يعتبر الانتقال من الحرب التقليدية إلى النووية، في حال تعرض جيشها لخسائر في ساحة جزءا من «العقيدة العسكرية» الروسية. تستند هذه الفكرة على امتلاك روسيا أكبر ترسانة نووية في العالم، وحيازتها 2000 رأس حربي من الأسلحة النووية الصغيرة (التكتيكية).
تملك الولايات المتحدة الأمريكية، في المقابل، عددا أقل من الرؤوس النووية (6550 لأمريكا مقابل 6850 لروسيا)، لكن ترسانتها من الأسلحة النووية الصغيرة في أوروبا لا تزيد عن 100، وذلك بسبب التعقيدات السياسية والاحتجاجات الشعبية على نصب هذه الأسلحة في دول حلف الناتو.
غير أن اعتماد الأرقام وحدها لتقرير إمكانية استخدام النووي هو منطق مضلّل، فقرار الاستخدام هو اختراق لمحرّم عسكريّ كبير سيؤدي، بالتأكيد، إلى ردّ فعل يوازيه بالقوة، ويشرّع تحويل الحرب الموضعية بين روسيا وأوكرانيا إلى حرب مع دول حلف الأطلسي.
قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في خطابه أمس، الذي هدد فيه عمليا باستخدام السلاح النووي، إن تهديده حقيقي وليس خدعة، وكان قد ذكر، في تعليق آخر على موضوع الحرب النووية، أن الروس سيكون «مكانهم في الجنة لكونهم شهداء»، وقد تكرّرت تلميحات وتصريحات المسؤولين الروس منذ بدء الحرب الأوكرانية، وتصاعدت احتماليات الخطر النووي مع تعرّض محيط محطة زابوريجيا النووية في أوكرانيا (وكذلك محطة أخرى قبل أيام) للقصف.
تضع هذه الأفعال والتصريحات العالم على «حافّة الهاوية»، وتحاول إقناعه أن بوتين يمكن أن يعبر ذلك الخطّ المحرّم.
ترتبط التهديدات الأخيرة، وكذلك إعلان التعبئة الجزئية لثلاثمئة ألف جندي احتياط روسي، بالخسائر التي تلقاها الجيش الروسي في أوكرانيا مؤخرا. تهدف التعبئة العامة لصدّ خطر التقدّم الأوكراني الماثل حاليا (الذي حقّق نجاحا رمزيا بالسيطرة على منطقة صغيرة من لوغانسك التي أعلنت نفسها جمهورية مستقلة)، أما السلاح النووي فهو الورقة التالية التي تهدد بها موسكو في حال تمكنت كييف فعلا من إلحاق هزائم كبيرة بالجيش الروسي حتى بعد دخول جنود الاحتياط.
جهّزت موسكو لهذا السيناريو بدفع المناطق التي تحت سيطرتها لإجراء «استفتاءات» مستعجلة ستجرى خلال الأيام المقبلة تعلن فيها طلبها الانضمام إلى روسيا، وبذلك يصبح الدفاع عن تلك المناطق دفاعا عن روسيا نفسها وليس عن مناطق انفصالية موالية لها، كما يصبح زج مئات آلاف جنود الاحتياط الروس دفاعا عن الأرض الروسية وليس انخراطا في حرب خارجية.
لا تتعلق التصريحات الأخيرة بمزاج انتحاريّ للرئيس الروسي بل تتعلّق بحسابات سياسية واضحة، فرفع سقف المواجهة من تقليدية إلى نووية، وإعلان التعبئة الجزئية، أمور تغطيّ واقعة الخسائر على الأرض، كما تعطي الرئيس الروسي الشكل الذي يناسبه: مظهر المهاجم القادر على تغيير قواعد اللعبة وتهديد من يهددونه.
قام خبراء في إحدى الجامعات الأمريكية بتنظيم تجربة محاكاة علمية تبدأ بإطلاق موسكو طلقة نووية يرد على حلف الناتو بضربة صغيرة. حسب هذه المحاكاة فإن الحرب التي تلت ذلك أسفرت عن مقتل قرابة 90 مليون شخص خلال الساعات الأولى فحسب.
يعلم بوتين طبعا الثمن المهول لأي استخدام، مهما كان صغيرا، لقنبلة نووية، وجزء من تهديداته موجّه إلى الروس أنفسهم، لإقناعهم بالتضحيات الكبيرة التي يتكبدونها نتيجة الحرب الدائرة في أوكرانيا، والجزء الآخر هو عرض سياسيّ موجّه للأوكرانيين ولحلفائهم في «الناتو»: اتركوا المناطق الموالية لي كي أوقف الحرب!
إضافة إلى التهديد بحرب إفناء للبشرية فإن المثير في ذلك العرض هو عدم إمكانية معرفة كم بقي من الولاء لبوتين في تلك المناطق الانفصالية التي لن يعترف باستقلالها أو انضمامها لروسيا أحد (باستثناء سوريا وكوريا الشمالية ربما)، والتي تعاني الأمرّين تحت وطأة الاحتلال والعقوبات ودمار الحرب؟
القدس العربي