في سبتمبر (أيلول) 2022، توفيت مهسا أميني، وهي كردية إيرانية تبلغ من العمر 22 سنة، بعد قيام الشرطة باحتجازها لارتدائها الحجاب بشكل غير لائق. لم تكن أميني أول امرأة يقبض عليها ولا هي أول شخص قتل على يد الشرطة. لكن موتها أشعل حركة احتجاجية كانت تعبيراً للغضب والإحباط العامين اللذين باتا يتراكمان منذ أشهر. كان المزارعون يشكون من نقص المياه، والطلاب من انعدام الحرية، والمدرسون من قلة الأجور، والمتقاعدون من قلة المزايا الحكومية. قبل عامين، أوردنا على هذه الصفحات أن إيران كانت أضعف مما كان يعتقد عديد من المحللين وصناع السياسة الغربيين. تشير احتجاجات اليوم إلى أننا كنا على حق. تتمتع الجمهورية الإسلامية بالمرونة ولكنها ليست منيعة أمام القوى الاجتماعية الناشطة في المجتمع الإيراني.
منذ نشأته قبل أكثر من أربعة عقود، تعرض النظام الديني الإيراني إلى هزات عدة. في عام 1999، خرج الطلاب إلى الشوارع للاحتجاج على إغلاق صحيفة إصلاحية. في عام 2009، وبعد تزوير في الانتخابات أعيد انتخاب محمود أحمدي نجاد رئيساً مما أدى إلى اندلاع “الحركة الخضراء”، وهي ثورة للطبقة الوسطى تدعو إلى انتخابات نظيفة. وفي عامي 2017 و2019، أدى ارتفاع أسعار الوقود والخبز إلى ثورات بين الفقراء الإيرانيين. الانتفاضات السابقة كانت مجزأة بحسب الطبقات الاجتماعية. اليوم، على النقيض من ذلك، اجتمع الإيرانيون معاً تحت شعار “المرأة، الحياة، والحرية”. هذا تمرد من أجل الكرامة والحرية ومساءلة الحكومة، على غرار الربيع العربي – سلسلة من المظاهرات في البلدان العربية التي أشعلتها موت محمد بوعزيزي، بائع الفاكهة التونسي بعد إضرامه النار في نفسه. المتظاهرون الإيرانيون اليوم لا يطالبون بالإصلاح، بل يطالبون بزوال الجمهورية الإسلامية عن بكرة أبيها. يريدون تغيير النظام. يجب على الولايات المتحدة أن تساعد من بعيد عن طريق تشديد العقوبات وتحسين التواصل بين المتظاهرين.
شيطان تعرفه خير من شيطان تجهله
وانتقد المرشد الأعلى علي خامنئي الاحتجاجات ووصفها بأنها مؤامرات أجنبية، مدعياً أنها “من تخطيط الولايات المتحدة والنظام الصهيوني المغتصب”. إضافة إلى هذا الانكار المنهجي، كان رد فعل النظام التقليدي هو مواجهة المتظاهرين باستعراض سريع للقوة، وتعطيل منصات وسائل التواصل الاجتماعي لمنع التنسيق، واعتقال أبرز نشطاء الاحتجاج، ثم انتظار خمود التظاهرات تدريجاً. وعلى رغم سمعتهم المتسمة بالضراوة، إلا أن الملالي كانوا مترددين في استخدام القوة العشوائية. إنهم، مثل كل الطغاة، يخشون أن يتردد الجنود في إطلاق النار على مواطنيهم. لكن استمرار التظاهرات وانتشارها في جميع أنحاء البلاد أربك الحكومة بالتالي فقد صمدت أمام استراتيجيتها المجربة بإتقان في التعامل مع المعارضين.
هناك دلائل على أن هذه الحركة الاحتجاجية ستثبت أنها أكثر ديمومة من سابقاتها. لا تزال ثورة إيران الوليدة تفتقر إلى قادة معروفين وهيكل منظم. ولا يمكن لأية ثورة أن تنجح من دون ثوار. لكن بعد أشهر قليلة من الاحتجاجات، ظهرت مجموعات مثل “شباب طهران” ونجحت في الدعوة إلى المظاهرات. كما نظمت المعارضة إضرابات في معظم المحافظات الإيرانية: إذ أغلقت الأسواق التجارية والمحال أبوابها كبادرة تضامن مع المحتجين. مع استمرار المظاهرات، من المرجح أن تصاب قوات الأمن بالإنهاك. إن قمع المتظاهرين له تبعات نفسية.
