سيطر الرعب على أجواء العراق ليلة الاثنين 29 آب/أغسطس عندما انفلت عقال الأزمة المتصاعدة ليصل حد الاقتتال في المنطقة الخضراء في محيط البرلمان العراقي، إذ لجأ أنصار التيار الصدري وبضمنهم مقاتلو ميليشيا سرايا السلام إلى الأسلحة الخفيفة والمتوسطة لمهاجمة جهات مسلحة أطلقت النار على المعتصمين الصدريين. لم يعرف حتى الآن وبدقة من هي الجهة التي اشتبكت مع الصدريين، هل هي قوة عسكرية تابعة لوزارة الدفاع، أم قوة أمنية تابعة لوزارة الداخلية، أم فصيل تابع للحشد الشعبي. لأن الجميع ينكر تورطه في الدم الذي أريق في هذه الاشتباكات، حيث قُتل حوالي 30 ضحية وجرح أكثر من 600 شخص في الاشتباكات.
توقع المتشائمون إن شرارة الحرب الأهلية في العراق قد انطلقت مع احتدام القتال في المنطقة الخضراء، لكن ما أن انبلج صباح يوم 30 آب/أغسطس حتى خرج السيد الصدر ليضع حدا لانفلات الوضع، وبضربة سحرية أنهى التوتر، وإن بشكل مؤقت، وكان الصدر قد أعلن قبل ذلك بيومين اعتزاله العمل السياسي وعدم تدخله أو تصريحه في أي شأن في المشهد السياسي العراقي، إذ أكد أنه «لن أتدخل في الأمور السياسية عامة» وأشار إلى أنه «لا كتلة تمثلنا بعد الآن، ولا أي منصب في داخل الحكومة وخارجها ولا البرلمان». كما أعلن حل كافة الهيئات التابعة للتيار باستثناء مؤسسة مرقد الصدر ومتحف الصدر وهيئة تراث آل الصدر. وقال السيد مقتدى الصدر في مؤتمر صحافي في مقر إقامته بالحنانة في مدينة النجف، إنه «بغض النظر عن من بدأ الفتنة في الأمس فأنا أمشي مطأطأ الرأس، واعتذر للشعب العراقي الذي هو المتضرر الوحيد مما يحدث، فالقاتل والمقتول في النار». وأضاف أن «وطني أسير للفساد والعنف معا» مردفا القول «كنت آمل أن تكون الاحتجاجات سلمية وليست بالرصاص والقاذفات، بئس الثورة هذه» مشددا على أنه «ما دام الثورة شابها العنف فليست بثورة أصلا، ولا أقول بعد الآن ثورة، وأنا أنتقد ثورة التيار الصدري أيضا». وأكد بقوله «ما زلت أومن أن التيار مطيع، وإذا لم ينسحب من الاعتصام من أمام البرلمان خلال مدة 60 دقيقة، فسأبرأُ من التيار» منوها إلى أنه «لا توجد تظاهرات سلمية بعد الآن ولا نريدها».
وتابع منوها: «أشكر القوات الأمنية والحشد الشعبي التي وقفت على الحياد، وأشكر القائد العام للقوات المسلحة» لافتا إلى أن «الدم العراقي حرام واعتزالي هو شرعي لا سياسي، واعتزالي من السياسة نهائي». وأكمل: «الميليشيات الوقحة هي التي أعطت أوامر بإطلاق الرصاص» متابعا: «لو حليتم الفصائل المسلحة لما حدث ذلك». لقد أوجعت كلمات الصدر أتباعه وبشكل خاص ذوي الضحايا الذين لم تبرد دماء أبنائهم بعد، عندما قال «القاتل والمقتول في النار» لكنهم أطاعوا وبشكل ملفت أوامر قائدهم وانسحبوا من ساحات القتال والاعتصام في غضون ساعة واحدة.
