لا خير يرجى من دور الأمم المتحدة في ليبيا

لا خير يرجى من دور الأمم المتحدة في ليبيا

لا تزال الأمم المتحدة تمعن في توفير مدركات الفشل في التعامل مع الأزمة الليبية، وتمارس سياسة الإنكار بالتوغل في لعبة التنصل من دورها السلبي في الوضع الليبي منذ العام 2011، عندما شرّع مجلس الأمن التدخل العسكري المباشر للقوى الكبرى في البلد الغني بشمال أفريقيا بالاعتماد على تقارير إعلامية تبين لاحقا أنها كانت مفبركة على مقاس أصحاب المصلحة من عاصفة ما سمي بالربيع العربي، وما تلا ذلك من خيبات متتالية في المشاريع الأممية التي أدارها سبعة مبعوثين أغلبهم اختاروا الفرار من جحيم الضغوط الدولية، والغربية بالأساس، وذلك عبر الاستقالة المبررة لمزاعم الظروف الصحية أو الأسرية كما حدث مع غسان سلامة ويان كوبيتش.

لقد تحولت الأمم المتحدة إلى غطاء للفساد الذي يحرّك أطماع الدول الفاعلة في الملف الليبي والذي تديره من تحت طاولة المفاوضات والشعارات المعلنة، مساومات المصالح والصفقات الخفية التي تعمل على نهب ثروة الليبيين من خلال شبكات عابرة للحدود، تماما كما حدث في العراق بعد غزوه عام 2003، تأسيسا على أن النفط يبقى المنتج الأكثر قابلية للنهب المباشر أو غير المباشر، وبالتالي فإن الشبكات الدولية المتسترة بالمسؤوليات الرسمية والقرارات السياسية في دولها، ولاسيما الغربية منها، تتقاسم الغنيمة مع النخب المحلية الطارئة على السلطة والموغلة في الفساد، بينما تكتفي الأمم المتحدة بالمشاهدة، وبتمديد الفترات الانتقالية، وبمنح الشرعية لمن لا يستحقونها من محترفي سياسة التبعية وخادمي مصالح القوى الخارجية وناهبي المال العام.

ولا يمكن الحديث عن دولة تدخلت فيها الأمم المتحدة أو الولايات المتحدة أو بعض العواصم الغربية الأخرى، إلا واستوجب التطرق إلى الفساد الذي يكون قد ضربها، والنهب الممنهج الذي استهدف ثرواتها، والنخب التي تشكلت خصيصا لتدور في فلك الغزاة، والتي تم إيصالها إلى السلطة لتقوم بدور محدّد، وهو التنازل عن سيادة أوطانها، والدوس على تطلعات شعوبها، والتفريط في مقدرات بلدانها، وهو ما حدث في ليبيا.

الأمم المتحدة تواصل تلاعبها بأعصاب الليبيين، وتستمر في حمايتها للحيتان الكبيرة العابثة بالمؤسسات السيادية تنفيذا لمصالح واشنطن ولندن

لننظر حولنا، ولنتأمل ماذا فعلت ستيفاني ويليامز التي جاءت إلى ليبيا كدبلوماسية في سفارة بلدها بعد تجارب عدة في دول المنطقة وإتقانها اللغة العربية، ثم دفعت بها واشنطن إلى البعثة الأممية حيث يمكن أن تقوم بدور مهم تحت غطاء المجتمع الدولي، ومن هناك بدأت تتحرك بالكثير من الدهاء لسبر أغوار الفاعلين الأساسيين، وهو ما نجحت فيه نسبيا، واتجهت للمساهمة في تشكيل رؤية الولايات المتحدة للوضع في ليبيا، ثم إلى تنفيذ خياراتها التي تهدف من ورائها إلى السيطرة على أي سلطة قادمة، وهو ما تبين بالخصوص من خلال التوازنات التي اعتمدتها في اختيار أعضاء ملتقى الحوار السياسي، وخاصة من حيث المراهنة على الإخوان والدائرين في فلكهم والقادمين من وراء الحدود ممن لا يبدون تعاطفا مع أبناء وطنهم المنكوبين بالفقر والعوز والمرض وفقدان الأمن والاستقرار.

كان واضحا أن ويليامز ومن ورائها الأمم المتحدة والولايات المتحدة، قد فشلت فشلا ذريعا في تحصين الملتقى من الفساد الذي ضربه بقوة حيث بيعت الأصوات في مزادات اجتماعات تونس وجنيف، وفي الكشف عن نتائج التحقيق الذي أمرت به وأعده خبراء مستقلون، وفي تنظيم انتخابات رئاسية وبرلمانية في الموعد الذي حددته بالرابع والعشرين من ديسمبر 2021، وفي أن تكون حكومة المهندس عبدالحميد الدبيبة التي كانت عرّابتها حكومة وحدة وطنية كما زعمت خلال اجتماعات جنيف في أوائل فبراير 2021.

وكما هو بارز للجميع، فإن خارطة الطريق التي حددتها ويليامز بمدة 18 شهرا، قد انتهت في الحادي والعشرين من يونيو الجاري دون أن تحقق شيئا من أهدافها المعلنة، وبالمقابل أحاطت بها شبهات النهب الممنهج لمقدرات الليبيين في سياقات الممارسة الشعبوية المقيتة، وانتهت بالمشهد السياسي إلى التقسيم من جديد، وبملف الميليشيات والمرتزقة والقوات الأجنبية إلى الطي على أساس تجاهل الأمر إلى أجل غير مسمى. ربما إلى حين التخطيط لإعادة تقسيم المصالح في المنطقة بين القوى الكبرى.

