في جميع أنحاء منطقة اليورو يمكن أن يؤدي وقف تدفقات الغاز الروسي إلى خفض نمو الناتج المحلي الإجمالي بمقدار 3.4 نقطة مئوية، ورفع التضخم بمقدار 2.7 نقطة مئوية، وفقا لبنك “يو بي إس.”. وفي ألمانيا ستكون الضربة أسوأ.
- * *
إذا كنتَ قد قضيت الأيام القليلة الماضية بينما يتم سلقك حياً على شاطئ البحر الأبيض المتوسط أو تحميصك ببطء في شوارع برلين أو لندن أو روما وسط موجة حر، فقد يكون الطقس البارد هو آخر شيء قد يدور في ذهنك. ولكن، لا تخطئن؛ فالشتاء مقبل، وهو يعد بأن يكون وحشيًا ومثيرًا للانقسام بسبب أزمة الطاقة التي تتفاقم بسرعة مع قيام فلاديمير بوتين بخنق إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا. وكانت العديد من الكوارث قد اقتربت في العقد الماضي من تمزيق أوروبا، بما في ذلك أزمة اليورو في أوائل العقد الثاني من هذا القرن، وأزمة المهاجرين في العام 2015. ويمكن أن تنضم صدمة الطاقة الشتوية للعام 2022 إليها أيضاً. مرة أخرى، توشك وحدة القارة وعزمها على مواجهة اختبار صعب.
لا يستطيع معظم الأوروبيين حتى الآن رؤية أو شم رائحة كارثة الغاز، لكن علامات التحذير تومض في الأسواق مسبقاً باللون الأحمر. ما تزال أسعار تسليم الغاز هذا الشتاء، التي تقف عند 182 يورو/ مليون واط ساعة (ما يعادل184 دولارا لكل مليون واط)، مرتفعة كما كانت في أوائل آذار (مارس) تقريباً بعد غزو روسيا لأوكرانيا، وتعادل نحو سبعة أضعاف مستواها على المدى الطويل. وتستعد الحكومات الأوربية لعمليات إنقاذ للمرافق التي ستصاب بالشلل في فرنسا وألمانيا، ويراهن بعض المستثمرين على أي الشركات الصناعية هي التي ستفلس في وقت لاحق من هذا العام مع ترسخ إجراءات التقنين. وفي حين يفشل أغلب الساسة في أوروبا في إقناع الرأي العام بالخيارات الصعبة التي تنتظر الناس، فإنه حتى تجار الطاقة الذين اعتادوا على الحروب والانقلابات أخذوا يبدون قلقين.
كانت أزمة الطاقة الحادة تشكل خطراً منذ أن دخلت الدبابات الروسية أراضي أوكرانيا. وبينما تهدد العقوبات والابتزاز الروسي بقطع أوروبا عن موردها الرئيسي، فإن الغاز يشكل نقطة الاختناق. فهو يلبي ربع الطلب على الطاقة في القارة، وحيث توفر روسيا ثلث هذا المقدار. والأرقام أعلى بالنسبة لبعض البلدان، بما في ذلك ألمانيا. وعلى عكس النفط والفحم اللذين يمكن استبدالهما ويجري تداولهما عالميًا، فإن الغاز يجب أن يُنقل إما عبر الأنابيب أو بشحنه كغاز طبيعي مسال، باستخدام مرافق يستغرق بناؤها أو إعادة تشكيلها أعواماً.
وكما يفهم بوتين جيدًا، فإن الغاز هو أيضًا سوق تمسك فيها روسيا بمقبض السوط. وسوف ينهار اقتصادها من دون صادرات النفط التي كانت تساوي في المتوسط 10 في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي على مدى السنوات الخمس الماضية، وهو السبب في أن روسيا بذلت جهودًا غير عادية -وناجحة إلى حد كبير- لكسر الحظر الغربي على النفط الخام. لكن روسيا تبقى قادرة على العيش من دون صادرات الغاز، التي لا تمثل سوى 2 في المائة فقط من الناتج المحلي الإجمالي. ومن خلال إغلاق الصنابير في خطوط أنابيبها، فإنها تعتقد أنها قادرة على إلحاق قدر من الألم بأوروبا أكبر مما توقعه بنفسها.
حتى قبل بضعة أسابيع فحسب، بدا الأمر كما لو أن أوروبا قد تفلت من الأسوأ بمساعدة المزيد من شحنات الغاز الطبيعي المسال التي تأتي من أميركا وأماكن أخرى. ويمتاز الطلب على الغاز بأنه موسمي، لذلك من الضروري بناء احتياطيات منه في فصلي الربيع والصيف. ومن نسبة مخيفة هي 26 في المائة في آذار (مارس)، أصبحت خزانات الغاز في أوروبا أكثر من نصف ممتلئة بحلول حزيران (يونيو)، وهي في طريقها إلى ملء 80 في المائة من سعتها بحلول تشرين الثاني (نوفمبر)، وهو الحد الأدنى اللازم لاجتياز فصل الشتاء.