وعاد المشهد السياسي إلى المربع الأول، قبل انتخابات تشرين الأول/اكتوبر 2021 والذي مفاده: الآن ما العمل؟ كيف يمكن أن تمضي العملية السياسية؟ هل ستشترك جميع الأطراف في الحكومة المقبلة؟ أم سنذهب لانتخابات جديدة؟ ومن سيضمن خضوع الأطراف السياسية لمخرجات الانتخابات المقبلة وعدم التشكيك بها واللجوء للشارع مرة أخرى؟
بدايات الأزمة وتصاعدها
دفع الصدريون باتجاه تصعيد الأزمة، وحذر السيد مقتدى الصدر بلهجة حادة الفرقاء السياسيين وطالبهم باعتزال العمل السياسي، بل وضع سقفا عاليا جدا لمطالبه عندما طالب بعزل القيادات والوزراء والدرجات الخاصة من الذين شاركوا في العمل السياسي منذ 2003 حتى الآن، وبضمنهم التيار الصدري، ودعا إلى ولادة طبقة سياسية جديدة لم تتلوث يدها بدماء العراقيين أو سرقة المال العام، وسيتم ذلك عبر تشكيل حكومة مؤقتة لتسيير الأعمال، تعمل على التهيئة لانتخابات جديدة.
هذه المطالب صبت الزيت على نار الموقف العراقي المتأزم، فجاءت الضربة هذه المرة من إيران، حيث أعلن المرجع الشيعي كاظم الحائري الذي يقلده أتباع الصدر والمقيم في إيران يوم 28 آب/أغسطس اعتزاله العمل والنشاط الفقهي، وعزا سبب عدم الاستمرار في التصدي للمرجعية للمرض والتقدم في العمر، ودعا مقلديه إلى «إطاعة الوليّ الفقيه السيد علي خامنئي» ووجه انتقاداً لمقتدى الصدر إذ وصفه بأنه «فاقد للاجتهاد» وغير مؤهل للقيادة الدينية.
حمل بيان الحائري، عدداً من العلامات الفارقة، إذ من غير المألوف أن تعلن مرجعية دينية شيعية اعتزالها أو استقالتها، وتجدر الإشارة إلى إن التاريخ المعاصر لم يشهد اعتزال مرجع لعمله الفقهي، مع العلم إن هناك مراجع قللوا حركتهم، أو علقوا إصدار أحكام شرعية، ولكن لم يسبق أن سمعنا عن مرجع ينشر بياناً يعلن الاستقالة أو الاعتزال. وكان الحائري زميل دراسة محمد الصدر، والد مقتدى الصدر، الذي رشحه لتولي المرجعية الفقهية من بعده، إذ قال الصدر الأب في لقاء مسجل: «أنا أعتقد أنّ الأعلم على الإطلاق بعد زوالي من الساحة جناب آية الله العظمى السيّد كاظم الحائري».
رد مقتدى على هذه الخطوة جاء سريعا وصارما، إذ أعلن إنه لم يطرح نفسه كمرجع تقليد ولا كأمام معصوم، إنما تولى قيادة تيار سياسي شيعي كان ملتفا حول والده، وذكر أن قيادته اليوم من «فيوضات السيد الوالد» وانه يعتقد أن خطوة الحائري الأخيرة جاءت نتيجة ضغوط إيرانية. وأنه يعمل على مكافحة الفساد، فهو جندي في معسكر طلب الإصلاح، ويبدو أن كلمات الصدر أعطت إشارة واضحة لأتباعه لاقتحام مؤسسات الدولة وبضمنها القصر الجمهوري، مما أشعل الصدام بينهم وبين حماية مقر إقامة رئيس الجمهورية.
السيناريوهات المتوقعة
بعد أن أمر الصدر أتباعه بإنهاء الاعتصام، الكل بات يطرح السؤال المحوري؛ ما العمل الآن؟ ومع كلمات الشكر التي وجهت للصدر على خطوته الحصيفة التي نزعت فتيل الأزمة التي كادت تتحول إلى حرب أهلية، ابتدأت بعض فصائل «الإطار» طرح فكرة ضرورة اشراك التيار الصدري في أي خطوة مقبلة لتشكيل الحكومة أو لإعلان الذهاب باتجاه انتخابات جديدة.
