المنطقة بين قمتي جدّة وطهران

المنطقة بين قمتي جدّة وطهران

هل هي مصادفة أن تختار الولايات المتحدة مدينة جدة لعقد قمّة، أقلّ ما يقال فيها إنها ستؤسّس لمساراتٍ جديدة في مستقبل المنطقة، ويختار الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، طهران لما يمكن أن يكون رداً على الحراك الأميركي في المنطقة؟

لهذه الأماكن رمزية كبيرة، فلو أنّ أميركا وأصدقاءها مثلاً عقدوا قمتهم في أبوظبي، وفي المقابل عقد الطرف الآخر قمته في أنقرة، هل سيكون لهاتين القمّتين كلّ تلك الحمولات السياسية، فلا الإمارات تطرح نفسها قائدة للشرق الأوسط، ولا تركيا تطالب بنظام دولي جديد تتراجع فيه الهيمنة الأميركية.

يطرح الحراك الدولي الذي تشهده المنطقة السؤال عمّا إذا كان الشرق الأوسط عاد ليصبح بيضة القبّان في السياسة الدولية، بحيث تصبح مساحة النفوذ ودرجة التأثير التي يمتلكها الفاعلون الدوليون في هذه المنطقة مقياساً وانعكاساً لتراتبية القوى في النظام الدولي، أم أنّ الأمر لا يعدو كونه مسألة ظرفية متعلقة بأزمة الطاقة، وعندما تنتهي هذه الأزمة، برفع العقوبات عن روسيا أو إيجاد بدائل طاقوية، سينفضّ المولد ويتابع الشرق الأوسط مساراته القديمة، بوصفه قوة هامشية خارج سياقات التأثير العالمية؟

لا يمكن نكران حقيقة وجود فاعليةٍ عربيةٍ، لكنها لا تزال في طور الولادة، إذ استطاعت الدول العربية، الخليجية تحديداً، صناعة ديناميات جديدة وضعتها في قلب المعادلات الدولية؛ تحرّكات قطر في ملف الاتفاق النووي، والمواقف من الحرب الأوكرانية، وأزمة تراجع كميات النفط في السوق الدولية، وهذه الفاعلية هي التي دفعت الفاعلين الدوليين الكبار إلى محاولات استقطاب الدول العربية إلى جانبها. لكن يبدو أن الأطراف العربية لم تصل بعد إلى فهم جوهر السياسات الدولية الحقيقي، ولا الأهداف المتوسطة والبعيدة التي تسعى تلك الأطراف إلى تحقيقها، في وقتٍ تركّز غالبية الأطراف على تحقيق مكاسب سريعة وآنية، في الغالب، ستحصل عليها، لكنها لن تكون ذات قيمة كبيرة بعد مرور وقتٍ قد لا يكون بعيداً. ويستدعي فهم ذلك، بدرجة كبيرة، فهم المعادلات المُراد صناعتها من تحرّكات واشنطن وموسكو في المنطقة، ومعرفة ما إذا كانت هذه المعادلات تتناسق مع السياقات التي ترسمها دول المنطقة لمستقبل فاعليتها وأدوارها الإقليمية والدولية.

استطاعت الدول العربية، الخليجية تحديداً، صناعة ديناميات جديدة وضعتها في قلب المعادلات الدولية

تسعى إدارة الرئيس جو بايدن من حراكها الشرق أوسطي إلى تحقيق جملة من الأهداف، التي لم تعد خافية على أحد: إعادة ضبط إيقاعات المنطقة، التي باتت تشكّل الفوضى إحدى أهم سماتها، على وقع الصراع الدولي الذي باتت نُذره ترتسم في أفق السياسة الدولية. دمج إسرائيل، بأي شكل، ضمن النسق الأمني للمنطقة، في مرحلة أولى، على أن تكمل دول المنطقة نفسها استكمال الاستحقاقات الأخرى. إضعاف أوراق إيران ودفعها إلى خفض سقف طلباتها في مفاوضات النووي، وسيترك الباب موارباً بشدّة لعبور إيران منه إلى هذه البنية قيد التشكّل، بسبب الحاجة الأميركية إلى عودة النفط الإيراني إلى الأسواق الدولية.

على الطرف الآخر، يقرأ الرئيس الروسي بوتين الحراك الأميركي، بالإضافة إلى كونه محاولة لإعادة هندسة الشرق الأوسط، أنه استراتيجية أميركية تهدف إلى حرق أوراق روسيا وإضعاف تأثيرات قوّة ورقة الطاقة التي تمنحها هامش مناورة واسعاً في حربها الأوكرانية، وتعطيها القدرة على الاستمرار في الحرب حتى تحقيق أهدافها في أوكرانيا، وربما على صعيد إعادة بناء موازين القوّة في أوروبا والعالم.

بالطبع، ثمّة فرق كبير بين قدرات واشنطن وموسكو وأدواتهما التأثيرية في الشرق الأوسط، إذ يقتصر التأثير الروسي على الحضور العسكري في سورية، والذي يشكّل محور فعاليتها، وارتكازاً على هذا الحضور نسجت موسكو تفاعلات واسعة مع دول الإقليم، وتحديداً مع تركيا وإيران، في حين تتغلغل واشنطن في نسج المنطقة وبناها الأمنية والعسكرية والتقنية والاقتصادية، الأمر الذي يضعها في موقع تفضيلات أطراف المنطقة في أي علاقة تحالفية.

بين قمتي جدّة وطهران متغيرات متوقعة على صعيد التحالفات والعلاقات بين الفاعلين في المنطقة

لكن، ثمّة ما يجب قراءته تحت سطح التحرّكات الجارية، وخصوصاً في شقها الأميركي، حيث يمهّد التحرك الأميركي إلى الخروج من المنطقة، بعد أن يُصار إلى ضبط إيقاعاتها وضمان عدم استقطابها من الصين وروسيا، مؤشّرات عديدة تؤيد هذه الفرضية، إذ يبدو أن الإدارات الأميركية استسلمت أمام فكرة استحالة تغيير الأوضاع السياسة في المنطقة، وضعف احتمالات نجاح برامجها في الديمقراطية، وخصوصاً بعد الفوضى التي صنعتها الأنظمة الاستبدادية بعد الربيع العربي.

أما روسيا، ورغم ما يطرحه إعلامها من أن النظام الدولي مقبلٌ على تغيرات هيكلية، وأن زمن الأحادية القطبية إلى الزوال، لكن سلوكها، وخصوصاً على صعيد علاقاتها الخارجية، ينطوي على إحساسٍ بالضعف والتراجع، وهي لا تملك سوى الرهانات، أو حتى التمنيات، للإبقاء على صيغ العلاقات مع دول المنطقة كما كانت عليه في مرحلة ما قبل الحرب الأوكرانية.

بين قمّتي جدّة وطهران، ثمّة متغيرات متوقعة على صعيد التحالفات والعلاقات بين الفاعلين في المنطقة، لكنّ المؤكّد أن زخم قوّة اللاعبين الكبار في تراجع، وهو ما يمنح دول المنطقة فرصة للخروج من ظل العلاقات التبعية التي طالما وسمت علاقات دول المنطقة باللاعبين الخارجيين، لكن ثمّة فرصة مهمة تنطوي عليها هذه التطورات، إذا أحسنت دول المنطقة استثمارها، واستطاعت تثبيت أنفسها فواعل مؤثرة في النظام الدولي الحالي، أو الذي على قيد التشكّل.

العربي الجديد