولا سيما تكوين الأسرة، علاوة على ارتفاع متوسط الأعمار لتحسن المعطيات الصحية والطبية.
وقد انخفضت نسبة المواليد إلى ما يعادل حسابيا 1.5 مولود لكل امرأة. ولم تعد الولادات السنوية (9.5 بالألف) تعوض عن الوفيات (11.5 بالألف)، فيما يعمل حوالي 75% من النساء في سن العمل (20 – 64 سنة).
ولم تنجح الدولة الألمانية في إدارة مجالين على الأقل، أولهما متابعة التطورات التقنية والإلكترونية في العصر الشبكي، حيث لم تعد تحتل المراتب الأولى عالميا، الأمر الذي أدى -على سبيل المثال- إلى حدوث نقص فادح في التدريس عن بعد خلال فترة وباء كوفيد-19.
ورغم أن عدد المسنين (فوق سن التقاعد) العاملين تضاعف من 7% إلى 15% على الأقل، فإن نسبة غير العاملين من المسنين إلى جانب نسبة الأطفال دون سن العمل؛ لا تزال في ازدياد مستمر، مما أوجد ثغرات في مجالات عديدة.
الكفاءات المطلوبة
أما عن الكفاءات العاملة المطلوبة، فقال شبيب إن هناك مجموعة من التصنيفات يمكن أن نحدد 4 منها؛ الأولى الرياضيات، والثانية القطاعات البرمجية، والثالثة العلوم الطبيعية والطب والرعاية الصحية، والرابعة الكفاءات التقنية من حيث الإعداد والخبرة العملية وإن غاب التخصص الجامعي.
نبيل شبيب الخبير في الشأن الألماني: رغم أن ألمانيا ذات كثافة سكانية عالية فإنها بلد صناعي يفتقر إلى الطاقة والمواد الخام (الجزيرة)
ووفقا لبيانات وزارة الداخلية الألمانية فإنه “مع تقاعد جيل طفرة المواليد في ألمانيا (من 1946 إلى 1964) من سوق العمل، سيزداد الوضع في هذا المجال سوءا بشكل حاد اعتبارا من عام 2030”.
وفي رأي الدكتور المهندس سامر رحال مدير العمليات التكنولوجية في مؤسسة “إندوراما” (Indorama) للبتروكيميائيات فإنه إذا كانت ألمانيا تريد الحفاظ على نموها الاقتصادي الإيجابي واستقرارها الراسخ والمحافظة على سلامة أنظمة الضمان الاجتماعي الخاصة بها بالشكل الحالي، فهي بحاجة إلى متخصصين مدربين جيدا من الخارج.
ووفقا لوزارة الداخلية “أصبح نقص العمال المهرة وقلة المتقدمين يمثلان خطرا على الاقتصاد والشركات الألمانية”.
وعن مكامن النقص أضاف رحال أنه في الوقت الراهن هناك نقص حاد في التقنيين والمهندسين والأطباء والمتخصصين في تكنولوجيا المعلومات وطواقم الرعاية الاجتماعية والتمريض؛ ولهذا السبب، أدخل في ألمانيا قانون هجرة الكفاءات حيز التنفيذ اعتبارا من الأول من مارس/آذار 2020.
وبالمختصر يهدف قانون هجرة العمالة الماهرة أو الكفاءات إلى تحقيق وصول أسهل للعمالة الماهرة الأجنبية من دول خارج الاتحاد الأوروبي في والوصول إلى آفاق أفضل للاقتصاد الألماني.
الدكتور سامر رحال: إذا كانت ألمانيا تريد الحفاظ على نموها الاقتصادي الإيجابي فهي بحاجة إلى متخصصين مدربين جيدا من الخارج (الجزيرة)
تفاصيل عن قانون هجرة الكفاءات
يؤمن هذا القانون الإطار القانوني للعمال المهرة الذين يحتاجهم الاقتصاد الألماني بشكل عاجل. وقد أكد الدكتور سامر رحال أن حاجة ألمانيا هي في الدرجة الأولى لخريجي الجامعات أو المتخصصين الحاصلين على تدريب مهني مؤهل وعالٍ، وليس للعمالة وذوي المهارات المنخفضة.
ووفقا للوائح المنظمة الخاصة بهذا القانون، يمكن للعمال المهرة الحاصلين على تدريب مهني مؤهل؛ القدوم الآن إلى ألمانيا بشكل مؤقت أو لفترة محدودة للبحث عن وظيفة.
ويؤكد هذا القانون أنه يجب على المتخصصين المؤهلين من الخارج أن يجدوا طريقهم إلى سوق العمل بسرعة وبالحد الأقل من الإجراءات البيروقراطية ، حيث يسمح القانون بتنفيذ جميع الإجراءات الضرورية في هيئة الأجانب المسؤولة أو السفارات في الخارج بمبادرة من صاحب العمل، أي توفير عقد العمل المناسب مع توفير مواعيد نهائية آمنة للعمل وللإقامة في ألمانيا بعد الوصول.
الجنسيات المطلوبة وشروط الاستقدام
وحول ما يقال عن تفضيل جنسيات بعينها في سوق العمل الألماني، قال السياسي والبرلماني الألماني السابق جمال قارصلي للجزيرة نت “لنقر أولا بأن سوق العمل الألماني يحتاج ليد عاملة في كل القطاعات، ولا سيما في القطاع الطبي؛ حيث هناك عجز كبير، فضلا عن حاجة السوق إلى التقنيين وسائقي الشاحنات”.
ويضيف قارصلي “لا يمكن الحديث عن جنسيات مفضلة، وما يقدم من ميزات للمهاجرين الأوكرانيين هو نتيجة ظرف سياسي وإنساني. وحين فتحت ميركل أبواب ألمانيا للاجئين السوريين لم يكن فقط من جانب إنساني فحسب؛ بل أيضا لنقص حاد في اليد العاملة، ولكن ذلك أيضا يحتاج لأن تطور ألمانيا قوانينها الإدارية من أجل استقبال العمالة. وثمة من يقول إن حاجة ألمانيا إلى البرمجيات قد يضطرها للاستعانة بعمالة من الهند أو أماكن أخرى”.
لذلك نستطيع القول إن الجنسيات المطلوبة هي التي تأتي لتستقر في ألمانيا وليست كالجنسيات الأوروبية التي وفدت من شرق أوروبا؛ حيث يعمل أبناؤها ثم يعودون لبلادهم، وبالتالي لا تُحل المشكلة بل تزداد تعقيدا.
وعن شروط الاستقدام قال قارصلي إن هناك قانونا للهجرة سنته ألمانيا، ومختصره أن الهجرة:
تتم من خلال التواصل مع السفارات الألمانية.
على الشخص الراغب بالهجرة والعمل في ألمانيا أن يقدم نوع مهنته.
وأن يتمتع بمستوى لغوي ألماني محدد.
ويمنح تأشيرة لمدة 6 أشهر، وفي حال وجد عملا تجدد له الإقامة، وإن لم يجد فإنه يعود إلى بلده.
المصدر : الجزيرة