استغرق إعداد زيارة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى العاصمة الأميركية واشنطن تسعة أيام، لكن الإعلان عنها فجأة لأسباب أمنية جعلها لحظة مثيرة للاهتمام، كونها أول زيارة خارجية له منذ الهجوم الروسي على أوكرانيا قبل 10 أشهر، ولأنها جاءت قبل 10 أيام فقط من تسلّم الجمهوريين السلطة في مجلس النواب، الذين أبدوا ملاحظات اعتراضية على حجم المساعدات الأميركية الضخمة لأوكرانيا، ومع ذلك فقد حملت الرحلة عديداً من الرسائل للكرملين والأوكرانيين والأميركيين والأوروبيين، فما هذه الرسائل؟ وهل تؤثر الزيارة في مسار الحرب؟
دراما سياسية
أحاطت دراما سياسية عالية زيارة الرئيس زيلينسكي إلى واشنطن، فقد اكتنفها مستوى عالٍ من السرية حتى اللحظة الأخيرة، وهي المرة الأولى التي يغادر فيها بلاده منذ بدء الحرب قبل 300 يوم، وقد وصل إلى العاصمة الأميركية مع تغير ملامح الصراع، حيث استخدمت روسيا طائرات الدرون الانتحارية والصواريخ في تدمير البنية التحتية لأوكرانيا، تاركة كثيراً من السكان دون كهرباء أو تدفئة مع بداية فصل الشتاء القاسي.
لكن، الأهم من ذلك أن الرئيس الأوكراني سافر 5000 ميل من كييف، ليلقي خطاباً تاريخياً في الكونغرس، بينما يستعد الجمهوريون للسيطرة على مجلس النواب في الثالث من يناير (كانون الثاني) المقبل مع وجود جناح واحد في الحزب متشكك في المستوى الحالي للمساعدة الاقتصادية والعسكرية والإنسانية الأميركية المقدمة لأوكرانيا، ويرفض أن تكون المساعدات مفتوحة أو شيكاً على بياض، وهو جناح يحتاج زيلينسكي إلى دعمهم إذا ما طالت الحرب إلى ما بعد أكتوبر (تشرين الأول) حينما تنتهي حزمة المساعدات الأميركية الجديدة لأوكرانيا بقيمة 45 مليار دولار، والمتضمنة في حزمة الإنفاق الحكومي الأميركي البالغة 1.7 تريليون دولار المتوقع إقرارها مع انتهاء دورة الكونغرس الحالي.
القائد الحقيقي
تكشف الزيارة أيضاً تركيز أوكرانيا على الحفاظ على المساعدات الأميركية وعدم وجود قادة أوروبيين يلجأ إليهم زيلينسكي للحصول على دعم مماثل. وبحسب ليانا فيكس، الباحثة في مجلس العلاقات الخارجية، فإن الأوكرانيين يعلمون أن الولايات المتحدة هي القائد الحقيقي في هذه الحرب، ليس فقط بسبب المبالغ الكبيرة التي تنفقها الولايات المتحدة في أوكرانيا، التي وصلت إلى 50 مليار دولار، لكن أيضاً لأن الحلفاء الأوروبيين كانوا مترددين في المضي قدماً في المساعدات بأنفسهم، وفضّلوا انتظار تعهد الولايات المتحدة بالدعم قبل المتابعة خطوة بخطوة، مشيرة إلى أن أوروبا مفككة في نهجها تجاه أوكرانيا، وأنها بلا قيادة منذ أن بدأت الحرب، حيث لم تظهر أي دولة أوروبية كقاطرة تقود وراءها الاتحاد الأوروبي.
ومع قرار الولايات المتحدة خلال هذه الزيارة تقديم أسلحة أكثر تطوراً لأوكرانيا بقيمة 1.8 مليار دولار تشمل بطاريات باتريوت لإسقاط الصواريخ الروسية، فمن المحتمل أن تحذو أوروبا حذوها، وهو ما يشير إليه إعلان وزير الدفاع البريطاني بن والاس قبل أسبوعين أنه سيكون منفتحاً بشأن إرسال صواريخ بعيدة المدى إلى أوكرانيا لتدمير مواقع إطلاق طائرات الدرون، إذا واصلت روسيا استهداف المناطق المدنية.
رمزية مهمة
كان لوجود زيلينسكي شخصياً في واشنطن تأثير خاص، استفاد منه الزعيم الأوكراني وحلفاؤه في إدارة بايدن إلى أقصى حد، فقد صمموا المشهد بعناية، واستمتعوا بتفاصيل تنفيذه على حد وصف موقع “ذا هيل”، حيث تظهر تفاصيل الاستقبال في البيت الأبيض وتجوال الضيف المتميز في أروقة مبنى الكابيتول، الرسائل التي تكشفها الصورة المرئية بوضوح.
أول هذه الرسائل، تمثلت في ملابس زيلينسكي، فبدلاً من ارتدائه البدلة الداكنة وربطة العنق مثل بقية الرؤساء الزائرين، كانت رسالته قبل أن ينطق بكلمة واحدة هي ظهوره بالزي العسكري وقميصه الأخضر الزيتوني، وسرواله الطويل وحذائه الصلب، أنه رئيس من زمن الحرب جاء من جبهة القتال على التو طالباً المساعدة، ومن خلال الحفاظ على الشخصية التي لعبها منذ بدء الحرب، قدم زيلينسكي تذكيراً فورياً لجميع المشاهدين بمن في ذلك شعبه ومقاتلوه وحلفاوه، فضلاً عن خصومه في الكرملين، بأن الحرب مستمرة، وأنه وشعبه مستعدون لمواصلة القتال، وفقاً لصحيفة “نيويورك تايمز”.
وفي المقابل التقاه الرئيس بايدن بربطة عنق مخططة باللونين الأزرق والأصفر في إيماءة إلى الألوان الوطنية لأوكرانيا، بينما ارتدت زوجته معطفاً أزرق سماوياً تضامناً مع أوكرانيا، وفي خطاب الزعيم الأوكراني داخل الكونغرس الذي تخلله تصفيق حاد من أعضاء كلا الحزبين، وصل إلى ذروته العاطفية عندما قدم للكونغرس علماً لأوكرانيا أتي به من الخطوط الأمامية في دونباس ووقع عليه الجنود والضباط الأوكرانيون على خط النار.
وعلى رغم أن هذه الرمزية قد لا تسهم في إقرار المساعدات لبلاده تلقائياً، فإن هذه الصور تؤكد التضامن بين الولايات المتحدة وأوكرانيا بطريقة فورية وعاطفية، وتضع الرافضين لمزيد من المساعدات في موقف سياسي صعب.
سياسة عارية
وعلى رغم خطاب زيلينسكي في الكونغرس وتأكيده أن المساعدات الأميركية المشكورة ليست عملاً خيرياً أو إحساناً للأوكرانيين بقدر ما هي استثمار في الاستقرار العالمي والديمقراطية، وأنهم يتعاملون معها بمسؤولية، إلا أنه كانت هناك عناصر سياسية عارية للزيارة وتوقيتها، بحسب ما اعترف البيت الأبيض بذلك بشكل غير مباشر في الليلة التي سبقت وصول زيلينسكي، حيث قال مسؤول كبير في الإدارة للصحافيين إن الزيارة ستكون دفعة مهمة من الزخم الذي يبدو أن لديه القدرة على تهدئة الانتقادات، على الأقل في المدى القصير.
ويعني ذلك أن الذين يجادلون ضد 45 مليار دولار جديدة من المساعدات الأميركية لأوكرانيا أصبحوا في وضع لا يحسدون عليه عندما وضعوا وجوههم في مواجهة زعيم يقاتل في حرب مريرة، ويحظى بإعجاب دول الغرب، وأظهر شجاعة شخصية لا يرقى إليها الشك، ومن خلال خطابه في الكونغرس أصبح في مركز العالم السياسي الأميركي، ما يجعلهم في موقف دفاعي، على الأقل في الوقت الراهن.
وبينما قد يكتسب المعارضون الجمهوريون للمساعدات الأميركية السخية زخماً سياسياً في الأشهر المقبلة، قدم زيلينسكي مبادرات كبيرة للجمهوريين، حين سار على خط رفيع، ولم يربط نفسه بشكل وثيق بالرئيس الأميركي في جعل دعم الولايات المتحدة للحرب يبدو وكأنه جهد للديمقراطيين فقط، إنما أيضاً من كبار الجمهوريين، بمن فيهم زعيم الأقلية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل، والجمهوري البارز في لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب، مايكل ماكول، كما وجه رئيس أوكرانيا الشكر للذين زاروا كييف من كلا الحزبين، وشدد على الحاجة إلى دعم الحزبين في مجلسي النواب والشيوخ.
نزاع مستمر
ومع ذلك، ليس هناك ضمانة في أن المساعدات الأميركية سوف تسير كما هي الآن بعد سيطرة الجمهوريين على مجلس النواب، إذ يؤكد المشككون منهم أن الولايات المتحدة ليس لديها مصالح حيوية في أوكرانيا، وأن تدفق الأموال نحو كييف مفرط في السخاء، ومن المحتمل أن يكون ملوثاً بالفساد، وأن الحرب تصرف الانتباه عن عدد كبير من المشكلات في الداخل الأميركي والتي تتطلب الاهتمام.
غير أن موقف بايدن مختلف تماماً، ويصر على أن واشنطن ستظل داعمة لأوكرانيا مهما استغرق ذلك، كما ينظر البيت الأبيض إلى الحرب في أوكرانيا على أنها صراع لا يمكن خسارته ببساطة، خوفاً من أن هزيمة أوكرانيا ستشجع بوتين وتكشف الضعف الأميركي لمنافسين وخصوم مثل الصين وإيران.
مصير الحرب
ومن الواضح أن السؤال عن كيفية انتهاء الحرب غير واضح حتى الآن، بالنظر إلى أن بوتين يبدو مصمماً على عدم التراجع، وأن فرص تحقيق نصر صريح لأوكرانيا تبدو ضئيلة، ومع ذلك قدم خطاب زيلينسكي أمام الكونغرس تلميحاً غامضاً حين قال إن أوكرانيا قدمت مقترحات من عشر نقاط لم يقل ما هي، لكنه أشار إلى أنه ناقشها مع بايدن، وكان الرئيس داعماً لها، كما تحدث أيضاً عن قمة لم يفسرها.
ومع ذلك، فقد بدا واضحاً أيضاً أن السلام كان بعيداً، ففي نفس اللحظة التي قال فيها بايدن إن زيلينسكي مستعد للسعي لتحقيق سلام عادل، أوضح بايدن أن بوتين ليس لديه أي نية أو استعداد لوقف هذه الحرب، كما أن تأكيد زيلينسكي أن القضية الرئيسة التي طرحها على الكونغرس هي دعم أوكرانيا العام المقبل، يعد اعترافاً آخر من القادة بأنه من غير المحتمل أن تنتهي الحرب قريباً.
حرب الشتاء
ومع استعداد أوكرانيا للسنة الثانية من الحرب، تلوح في الأفق احتمالات مأزق صعب في حرب الشتاء المقبلة، إذ يعتقد المسؤولون في واشنطن أنه مع تعزيز روسيا لدفاعاتها وتعلم الدروس من الأشهر العشرة الماضية، ستجد أوكرانيا صعوبة أكبر في استعادة الأراضي من القوات الروسية التي تركز على الدفاع عن مكاسبها المتبقية على الأرض بدلاً من التوغل بشكل أعمق في البلاد.
وعلى الرغم من الهجمات الروسية على إمدادات الطاقة المدنية، لا تزال أوكرانيا تحافظ على الزخم في الخطوط الأمامية منذ سبتمبر (أيلول)، لكن من المرجح أن يتغير تيار الحرب في الأشهر المقبلة، حيث تعمل روسيا على تحسين دفاعاتها، ودفع المزيد من الجنود إلى الخطوط الأمامية، مما يجعل من الصعب على أوكرانيا استعادة مساحات شاسعة من الأراضي التي فقدتها هذا العام، وفقاً لتقييمات حكومية في الولايات المتحدة.
طريق مسدود
كل هذه العوامل تجعل السيناريو الأكثر احتمالاً لدخول السنة الثانية من الحرب هو طريق مسدود، حيث لا يستطيع أي من الجيشين الاستيلاء على كثير من الأراضي على رغم القتال العنيف، ووفقاً لـ”إيفلين فاركاس”، المسؤولة السابقة في البنتاغون والمتخصصة في شؤون روسيا، قد يكون من الأسهل بكثير على أوكرانيا الدفاع عن الأراضي بدلاً من شن هجوم لاستعادة الأراضي التي سيطرت عليها روسيا.
وعلى رغم تفوق الجيش الأوكراني في الأشهر الأخيرة على نظيره الروسي، فإن كبار المسؤولين الأوكرانيين حذروا من احتمال شن هجوم روسي كبير، بينما يعتقد خبراء في حرب أوكرانيا أن روسيا ليس لديها القوات الجاهزة لأي هجوم كبير في الأشهر القليلة المقبلة.
ويشير مسؤولون أميركيون إلى أن أوكرانيا ستتجنب على الأرجح إرسال جيشها مباشرة إلى شبه جزيرة القرم، وستعتمد بدلاً من ذلك على عمليات سرية على غرار الهجوم على جسر مضيق كيرتش الذي أدى إلى تدمير خط إمداد روسي رئيسي، والضربات الجوية لمهاجمة المواقع العسكرية الروسية في شبه جزيرة القرم، بهدف منع الروس من نقل المزيد من القوات أو المعدات الدفاعية إلى مناطق أخرى.
لا منتصر
ومع ذلك، فإن قدرة كييف على شن ضربات فعّالة ضد القواعد وخطوط الإمداد الروسية لن تكون كافية لطرد قوات موسكو من أجزاء البلاد التي ركزت فيها قواتها، ويقول مسؤولون أميركيون إن أي اختراقات من قبل القوات الأوكرانية في الأشهر القليلة المقبلة، من غير المرجح أن تؤدي إلى انهيار واسع للجيش الروسي، لكن من غير المحتمل أيضاً أن تحقق روسيا أي شيء يشبه نصراً عسكرياً واسعاً في أوكرانيا.
ويرى فريدريك كاجان، الباحث في معهد أميركان إنتربرايز، أن هذه الحرب تفضل الأكفاء على غير الأكفاء، كما تفعل جميع الحروب، والروس لم ينجحوا لأنهم يظهرون عدم كفاءتهم المعتادة، لكن المسؤولين الأميركيين يقولون إن هناك أدلة على أن الكرملين بدأ أخيراً في التعلم من أخطائه، حيث كلف جنرالاً واحداً مسؤولاً عن الحرب هو سيرجي سوروفكين الذي ينفذ عمليات عسكرية معقدة بشكل أكثر كفاءة، حيث موسكو نفذت ضربات جوية مكثفة على الخطوط الدفاعية للجيش الأوكراني، مما أدى إلى زيادة خسائره.
وعلى رغم عدم اكتمال التعبئة الروسية الجزئية الأولية لنحو 300000 جندي احتياطي، فإن الأعداد الهائلة تُحدث فرقاً على طول الخطوط الدفاعية، كما تقوم القوات الروسية بالحفر في المواقع الدفاعية، وبناء الخنادق، وتخلوا عن المناطق التي تتطلب أعداداً أكبر من القوات للاحتفاظ بها، وانتقلوا بدلاً من ذلك إلى مواقع يسهل تأمينها.
اليد العليا
ويعتبر دارا ماسيكوت، باحث السياسات البارز في مؤسسة راند الدفاعية، أن الجنرال سوروفيكين يختبر أيضاً تكتيكات جديدة للقوات الجوية الروسية، بما في ذلك الطريقة التي تطلق بها الصواريخ على أوكرانيا لمحاولة إرباك دفاعاتها الجوية، ومن المرجح أن تؤدي هذه التكتيكات الروسية الجديدة إلى طريق مسدود، مما يترك كلا الجانبين يتصارعان على من ستكون له اليد العليا إذا بدأت أي مفاوضات حقيقية.
فيما اعتبر سيث جونز، نائب الرئيس الأول في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، أن الحرب أصبحت منافسة متزايدة بين القاعدة الصناعية الغربية والقاعدة الصناعية الروسية، مع بعض المساعدة من الإيرانيين والكوريين الشماليين وبعض الدول الأخرى.
وخلال رحلته، طلب الزعيم الأوكراني أسلحة بعيدة المدى رفضت الولايات المتحدة وأوروبا تقديمها حتى الآن، حيث لم تكن الولايات المتحدة راغبة في إعطاء صواريخ طويلة المدى، لأن مداها يمكن أن يصل إلى عمق الأراضي الروسية، ومن المرجح أن تنظر إليها موسكو على أنها خطوة تصعيدية، وإذا استخدمت كييف الصواريخ لضرب موسكو، فإن البيت الأبيض يخشى أن توسع روسيا الحرب لتشمل بلدان حلف الناتو.
اندبندت عربي