لكن يبدو أن بعض صقور الإطار ينوون الذهاب باتجاه استغلال ما حدث واستكمال مشروع تشكيل حكومة يغيب عنها الصدريون، إذ دعت قوى الإطار التنسيقي يوم 30 آب/أغسطس إلى الإسراع بتشكيل الحكومة والعودة لعقد جلسات البرلمان. وطالب الإطار في بيانه بضرورة الإسراع بتشكيل حكومة خدمة وطنية تتولى المهام الإصلاحية ومحاربة الفساد ونبذ المحاصصة وإعادة هيبة الدولة، مشيرا إلى أهمية ضم جميع القوى السياسية الراغبة في المشاركة في الحكومة. ودعا الإطار التنسيقي، مجلس النواب وباقي المؤسسات الدستورية للعودة إلى ممارسة مهامها الدستورية والقيام بواجبها تجاه المواطنين.
لكن يبدو إن جمر الأزمة ما زال مشتعلا تحت رماد تحركات الصدر الأخيرة، إذ أعلن صالح محمد العراقي المعروف بوزير الصدر، تصريحات ذات لهجة حادة هاجم فيها قوى الإطار التي طالبت باستئناف عملية تشكيل الحكومة، فقال في تغريدة: «لم أستغرب ولا طرفة عين من مواقف الإطار التنسيقي الوقح، ولا من ميليشياته الوقحة حينما يعلنون وبكل وقاحة متحدين الشعب برمته وبمرجعيته وطوائفه بأنهم ماضون بعقد جلسة البرلمان لتشكيل حكومتهم الوقحة، وما زال دم المعدومين غدرا من المتظاهرين السلميين وبطلقات يمليشياتهم القذرة لم يجف. وكأن المقتول إرهابي أو صهيوني ولا يمت إلى المذهب بصلة أو إلى الوطن بصلة، نعم تلك وقاحة ما بعدها وقاحة، فلا دين لهم، ولا أخلاق، ولا يتحلون بقليل من شرف الخصومة، فيا له من ثالوث وقح لا يعرف معنى الإصلاح ولا الثورة ولا السلمية ولا معاناة الناس على الإطلاق».
ثم زاد صالح محمد العراقي في شتائمه وصعد من حدة لغته قائلا: «تلك ثلةٌ عشقت الفساد والمال والرذيلة وتغذت عليها كالدابة التي تغذت على العذرة فما عادت صالحة حتى للأكل، عَشِقت الفساد الذي تتغذى وتنمو قوتها منه». ولأن جمر الأزمة ما زال متوهجا تحت رماد التهدئة الذي يغطيه، لذا نجد العراقي يقول على لسان مقتدى الصدر: «ولتعلموا إنني لم ولن أتردد في كتابة هذه المقالة، فإنها وإن كانت شديدة، أو يعتبرها البعض خارجة عن سياقات السياسة، إلا إنها الحقيقة المرة التي يجب أن ينطق بها الناطقون، ويلهج بها اللاهجون» ثم يختتم مهددا خصومه بشكل واضح: «ومن هنا إذا لم يعلنوا الحداد فليعتبروني والتيار من اليوم عدوهم الأول بكل السبل المتاحة، وبعيدا عن العنف والاغتيالات التي قرر الفاسدون أن يصفوا خصومهم بها، وهذا ندائي للجارة إيران.. أن تكبح جماح بعيرها في العراق وإلا فلات حين مندم».
بعد انسحاب أنصار التيار الصدري من المنطقة الخضراء، أنهى الإطار التنسيقي اعتصام أنصاره في العاصمة بغداد، وتوالت دعوات الفرقاء السياسيين لحلحلة الأزمة، إذ دعت جهات كردية وسنية إلى التهدئة وفتح صفحة تفاهمات سياسية جديدة، لكن كل الدعوات باتت باهتة وغير ذات مضمون حقيقي حتى مطالبات رئيس الجمهورية برهم صالح الذي دعا في كلمة متلفزة مساء الثلاثاء 30 آب/أغسطس إلى تنظيم انتخابات مبكرة ضمن «تفاهم وطني» لإنهاء التوترات السياسية وتمهيد الطريق للخروج من الأزمة. كذلك حال رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي الذي هدد بالاستقالة، وقال في خطاب رسمي يوم الثلاثاء 30 آب/أغسطس إنه «في حال استمرار الفوضى والصراع والتنافس سوف نعلن شغور منصب رئيس الوزراء ومحاسبة المتورطين». كل ذلك يعني أن وضع التهدئة ما زال هشا، وربما شهد تصعيدا جديدا في الأيام الآتية.
القدس العربي