لكن الصورة تزداد سوءاً الآن مرة أخرى. وتتحمل مواطن الخلل في حقل غاز نرويجي مهم جزءًا من اللوم، وكذلك يفعل الطقس الحار الذي يصنع طلبًا متزايداً على الكهرباء لتشغيل أجهزة تكييف الهواء. لكن المشكلة الكبرى هي تدفق الغاز إلى أوروبا من شركة “غازبروم”، التي تحتكر صناعة الغاز في روسيا. وكان هذا التدفق يعمل مسبقاً عند حوالي نصف المستوى الطبيعي وانخفض الآن أكثر. وتقول روسيا إنه منذ 11 تموز (يوليو)، يخضع خط “نورد ستريم 1″، وهو خط أنابيب مهم للغاية، عمليات صيانة تُستكمل بحلول 22 تموز (يوليو). لكنها لم تعوض عن هذا التوقف بزيادة الإمدادات عبر خطوط الأنابيب البديلة التي تمر عبر أوكرانيا. ولأن التجار يعتقدون أن بوتين يتعمد الضغط على العرض، فإن أسعار التسليم في فصلي الشتاء، في 2023-2024، ستكون أربعة أضعاف المستوى الطبيعي.
ليس لدى المستهلكين، الذين يستخدمون الغاز بشكل مباشر للتدفئة والطهي، وكذلك بشكل غير مباشر في شكل كهرباء، فكرة تذكر عما قد يصيبهم. في الوقت الراهن، يتمتع العديد منهم بالحماية من خلال تحديد الحدود القصوى للأسعار والإعانات والعقود الطويلة الأجل. ويدفع الألماني النموذجي ما لا يقل عن 70 في المائة أقل من سعر السوق ثمناً للغاز. ويواجه المستخدمون الصناعيون، مثل شركات صناعة المواد الكيميائية والزجاج، مشكلة أيضاً، إضافة إلى قائمة واسعة من الشركات، بما في ذلك العديد من العمالقة الألمان. وفي جميع أنحاء منطقة اليورو يمكن أن يؤدي وقف تدفقات الغاز الروسي إلى خفض نمو الناتج المحلي الإجمالي بمقدار 3.4 نقطة مئوية، ورفع التضخم بمقدار 2.7 نقطة مئوية، وفقا لبنك “يو بي إس.”. وفي ألمانيا ستكون الضربة أسوأ.
قد يعتقد المرء أن حدوث ركود وتضخم هو شيء يمكن التسامح معه -فبعد كل شيء، في العام 2020، انخفض الناتج المحلي الإجمالي لأوروبا التي ضربها وباء “كوفيد” بنسبة 6 في المائة. لكن تهديد الطاقة الأخير أكثر خبثًا. ويمكن أن يؤدي إلى إطلاق نوع من سلوك “أفقِر جارك واجعله يتسول”، حيث تقوم الدول بجمع وتخزين الغاز مما يمنعه من التدفق إلى البلد التالي. وقد هددت بريطانيا بهذا القدر. وتشير الفجوات في أسعار الجملة للغاز في مختلف بلدان الاتحاد الأوروبي إلى أن الشركات تخشى حدوث انهيار في السوق الموحدة. وأصبحت ديون الحكومات أعلى من أي وقت مضى. وقد تثير صدمة الركود التضخمي مخاوف من التخلف عن سداد الديون، أو حتى حدوث أزمة ديون إيطالية يكون من شأنها أن تهدد منطقة اليورو بأكملها. كما يمكن أن يؤدي رد الفعل الشعبي العنيف بشأن أسعار الطاقة إلى تآكل الدعم الشعبي في جميع أنحاء القارة للوقوف في وجه بوتين.
لكل هذه الأسباب، يتعين على الحكومات الأوروبية أن تستنهض نفسها لمواجهة صدمة الطاقة الآن. وكما هو الحال مع اللقاحات، فإنها تحتاج إلى تجاوز الانقسامات الوطنية. وتعمل المفوضية الأوروبية على إعداد خطة لعرضها على قمة طارئة تعقد في 26 تموز (يوليو). وبالنظر إلى أدوارهما في تجارة الغاز، يجب أن تشمل الخطة بريطانيا والنرويج. ويجب زيادة العرض إلى أقصى حد ممكن، وهو السبب في أن المشتريات الشائعة من شحنات الغاز الطبيعي المسال تستحق المتابعة، وكذلك ضرورة أن تقوم هولندا بتأجيل إغلاق حقل الغاز في غرونينغن المقرر في العام المقبل.
ستكون الخطوة التالية هي الحاجة إلى وضع ترتيب هرمي مشترك يحكم التقنين ويطبق في جميع أنحاء القارة: يجب أن يعاني مستخدمو الطاقة الكثيفة أولاً، والمستهلكون أخيراً. وتحتاج البلدان إلى تقاسم سعة التخزين وضمان حرية حركة الغاز. وكلما كان هذا النظام أكثر تكاملاً، كان أكثر مرونة. وأخيراً، ينبغي أن يكون السياسيون صادقين مع الجمهور. فأسعار المستهلكين يجب أن تذهب إلى الارتفاع الآن للحد من الطلب والمساعدة على بناء المخزون. وستأتي المساعدة في الشتاء المقبل من التغييرات الطوعية الصغيرة في العادات المنزلية، مثل الإبقاء على استخدامات التدفئة أكثر انخفاضاً.
لن تقتصر الجائزة بالنسبة لأوروبا على اجتياز الأشهر المقبلة. سوف تحرر أوروبا نفسها إلى الأبد من ترهيب الطاقة الروسية. كما أنها ستكون قد أنشأت آلية متماسكة لأمن الطاقة على مستوى القارة بأسرها والتي يكون من شأنها أن تساعد على التعجيل بالتحول إلى طاقة أنظف. ولدى دول أوروبا عادة الاجتماع معًا خلال الأزمات. وقد حان الوقت للقيام بذلك مرة أخرى. وإذا كنت تقرأ هذه السطور في باريس أو مدريد بينما تكييف الهواء يعمل، فقم بخفضه درجة، لو سمحت. - الغد