ليس صدفة أن ويليامز وضعت يدها على الملف الليبي بعد الاستقالة الغامضة للمبعوث الأممي غسان سلامة في بداية مارس 2020، ومارست سلطتها عليه بما زاد من تأجيج الموقف، وعادت في جولة ثانية بعد استقالة المبعوث الأممي يان كوبيتش في ديسمبر 2021، وكان لافتا أن عجز مجلس الأمن عن اختيار مبعوث جديد يروق لواشنطن ولندن، أدى إلى الدفع بالدبلوماسية المخضرمة إلى الواجهة، ليس كرئيس للبعثة باعتبار ذلك سيكون مرفوضا من عواصم مثل موسكو وبكين، ولكن كمستشارة سياسية للأمين العام مكلفة بالملف الليبي، وهي وظيفة تفضح طبيعتها من خلال الوقوف على سيطرة واشنطن على رئاسة المنتظم الأممي، وتكشف أن الأمم المتحدة لم تكن يوما من الأيام جدية في تعاملها مع الأزمة الليبية، وإنما هي تنفذ من خلال إدارتها مصالح القوى الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة، وتتعامل مع الملف من منطلق التوازنات الدولية القائمة، ولاسيما في ظل الصراع مع موسكو.

ليس صدفة أن ويليامز وضعت يدها على الملف الليبي بعد الاستقالة الغامضة للمبعوث الأممي غسان سلامة، ومارست سلطتها عليه بما زاد من تأجيج الموقف

وقفت الأمم المتحدة وراء اتفاق الصخيرات الذي جاء بسلطة الوفاق لتقود مرحلة انتقالية مدتها 18 شهرا، ووفرت لها لاحقا غطاء شرعيا لمدة أكثر من خمس سنوات، وعملت في تلك الأثناء على إعادة تدوير الإسلاميين المنهزمين في انتخابات يونيو 2014، وأغمضت عينيها عن التدخل الخارجي والتسليح الأجنبي وجلب المرتزقة ونهب الثروات وإرهاب الميليشيات، وهاهي اليوم تعمل على تمكين حكومة الدبيبة من حصص إضافية بعد انتهاء ولايتها وحجب الثقة عنها من قبل مجلس النواب وعجزها عن الإيفاء بالتزاماتها، وترفض الاعتراف بتوازنات القوى في الداخل وبالشرعية الشعبية وحقيقة ما يجري على الأرض، فقط لأن حكومة الاستقرار التي يرأسها فتحي باشاغا والتي تبسط نفوذها على أكثر من 70 في المئة من المساحة الجملية للبلاد ومن الحدود المشتركة مع دول الجوار وعلى منابع الثروة النفطية، قد تكون بحكم علاقاتها بالبرلمان وقيادة الجيش وبالفاعليات الاجتماعية الأساسية ونزوعها نحو المصالحة، أكثر ميلا لاستعادة السيادة الوطنية وللتوازن في علاقاتها الخارجية وللجدية في محاربة الفساد، بينما تبدي حكومة الدبيبة منزوعة الشرعية استعدادها ليس فقط للتفريط في مصالح بلدها، ولكن كذلك للارتماء في أحضان اللوبيات المشبوهة في الخارج واعتماد دبلوماسية الصفقات والمساومات للبقاء في الحكم، وللتحالف مع قوى التطرف والإرهاب في الداخل والتمترس وراء مفتيها الصادق الغرياني الذي يمثل عنوانا لتمزيق المجتمع والدفع نحو المزيد من الخراب وسفك الدماء والترويج للعودة إلى مربع الفوضى. ولعل موقف وزارة خارجية الدبيبة الأخير المعادي لمصر وقيادتها ليس سوى مؤشر على تلك التحالفات، فالغرياني الذي يختصر ظاهرة الإسلام السياسي في ليبيا هو ذاته المعروف بقربه من تنظيم القاعدة ومن قادته المحليين ومن بينهم عبدالحكيم بالحاج العائد إلى طرابلس تحت جناح الدبيبة وحكومته.

اليوم، تواصل الأمم المتحدة تلاعبها بأعصاب الليبيين، وتستمر في حمايتها للحيتان الكبيرة العابثة بالمؤسسات السيادية تنفيذا لمصالح واشنطن ولندن، وتعمل من وراء الستار على عرقلة كل ما يخدم الشعب الليبي طالما أنه لا يخدم أصحاب القرار الأجنبي الذي تتبناه، وحتى الانتخابات تم تأجيلها لأنها كانت ستأتي بنتائج لا ترضي أطرافا دولية بعينها، وكذلك المصالحة الوطنية لن تنجح إذا أعادت إلى الواجهة من لا يخدم مصالح هذا الطرف أو ذلك. ومن الطبيعي ألا تعترف الأمم المتحدة بحكومة باشاغا لأن رئيسها رجل قوي، ويعرف ماذا يريد، ولأنها يمكن أن تحقق المصالحة الفعلية بين الليبيين، ويمكن أن تتجه بالفعل إلى حل الميليشيات وجمع السلاح ومحاربة الفساد.

الأمم المتحدة في ليبيا هي عنصر للتفكيك وليس للتوحيد، ولتأبيد الأزمة وليس لحلها، وهي في كل الحالات لا تتولى سوى تنفيذ أجندات أطراف بعينها ترى أن الحل في ليبيا إما أن يكرس هيمنتها أو لا يكون.

العرب