ما يمكن للمراقبين المخضرمين أن يروه بالمقارنة مع العقود الماضية، هو رابط بات قائماً بين أوضاع الولايات المتحدة الداخلية وموقف القوى المضادة لأميركا خارجياً وخاصة في الشرق الأوسط. وقد تابعت شخصياً ملف هذه المعادلة عن كثب منذ ما بعد 11 سبتمبر (أيلول) 2001، ولا سيما منذ 2009، عند بدء التغيير الجارف في السياسة الأميركية الخارجية لناحية “الشراكة مع الأخصام”. وقد تطورت هذه الظاهرة تدريجاً منذ حرب العراق تحت إدارة الرئيس جورج بوش، حيث انقسمت البلاد حول الاجتياح، بين أكثرية أيدت إدارة بوش في إسقاطها لنظام صدام حسين ومعارضة للحرب يتزعمها جون كيري. ولعبت إيران على وتر الانقسام الداخلي لإفشال سياسة تمكين العراق المؤيد للغرب وتمكين الميليشيات المؤيدة لطهران، مما أفشل سياسة بوش، خاصة بعد تسلم المعارضة بقيادة نانسي بيلوسي وكيري والسيناتور الراديكالي الجديد باراك حسين أوباما حينها.
وجاءت إدارة أوباما لتعكس سياسة المعارضة السابقة، وتطلق مشروع الاتفاق الإيراني والشراكة مع الإسلاميين في إدارة توجه المنطقة. فعارضتها الكتلة الجمهورية بشدة لسبع سنوات ومنعت التوقيع في الكونغرس ولكن ليس كقرار تنفيذي لأوباما في 2015. هذه الانقسامات السياسية، على المسائل الخارجية كانت أساساً طبيعياً في السياسات الأميركية بشكل عام، منذ الحرب العالمية الثانية، وقد اشتدت خلال حرب فيتنام مع دخول يسار الجامعات وهوليود على الخط. ومع بروز أوباما في مجلس الشيوخ وبعد انتخابه تعمق الصراع حول السياسة الخارجية بشكل غيرمسبوق في تاريخ الولايات المتحدة.
ماذا تغير؟
حتى قيام إدارة أوباما في 2009، كانت الانقسامات الأميركية حول السياسة الخارجية والحروب قليلة وضيقة. فالجمهريون والديمقراطيون اختلفوا ولكن على أمور قليلة لم تقسم البلاد. وفي قمة الرد على هجمات 11 سبتمبر، توحدت البلاد تحت قيادة بوش بشكل أخاف القوى المارقة في المنطقة، وانعدمت قدرة الخارج، لا سيما المعادي، على التأثير الداخلي في أميركا.
إلا أن خيار أوباما بفتح السياسة الأميركية أمام الشراكة مع قوى راديكالية في الشرق الأوسط، بهدف “تليين” مواقفها، قد فتح باب الخلاف الدخلي العميق حول السياسة الخارجية، بقدر لم يكن موجوداً من قبل. الديمقراطيون والجمهوريون كانت لهم آراء مختلفة حول معظم ملفات السياسة الخارجية، ولكنهم لم يدخلوا في حرب ضروس مع بعضهم البعض حول الملفات الخارجية، كما بدأ يحدث منذ 2009 تدريجاً.
وكما هو معروف، فالاتفاق النووي فجر مواجهة بين إدارته والكتلة المحافظة، لا سيما مع الإنجيليين المؤيدين لإسرائيل، وتوسعت المواجهة خلال سبع سنوات واستمرت على الرغم من توقيعه للاتفاق في 2015.
كذلك شب خلاف مستديم آخر بين إدارة أوباما ومعارضته حول دعمها للإسلاميين الراديكاليين خلال ما سمي بـ “الربيع العربي”، ولا سيما بعد الهجوم الإرهابي على القنصلية الأميركية في بنغازي في 11 سبتمبر 2011، وخلال الثورة المصرية على حكم الإخوان في صيف 2013. ورد الكونغرس بفتح تحقيقات حول مقتل السفير ورفاقه في ليبيا وحملوا إدارة أوباما المسؤولية أمام العالم، فردت هذه الأخيرة بتسريع المحادثات مع إيران وتوقيع الاتفاق والاستمرار بالشراكة مع الإسلاميين في المنطقة. كل هذا الصراع جرى أمام الرأي العام وباتت السياسة الخارجية جزءاً من السباق السياسي الداخلي. وخلصت القوى الراديكالية في المنطقة أن الانقسام داخل أميركا هو لمصلحتها وأنه بإمكانها أن تستفيد من “الصراع الداخلي” لتمرر أجندتها، وإذا لزم الأمر شن حروبها على أخصامها في الشرق الأوسط، وحتى على المصالح الأميركية. وقد لاحظ المراقبون والمحللون أن إيران وحلفاءها من ناحية والميليشيات الإسلاموية من ناحية أخرى صعدوا من تحركاتهم في المنطقة منذ أكثر من عشر سنوات بشكل أكثر تحدياً مما كان عليه الوضع في السابق وكأن هذه القوى بات لها قناعة أن واشنطن “غير قادرة” على التدخل العميق بسبب انقسامها وخوفاً من أزمات داخلية قد تتفجر.
