أعلنت السلطات الألمانية أمس، في بيان لمكتب الادعاء العام، أنها «أحبطت مخطط انقلاب عبر شن هجمات تسعى لإحداث فوضى في البلاد، والاستيلاء على السلطة»، وأن بينهم ضباطا عسكريين سابقين، وعددا من جنود الاحتياط في الجيش، و«القوات الخاصة»، و«أعضاء في حركة إرهابية» («حركة مواطني الرايخ»)، وكذلك نائب سابق من الحزب اليميني المتطرّف «البديل من أجل ألمانيا»، وأشخاص بينهم روسيّ مشتبهون بدعم الحركة، وأن هؤلاء يتوزعون في شتى أرجاء البلاد (11 من أصل 16 ولاية).
الحدث فريد من نوعه، بالمعايير التاريخية والجغرافية، فآخر الانقلابات ضمن المنظومة الديمقراطية الأوروبية كان «انقلاب العقداء» اليونانيين، عام 1967.
قبله جرى «انقلاب الجنرالات» الفرنسيين، للإطاحة بالرئيس شارل ديغول، عام 1961.
سبق هذين الانقلابين، انقلاب الجنرال الإسباني فرانكو، الذي قاد القوات اليمينية (المدعومة من ألمانيا النازية حينها) خلال الحرب الأهلية الإسبانية، وانتهى بإعلان حكم دكتاتوري طويل عانت منه إسبانيا حتى عام 1975، وعلى الأغلب أن كثيرا من الضباط ذوي الهوى الانقلابي في أوروبا، اعتبروا سيرة فرانكو مثالا تاريخيا يمكن الاستلهام منه.
اشتبكت العناصر الداخلية والخارجية، بشكل وثيق، في الانقلابات الآنفة.
بدأ فرانكو سيرته العسكرية بالقتال في المغرب ضد ثورة الريف التي قادها الأمير عبد الكريم الخطابي (1920ـ 1927)، وشارك بعد فوز اليسار الإسباني وإعلانه الجمهورية الإسبانية عام 1931، ضمن ما يسمى «الجيش الأفريقي» في الانقلاب الأول على الجمهورية عام 1936، ثم في قيادة القوات الفاشيّة حتى هزيمة الجمهوريين واليسار عام 1939، وإعلان عودة الملكية تحت ظلّه الدكتاتوريّ الطويل الأمد.
كان الانقلاب اليوناني أحد تداعيات الحرب الأهلية بين قوى اليمين واليسار التي تبعت تحرّر البلاد من الاحتلال النازي عام 1944، ورغم انتهاء الحرب الأهلية، كما حصل في إسبانيا، بهزيمة الشيوعيين (المدعومين من الاتحاد السوفييتي)، وانتصار الاتجاهات اليمينية والديمقراطية (المدعومة من أمريكا)، فإن الانقسام الحاد بقي مستمرا وانتهى بسيطرة ضباط «الرابطة المقدسة» المؤيدين للملك على السلطة، وكان سقوطه بعد سبع سنوات (عام 1974)، بالتوازي مع رد فعل أنقرة على ما جرى بعد الانقلاب من قمع للقبارصة الأتراك، وسيطرة جيشها على جزء كبير من الجزيرة في العام نفسه.
شارك في الانقلاب على ديغول جنرالات متقاعدون، رفضوا مفاوضات الحكومة مع «جبهة التحرير الجزائرية»، وقرروا السيطرة على مدن الجزائر ثم الاستيلاء على باريس عبر هبوط جنود المظلات في المطارات الاستراتيجية، وظهر حينها ديغول مرتديا زيّه العسكري القديم كجنرال طالبا من الشعب الفرنسي والجيش مساعدته، ومنعت الحكومة الرحلات الجوية والإنزالات، ففشل الانقلاب.
رغم نفي دميتري بيسكوف، الناطق باسم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، شخصيا، علاقة بلاده بالانقلاب، فهناك عناصر تحالف موضوعي بين موسكو والتيارات اليمينية المتطرّفة في أوروبا، وخارجها (بما فيه أمريكا)، كما بالحكومات الدكتاتورية في العالم، كما أن هناك معلومات موثّقة على أشكال من الدعم المالي والعسكري والإعلامي، كما هو الحال مع حزب «الجبهة الوطنية» الفرنسي، و«البديل من أجل ألمانيا»، وحكومة فيكتور أوربان في المجر، والاتجاهات المتطرّفة في صربيا وغيرها.
تلعب موسكو، وبعض السلطات الغربية القريبة من الاتجاهات اليمينية المتطرّفة، دورا كبيرا في تأجيج أفكار المؤامرة، وتزييف المعلومات، والتحريض على العنف، واستعادة أفكار الانقلابات والهجمات العسكرية على المؤسسات الديمقراطية، ويشكل اقتحام الكونغرس عام 2021، بعد إعلان فوز جو بايدن، والدور التحريضي للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، مثالا هائلا على هذا الاتجاه.
تشير هذه السياقات إلى أنماط تاريخية تترابط فيها الأزمات الداخلية بالتدخّلات الخارجية، وتنحو فيها الاتجاهات اليمينية المتطرفة إلى استعادة الحركات الانقلابية العنيفة لحسم الصراع لصالحها، وهو أمر لا يهدد النظم الديمقراطية فحسب، بل يهدد البشريّة نفسها، التي تترنّح تحت وطأة استعصاءات الدكتاتورية وتغيّر المناخ وتفشّي التطرّف في كل أصقاع المعمورة.
القدس العربي