استمرت التظاهرات والاحتجاجات الشعبية الإيرانية لتدخل شهرها الرابع وهي أكثر ثباتا وتصميما على مواصلة المطالبة بحقوقها واهدافها في التغيير والإصلاح في إدارة الدولة وسياسة النظام الإيراني واحترام إرادة الإنسان في اختياراته وحياته ورفع المستوى المعاشي ومعالجة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وإيجاد الحلول الجذرية لها ورفع سقف المطالبات بإعادة النظر بمواد الدستور وتغييره حسب مقتضيات وتطورات المرحلة السياسية التي شهدتها إيران عبر أربعة عقود من الزمن ، وبهذا تكون الانتفاضة الشعبية قد أخذت مسارات ميدانية لم تشهدها الساحة الإيرانية في مجمل الاحتجاجات التي شهدتها سنوات 2009_2017_2019 باتساع هذه الانتفاضة وطبيعتها التي انطلقت في منتصف شهر أيلول 2022 بعد مقتل الشابة الكردية مهسا اميني بحجة مخالفتها لقواعد الزي الإسلامي التي تسببت في خروج المواطنين في عموم المحافظات والمدن والقصبات الإيرانية وعلى اختلاف شرائحها وانتماءاتها القومية والمذهبية والاجتماعية مطالبة بحقوقها وتقيد عمل شرطة الاخلاق التي اتسمت أساليبها بالقوة والتشدد في مواجهة النساء والفتيات الايرانيات وشهدت الانتفاضة خروج الرحال والنساء على اختلاف أعمارهم وساندتهم تجمعات بشرية تمثلت بعمال تكرير البترول واقليات كردية وبلوشية وأخرى تشعر بالكثير من الاهمال والحرمان والتهميش .
أكدت هذه الجماهير احقيتها في الحياة الحرة الكريمة ورفض السياسيات الخارجية التي يمارسها النظام الإيراني والتي تكلف الميزانية المالية مبالغ طائلة تؤثر على طبيعة الواقع الاقتصادي القائم والتي تستخدم لتنفيذ المشروع السياسي الإيراني التوسعي الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط والوطن العربي وتصعيد المطالبة بإجراء استفتاء شعبي على مواد الدستور وتغييره وهي المطالب التي لاقت الدعم والمساندة من ( مولوي عبد الحميد ) أمام اهل السنة في مدينة زاهدان وحركة الحرية الإيرانية وبعض المفكرين والسياسين المعارضين وأصحاب المراكز والدراسات البحثية الذين رأوا أن الدستور لم يضعه رجال فقهاء في القانون وإنما وضع من اهواءواراء رجال الدين، وجوبهت هذه الآراء والمطالب بالرفض الرسمي الذي عبر عنه الرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي في كلمة له في الثالث من شهر كانون الأول 2022 بقوله( انه لا يمكن المساس بالدستور وخاصة بمبدأ الحكومة الإسلامية الذي يدعو المحتجون إلى إلغائه ومبدأ أن يكون النظام جمهوريا لإستبعاد عودة البلاد إلى نظام الملكية ) ، ومع كل هذه التصريحات وردود الأفعال والممانعة في الاستماع إلى صوت الشعوب الإيرانية التي استمرت في فعالياتها الشعبية بعد أن لاقت التأييد والمأزرة والتعاطف الجماهيري والمساندة لها في المدن الرئيسية ( طهران واصفهان وتبريز وكرج ومشهد وسيزار) التي ساهمت في الاعتصام المدني وخلق المحلات التجارية والأسواق الشعبية والتأييد الميداني الفعال الذي أبداه عمال شركة خزانات بتروكيماويات جنوب غرب إيران البالغ عددهم (500) عامل ، إضافة إلى التأييد الدولي الذي حظيت به الانتفاضة الشعبية والتي جعلت صحيفة ( تايم الأمريكية ) تختار المرأة الإيرانية لتكون ( بطلة عام 2022) كونها وحدت الرأي العام الإيراني وساهمت في تعزيز وحدة الصف الداخلي والمناداة بحقوق الشعوب الإيرانية وجعلت قضيتها تحظى باهتمام دولي وإعلامي واسع.
رغم جميع هذه الأحداث والمواقف الرسمية والشعبية إلا أن النظام الإيراني لم يبدي اي استعداد ورغبة لإنهاء الاحتجاجات والاستماع إلى مطالب المتظاهرين بل واصل سياسة القمع والاضطهاد والتعسف والظلم الاجتماعي وتعامل مع التظاهرات بحملة واسعة من الاعتقالات وعمليات الخطف والترهيب والملاحقات الأمنية بل وصل الحد إلى القيام بإعدام العديد من شباب الانتفاضة وهذا ما شكل ردود أفعال كبيرة ومواقف دولية أدانت هذه الأفعال وأثرت بشكل واسع على موقف النظام الإيراني وعلاقاته السياسية مع دول العالم التي أقرت العديد منها وخاصة الدول الاوربية والولايات المتحدة الأمريكية عقوبات على شخصيات سياسية وعسكرية في وزارتي الداخلية والاستخبارات وفي تشكيلات الحرس الثوري الإيراني.
افصحت التظاهرات عن حالة الأرباك الشديد الذي خلفته لدى الأجهزة الأمنية الاستخبارية وعدم تمكنها من التعامل معها بأساليب إيجابية وحضارية وإنما امتدت في عمليات العنف والقسوة لأنها احست ان هذه الانتفاضة تختلف عن سابقاتها التي جرت في السنوات الماضية وان الحراك الشعبي الحالي استهدف الجانب العقائدي والثقافي والهوية الدينية للنظام الحاكم الذي أصبح يشكل عبئا ثقيلا في حياة الشعوب الإيرانية بسبب الأسلوب السياسي في إدارة الأزمات الداخلية وحالة العقم الذي لا تجد فيه أدوات النظام حلا جذريا لمعالجتها او الحد منها حتى وصلت نسب الفقر والبطالة في المنظومة الاجتماعية الإيرانية إلى 60% وأصبحت نسبة التضخم تشكل 35% مع انخفاض مستمر للعملة الإيرانية وضعف في عمليات تصدير الطاقة بسبب العقوبات الاقتصادية الأمريكية وعدم تمكن النظام من إيجاد مفاعل حقيقية لتسوية ميدانية للبرنامج النووي بسبب سياسة التعنت والتسويف التي بيديها تجاه جميع المبادرات والتسويات التي قدمها منسق العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي.
لم يتمكن النظام الإيراني من إثبات نواياه الحقيقة في قراره الذي اتخذه المدعي العام الإيراني بحل شرطة الأخلاق والعمل على تنفيذه بشكل فعال مراعاة لمطالب المتظاهرين بل امتدت أيادي الأجهزة الأمنية لترتيب مجزرة دموية كبيرة في مدينة زاهدان جنوب شرق إيران بعد عدة أسابيع من الاحتجاجات أدت إلى مقتل ستة أشخاص وجرح العشرات بعد أن تم فتح النار على الجموع الغفيرة من الشباب الإيراني المنافس.
كلما تعاظمت الأحداث واشتدت المواجهات فان مستقبل الوضع الداخلية إيران سيبقى شائكا وملتهبا وقد يؤدي إلى إحداث وصراعات أشد داخل المنظومة السياسية واروقة الحكم الإيراني تنعكس سلبيا على الواقع الميداني لأبناء الشعوب الإيرانية.
وحدة الدراسات الايرانية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية