من سوريا وإثيوبيا إلى أوكرانيا وناغورنو قره باغ، أصبح لطائرات “الدرون” المسلحة دوراً بارزاً في النزاعات الإقليمية والعالمية المسلحة التي تدار من مسافات بعيدة، وباتت صادراتها أداة دبلوماسية تستفيد منها الدول لانتزاع التنازلات وممارسة النفوذ ومواجهة الخصوم وتعزيز العلاقات العسكرية، لكن صادرات “الدرون” المتنامية أصبحت تهدد نفوذ واشنطن وأمن شركائها، وتصاعدت الدعوات في الولايات المتحدة لمساعدة الحلفاء في بناء برامج هذه الطائرات وتطوير مناهج لمواجهة تهديد الطائرات المنافسة، فكيف تغيرت الصورة وتأثرت تجارة الأسلحة؟ وهل ستتمكن واشنطن من تصحيح الوضع لصالحها؟
بين الماضي والحاضر
سيطر مصدرو الأسلحة التقليديون مثل الولايات المتحدة في البداية على إنتاج الطائرات “الدرون” مثل “إم كيو-9 ريبر”، لكن قيود التصدير المتمثلة في اتفاقية الحد من تكنولوجيا الصواريخ، والتي تعدّ الولايات المتحدة طرفاً فيها، حدّت بشدة من بيع طائرات “الدرون” التي تصنعها الولايات المتحدة حتى لأقرب حلفاء واشنطن، وشجع هذا الأمر الشركات من الدول غير الموقعة على اتفاقية الحد من تكنولوجيا الصواريخ والقذائف، مثل الصين وإسرائيل وتركيا إلى ملء الفراغ ما مكنها من الانخراط في تجارة مربحة ومؤثرة سياسياً.
ووفقاً لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، صدّرت إسرائيل بين عامي 1985 و2014 نحو 60 في المئة من طائرات “الدرون” في العالم، وكان لديها أكثر من 50 عميلاً في أفريقيا وآسيا وأوروبا وأميركا الشمالية والجنوبية، وكانت طائراتها مخصصة للاستطلاع والمراقبة، ولكن أيضاً يمكن تزويد بعضها لاحقاً بأسلحة هجومية.
تركيا وإيران
ولكن بعد سنوات من استيراد طائرات “الدرون” الإسرائيلية، طورت تركيا أنظمة محلية متقدمة، مثل “بيرقدار بي تي 2” عام 2010 والتي يمكنها القيام بمهام الاستطلاع والمراقبة، ولكن أيضاً إطلاق الصواريخ والقنابل، وفي عام 2022، استخدمت أوكرانيا هذه الطائرة التركية لتدمير أنظمة المدفعية والدبابات والعربات المدرعة الروسية، واعتباراً من عام 2022، امتلكت 14 دولة على الأقل “بيرقدار بي تي 2″، وسعت 16 دولة أخرى لشرائها.
وبحسب تقرير نشره معهد الولايات المتحدة للسلام، الشهر الماضي، فقد طورت إيران صناعة قوية لطائرات “الدرون” بعد عقود من استيراد قواتها العسكرية المعدات الدفاعية للاستخدام المحلي، لكن بحلول خريف العام الحالي، كانت طهران قد صدرت طائرات “درون” أو تكنولوجياتها إلى خمس دول في أربع قارات بالإضافة إلى سبع ميليشيات تابعة لها في الشرق الأوسط، كما أفادت وكالة الاستخبارات الدفاعية الأميركية هذا العام بأن إيران نشرت أكبر ترسانة من هذه الطائرات والصواريخ في الشرق الأوسط، وقال اللفتنانت جنرال سكوت بيرييه مدير الوكالة للجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ إن “الدرون” الإيرانية غير مكلفة ومتعددة الاستخدامات.
وأشار فرزين نديمي خبير الأسلحة في معهد واشنطن إلى أن إنتاج إيران للمركبات غير المأهولة المعروفة باسم الطائرات المسيرة بلغ مرحلة النضج خلال أواخر التسعينات، وعلى رغم من أن الاستخدامات الأولى في الخارج لم تكتشف حتى أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، إلا أنه بحلول عام 2022، غيّرت الطائرات الإيرانية التوازن الاستراتيجي بدرجات متفاوتة في مناطق الحروب في أوروبا وأفريقيا وآسيا.