انقسام أخطر
إلا أنه مع العام 2016، مع الحملات الانتخابية الرئاسية، اتخذ الانقسام منحى أخطر بكثير في الداخل، فوفر لمتطرفي المنطقة قدراً أكبر لمعادة الولايات المتحدة. وبدأت الهوة الداخلية الأميركية بالتوسع من اندلاع حرب مدوية بين أنصار الرئيس أوباما ضمن بيروقراطيته بالإضافة إلى حملة هيلاري كلينتون من ناحية، وحملة دونالد ترمب الانتخابية من ناحية أخرى، حيث اتهم محور أوباما – كلينتون المرشح ترمب بأنه “يعمل لمصلحة روسيا”، وهو اتهام خطير غير مسبوق، ولكن لم يأت مع إثباتات، واتهم ترمب أخصامه بأنهم استعملوا “الدولة العميقة” للتجسس عليه في محاولة لمنعه من الوصول للبيت الأبيض. ومع انتخاب ترمب ودخوله المكتب البيضاوي في يناير (كانون الثاني) 2017 اشتد الصراع بين الأجهزة والبيت الأبيض وبلغ ذروته مع تحقيقات روبرت مولر، ومن ثم محاولات العزل في الكونغرس. إلا أن ترمب استمر في سياسته المواجهة لإيران لطيلة أربع سنوات في وقت اتكلت طهران في هذه المدة على أن “ترمب لن يبقى طويلاً في السلطة “نظراً للمعارضة الشرسة لعهده”.
إلا أن قمة المخاطر الداخلية تمثلت بتطورين بارزين، جعلا المحاور المتطرفة في الشرق الأوسط “تتأكد” من أن الصدامات الداخلية في أميركا ستدوم طويلاً، وستسمح للراديكاليين بالتفلت من ضغط واشنطن وتنفيذ مشاريعهم. التطور الأول كان خلال صيف 2020 حبث سيطرت قوى “Antifa” و “BLM” على الشوارع من العاصمة إلى نيويورك عبر الداخل إلى مدن الساحل الغربي ولا سيما في سياتل وبورتلاند، حيث أقاموا مربعات ثورية. وأثرت مشاهد المظاهرات العنيفة حول البيت الأبيض في ذلك الصيف على المشاهدين فأضعفت “هيبة” الرئاسة، وقوت عزيمة الأخصام الخارجيين. وجاءت أحداث الكابيتول هيل في 6 يناير 2021، لتبرز ردة فعل اليمين المتطرف على مظاهرات الصيف اليسارية، وتضفي طيفاً آخر من الدراما السياسية على الوضع الداخلي مع التحقيقات التي أطلقتها إدارة جو بايدن بحق المحتجين في الكونغرس.
أما التطور الداخلي الصادم الآخر فكان “الغارة” التي شتنها الـ “أف بي آي” على دارة ترمب في مارالاغو، في فلوريدا في صيف 2022، للبحث عن وثائق نقلت من البيت الأبيض في العام 2020 حسب وزارة العدل. فبغض النظرعن المسائل العدلية، فإن المشهد الدراماتيكي بحد ذاته ترك آثاره لدى الرأي العام الأميركي أن هناك انشطاراً قد وقع في المؤسسة السياسية الأميركية، وقد يكون الأعمق منذ الحرب الأهلية.
التأثير على الشرق الأوسط
في الشكل، العلاقات الأميركية – الشرق أوسطية لا تزال حيث هي مع تنقل المبعوثين وتوالي الاجتماعات والقمم وانتشار الأساطيل وإرسال المساعدات وفرض العقوبات والرقصات الدبلوماسية. صحافيو وإعلاميو المنطقة يصفون الدور الأميركي بنفس الريشة: فهي لا تزال أكبر وأقوى قوة عالمية وأكثرها انتشاراً في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأكثرها تفوقاً عسكرياً ولا تزال القائدة عالمياً. إلا أن شيئاً ما قد حدث داخلها، ولا سيما منذ 2020، يشير إلى “حرب أهلية” غير معلنة وغير نظامية. وهي الصراع الجاري بين معسكري بايدن-أوباما من جهة وترمب من جهة أخرى. وهو أمر وصل إلى عمق البيروقراطيات والولايات وينذر بالأسوأ ما لم يتم رأب الصدع بطريقة أو بأخرى مما يقلق قادة الدول الشريكة والحليفة في المنطقة، والأهم، مما يشجع أخصام أميركا.
وربما أن هذا المشهد الداخلي هو الذي أقنع طهران وميليشياتها والميليشيات الإسلاموية بأن انقسام أميركا سيمنعها من مجابهتهم. وقد يكون هذا الرأي صائباً إلى حد ما. ولكن الشعب الأميركي قد أثبت في الماضي، ولا سيما بعد 11 سبتمبر أنه بإمكانه أن يحسم ضد الانقسام إذا شعر بالخطر على الوجود. فهل تأتي منه رسالة في الانتخابات الآتية؟
لنرى…
اندبندت عربي