وكانت أكبر صادرات إيران هي طائرات “شاهد-136” الانتحارية بعيدة المدى وطائرات “مهاجر 6” الهجومية قصيرة المدى التي صدرتها إلى روسيا بدءاً من أغسطس (آب) الماضي لاستخدامها في أوكرانيا، بينما باعت إيران طائرات مسيرة لإثيوبيا في عام 2021 لاستخدامها ضد متمردي “تيغراي”، وقبل ذلك أطلقت طهران عملية سرية، عام 2014، لتزويد المتمردين الحوثيين في اليمن بمكونات طائرات “درون” غير مجمعة ومعرفة فنية، وفي وقت مبكر من عام 2008، نشر السودان طائرة “أبابيل-3” الإيرانية ضد الحركة الشعبية لتحرير السودان والمتمردين في دارفور.
حقبة جديدة
ويظهر الصراع في أوكرانيا ومناطق النزاع الأخرى حول العالم كيف أصبحت صادرات الطائرات المسيرة أداة دبلوماسية تستفيد منها الدول المنتجة لزيادة نفوذها العالمي، مثلما استفادت الحكومات من صادرات الأسلحة عبر التاريخ كأداة دبلوماسية، بالإضافة إلى ملء خزائن الدولة بالأموال. وخلال السنوات القليلة الماضية، بدأت حقبة جديدة من تجارة الأسلحة في الظهور، ويقوم المصدرون الجدد مثل إيران وتركيا بإزاحة موردي الأسلحة التقليديين ويستخدمون صادرات طائرات “الدرون” لتوسيع نفوذهم خارج حدودهم، ما يهدد نفوذ واشنطن وأمن شركائها ويتطلب من صانعي السياسة في الولايات المتحدة مساعدة الحلفاء في بناء برامج لإنتاج هذا النوع من الطائرات مع تطوير مناهج أخرى لمواجهة تهديد طائرات “الدرون” المنافسة.
دبلوماسية “الدرون”
ويعود سبب تزايد دبلوماسية “الدرون” إلى أنها تلبي الطلب المتزايد لدى الدول المختلفة من هذه الأسلحة واقتناع القادة الدوليين بأن طموحاتهم الدفاعية وفي السياسة الخارجية تتوقف على امتلاك أسلحة يتم التحكم فيها عن بعد، بعدما غيرت هذه الطائرات طابع الصراع الحديث من خلال السماح للدول بإظهار القوة، مع تقليل المخاطر على الأفراد المقاتلين، وإبقاء الطواقم بعيدة عن الخطوط الأمامية، كما تسمح طائرات “الدرون” للحكومات بشنّ هجمات خطيرة أو تنفيذ مهمات جمع معلومات استخباراتية قد لا تستطيع شنها بطريقة أخرى.
وعلى سبيل المثال، كثيراً ما تستخدم روسيا هذا النوع من الطائرات بدلاً من الطائرات الهجومية المأهولة لضرب أهداف أوكرانية جيدة الدفاع، كما توفر دعماً جوياً ورؤية شاملة للقوات البرية، والتي غالباً ما تقلب الميزان أثناء المعارك، فضلاً عن أنها أرخص وأسهل في التشغيل والصيانة من الصواريخ أو الطائرات المأهولة، ما يجعل من الأسهل على الدول دمج “الدرون” في العمليات العسكرية.
وأثبت استخدام “الدرون” في النزاعات الأخيرة فاعلية واضحة، فقد أظهرت لقطات من أوكرانيا وناغورنو قره باغ وهي منطقة متنازع عليها بين أرمينيا وأذربيجان، طائرات “درون” تضرب أهدافاً حيوية بثمن بخس، ما دفع الجيوش الأخرى إلى إضافة طائرات موجهة عن بعد إلى ترساناتها، كما بدأت بعض الدول في بناء برامج محلية لهذه الطائرات، لكن البعض الآخر لجأ إلى الموردين الدوليين.
في الوقت نفسه، عززت الدول الأخرى التي لم تكن تقليدياً من مصدري الطائرات برامج إنتاج الطائرات المسيرة وباعت إيران منها إلى دول أخرى وجعلتها متاحة لوكلائها من “حزب الله” و”الحوثيين”، وبالمثل، فإن برنامج “الدرون” التركي الذي تم تطويره جزئياً لتقليل الاعتماد على موردي الأسلحة الأجانب، سرعان ما صنع لنفسه اسماً من خلال “بيرقدار بي تي 2” التي نشرتها تركيا لأول مرة ضد القوات الكردية في العراق وسوريا.
تعميق العلاقات مع المشترين
ويؤدي بيع الطائرات المسيرة ليس فقط إلى تلبية الطلب العالمي المتنامي، وإنما أيضاً إلى زيادة القوة الدبلوماسية للدولة المصدرة بثلاث طرق مهمة ومتكاملة في كثير من الأحيان حسبما يقول إيريك غرينبيرغ أستاذ مساعد التطوير المهني في قسم العلوم السياسية بمعهد “ماساتشوستس” للتكنولوجيا، أولها تعميق العلاقات مع الحكومات التي تشتريها، ذلك لأن بيع طائرة “درون” يستلزم تدريباً طويل الأمد ومساعدة لوجستية واتفاقيات صيانة لها تأثيرات دائمة، وبالتالي تصبح الدولة المستوردة معتمدة على الجهة الموردة وتحديثاتها المستمرة للطائرات وقطع الغيار.
كما يقوم المصدرون بتدريب أطقم تشغيل الطائرات المسيرة في الدول المستوردة وبناء علاقات مع فرق المتدربين الذين تستمر ترقياتهم في سلّم القيادة العسكرية في دولهم، وبالتالي تنتج هذه الاتصالات مسارات جديدة يمكن من خلالها للدولة المصدرة التأثير في صنع السياسات، ولهذا لم يكن من المستغرب أن تعلن إحدى وسائل الإعلام الإيرانية التابعة للحرس الثوري أن صادرات إيران من هذه الطائرات تعمق نفوذها الاستراتيجي على الصعيد الدولي.
وتعمل الدول المصدرة لهذه الطائرات على تعزيز هذه العلاقات بشكل متزايد من خلال فتح مصانع لتجميعها في الخارج، فقد أنشأت إيران خطوط إنتاج في طاجيكستان وفنزويلا، وتخطط تركيا لبناء مصنع “بيرقدار بي تي 2” في أوكرانيا، كما وصف جنرال إيراني افتتاح المصنع في طاجيكستان بأنه نقطة تحول في العلاقات بين البلدين، ومن الناحية الواقعية قد تعمل هذه الطائرات كبوابة تصدير تمهد الطريق لنقل أسلحة أخرى على نطاق أوسع في المستقبل، إذ تدرس روسيا على سبيل المثال شراء صواريخ باليستية من إيران.
مواجهة المنافسين
ثانياً، تساعد صادرات الطائرات المسيرة الدول المصدرة على التنافس مع الدول الأخرى، وفي بعض الحالات، يسمح تصديرها للدول المصدرة بتحدي أعدائها، وعلى سبيل المثال، ساهمت عمليات نقل المسيرات التركية إلى أذربيجان في هزيمة أرمينيا في حرب ناغورنو قره باغ عام 2020، ما أجبر أرمينيا على التنازل عن الأراضي، وفي حالات أخرى، يسمح نقل “الدرون” للدول المصدرة من الانخراط في حروب بالوكالة في مناطق أبعد، فعندما تبيع إيران مسيرات لروسيا، فإنها تدعم الهجمات على أوكرانيا التي تساندها الولايات المتحدة، وفي الوقت نفسه، تُظهر القدرات التي يمكن أن تستخدمها إيران ضد أميركا في صراع مستقبلي، الأمر الذي ينطوي على أخطار سياسية وعسكرية، تدرك واشنطن تداعياته كل يوم.
وعلى رغم أن صادرات إيران منها تسببت في فرض عقوبات غربية جديدة ضدها، ودفعت الولايات المتحدة وحلفاءها إلى تطوير إجراءات مضادة، إلا أن طهران تعتبر أن تعزيز العلاقات مع روسيا يفوق هذه المخاطر.
ومع تنويع مصدري “الدرون” لعمليات الإنتاج في مصانع خارج أراضيها، تصبح دبلوماسية “الدرون” أكثر مرونة وأقل عرضة للخطر من المنافسين، ففي حين قصفت إسرائيل منشآت إنتاج طائرات مسيرة في إيران، إلا أنها قد تجد أنه من الخطورة مهاجمة المصانع الإيرانية في البلدان التي تربطها بها علاقات دبلوماسية ودية، مثل طاجيكستان.
انتزاع امتيازات
ثالثاً، تستخدم الدول المصدرة توريد الدرون لانتزاع الامتيازات من المشترين، فوفقاً لموقع “المونيتور” الاخباري، أدى بيع تركيا 20 طائرة مسيرة إلى دولة شرق أوسطية، إلى منح أنقرة نفوذاً كافياً للتأثير على المسؤولين في هذا البلد لتقييد استخدام زعيم مافيا تركي بارز وسائل التواصل الاجتماعي في هذا البلد، ومنعه من الحديث عما يعتبره مخالفات في تركيا.
وخلال الشهر الجاري، أعلن مسؤولون في الحكومة الأميركية أن روسيا تزود إيران الآن بمستوى غير مسبوق من المعدات العسكرية المتطورة التي يُحتمل أن تشمل الجيل الخامس من مقاتلات “سوخوي-35” المتعددة المهام، ويرجع ذلك جزئياً إلى نقل إيران مسيرات لمساعدة روسيا بكثافة في حربها ضد أوكرانيا.
تهديد للاستقرار
ومن خلال تعميق العلاقات مع الدول المستوردة ومواجهة الخصوم وانتزاع التنازلات، تهدد دبلوماسية “الدرون” الاستقرار الإقليمي وتتحدى تأثير مصدري الأسلحة التقليديين المعروفين مثل الولايات المتحدة، إذ إن إيران تسلح بشكل روتيني دولاً مثل فنزويلاً والسودان وسوريا التي لم تكن قادرة على الحصول على طائرات “درون” بسبب العقوبات وغيرها من الحواجز السياسية.
كما تسمح الطائرات المسيرة التي حصلت عليها هذه الدول بإعادة إشعال الصراعات المجمدة، وانتهاك حقوق الإنسان، وتقويض جهود حل النزاعات بقيادة دولية، وعلى سبيل المثال، انتقد نشطاء ومشرعون في واشنطن بيع تركيا “درون” من طراز “بيرقدار بي تي 2” لإثيوبيا لتمكينها من شنّ ضربات قتلت عشرات المدنيين حسبما ذكرت وسائل إعلام أميركية.
أكثر من سلاح
ومع تزايد استخدام الدول لهذه الطائرات كوسيلة للمنافسة والتأثير بين الدول، سيصارع صانعو السياسات في الولايات المتحدة والغرب عموماً حول كيفية الرد على التطور السريع لهذه النوعية من الأسلحة والتي أصبحت ترتبط بمزيد من النفوذ والتأثير، وفي بعض الحالات، سوف تتنافس الدول المصدرة على العملاء أنفسهم، وقد يحصل الفائزون بعقود التصدير على وضع شريك أمني مفضل بالنسبة للمشترين، ما يجعل من الصعب على الدول الأخرى المنافسة ممارسة نفوذها.
وفي حالات أخرى، قد تحتاج الدول إلى مساعدة حلفائها وشركائها في الدفاع عنها ضد طائرات “الدرون” التي يستخدمها الخصم، ففي الحرب الدائرة في أوكرانيا، كثف أعضاء حلف “الناتو” شحن معدات الدفاع الجوي إلى كييف بعد أن حصلت موسكو على طائرات مسيرة إيرانية، ومع ذلك، يتضمن العديد من هذه الأنظمة إطلاق صواريخ باهظة الثمن لإسقاط طائرات مسيرة أرخص بكثير، ولهذا من المرجح أن يتطلب التنافس في دبلوماسية “الدرون” تطوير رد فعل يشمل توفير أنظمة مضادة لمسيرات منخفضة التكلفة للدول المعرضة لتهديد هذه الطائرات من الخصوم.
تعزيز المواجهة
ويشير موقع “فورين أفيرز” إلى أن الحرب في أوكرانيا سلطت الضوء على الأهمية المتزايدة لطائرات “الدرون” بالنسبة للأمن الدولي، وأن الحفاظ على الميزة، يتطلب من الولايات المتحدة وحلفائها الحد من تصدير الدول المارقة مثل إيران لها من خلال العقوبات وضوابط التصدير.
كما يجب على الولايات المتحدة في الوقت نفسه تصدير المزيد منها ومن الأنظمة المضادة للطائرات إلى الحلفاء لمساعدتهم على بناء برامج لتصنيع “الدرون” الخاصة بهم، ما يحدّ من احتمال لجوء هذه الدول إلى موردين آخرين، بعدما تبين بوضوح خلال السنوات الأخيرة أن المسيرات لم تعد مجرد سلاح في ساحة المعركة ولكنها أيضاً أداة دبلوماسية خطيرة.
اندبندت عربي