وأدت المظاهرات الإيرانية إلى انقسام النخبة السياسية – وهو شرط أساسي آخر للتغيير الثوري. يخشى خامنئي على الأرجح من قيام عديد من المحافظين في مؤسسات الحكم من النأي بأنفسهم عن الحكومة. وقال علي لاريجاني، رئيس البرلمان السابق “يجب أن نوفر الأماكن العامة للاحتجاج ووسيلة لإجراء الحوار”. كما أصدر محمد خاتمي، الرئيس السابق، بياناً واسع الانتشار أشاد فيه بنوايا المحتجين وشعارهم. حتى “الجمهورية الإسلامية”، وهي صحيفة أسسها خامنئي، رفضت ادعاء المرشد الأعلى أن الأجانب كانوا وراء الاضطرابات: “تسببت مشكلات التضخم والبطالة والجفاف وتدمير البيئة في احتجاج الناس، من المتقاعدين والمعلمين والطلاب”. مثل هذا الدعم من السياسيين الرئيسين غير مسبوق، مما يشير إلى ضعف قبضة الجمهورية الإسلامية.
طوال هذه الأزمة، بدا النظام غير مستقر. أمضى خامنئي المسن السنوات القليلة الماضية في تطهير الحكومة من الجميع باستثناء المتملقين وهو الآن محاط بمعدومي القدرة. الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي رجل متمرد يفتقر إلى المهارة للتعامل مع المواقف المعقدة. رئيس القضاء الإيراني غلام حسين محسني إيجئي، يتأرجح بين الدعوة للحوار مع المعارضة وبين توجيه التهديدات. لقد فات أجهزة المخابرات الإيرانية بداية التمرد وفشلت في السيطرة عليه. وتسببت استراتيجية النظام القائمة على العنف المتصاعد حتى الآن في مقتل أكثر من 500 شخص، وهو ما يكفي لتوليد شهداء لكنه غير كاف لردع حركة الاحتجاج. كما أن إعدام النظام للمتظاهرين يزيد من عزلة داعميه. يبدو أن الجمهورية الإسلامية تفقد موطئ قدمها.
بمساعدة من واشنطن
كما حاججنا قبل عامين، يجب على الولايات المتحدة السعي إلى تغيير النظام في إيران. على رغم النتيجة غير المؤكدة، فقد يكون هذا هو السبيل الوحيد لإبطاء جهود إيران لامتلاك أسلحة نووية، وسيحد هذا، إن لم يكن يزيل، تدخل إيران المزمن في الشؤون الداخلية لجيرانها. لا تزال مصادر الدوافع الرئيسة للتغيير السياسي في إيران داخلية. ومع ذلك، يمكن لإدارة الرئيس الأميركي جو بايدن اتخاذ خطوات لمساعدة وتسريع وربما توجيه العملية الثورية.
أولاً، يجب على الولايات المتحدة أن تعلن رسمياً أنها ستنهي المفاوضات مع إيران بشأن عودة مفترضة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة (الاتفاق حول برنامج إيران النووي)، وهو اتفاق يبطئ تقدم إيران في السعي للحصول على الأسلحة النووية في مقابل تخفيف العقوبات. يجب على الولايات المتحدة أيضاً أن توضح أنها لن تتفاوض مع حكومة إيرانية تقوم بقمع شعبها وتزعزع استقرار جيرانها. ومن شأن مثل هذه التصريحات أن تجرد النظام من قدرته على بث الأمل بين السكان في إمكانية رفع العقوبات في ظل حكمه.
إن إغلاق باب المفاوضات علناً من شأنه أيضاً أن يفك القيد عن إدارة بايدن لتطبيق العقوبات الجاهزة بشكل كامل. يجب على الولايات المتحدة أن تستهدف المسؤولين الإيرانيين المدانين بارتكاب أفظع انتهاكات حقوق الإنسان، مما يعزز الأمل لدى الشعب الإيراني في مساءلة الحكومة. يجب أن يكون هذا مصحوباً ببيانات غير منقطعة وقوية اللهجة من حكومة الأميركية تدعم المتظاهرين وتلفت الانتباه إلى أسوأ حالات القمع.
لا تزال مصادر الدوافع الرئيسة للتغيير السياسي في إيران داخلية
يجب على الولايات المتحدة أيضاً محاولة التخلص من الرقابة وتعزيز تبادل المعلومات بين المتظاهرين. يمكن أن يساعد إرسال محطات تلقي إشارة “ستارلينك”، على النحو الذي اقترحه إيلون ماسك، في مثل هذا الجهد من خلال تمكين المعارضة من الالتفاف على رقابة النظام والحجب على وسائل التواصل الاجتماعي. تم استخدام تطبيقات برمجية أخرى، مثل “أوشاهدي” Ushahidi، لمراقبة الانتخابات في دول أفريقية جنوب الصحراء من خلال السماح للناخبين بمشاركة صور أماكن الاقتراع. يمكن إعادة استخدام مثل هذه التطبيقات للسماح للإيرانيين بمشاركة صور أعمال الاحتجاج في أجزاء مختلفة من البلاد، مما يتيح التنسيق بين مجموعات مختلفة من المتظاهرين، ومن خلال إجبار الحكومة على تفريق قواتها الأمنية وإرهاقها، مما يجعل من الصعب على النظام قمع المعارضة. على الولايات المتحدة أيضاً استخدام قنوات التواصل الاجتماعي الشعبية، مثل “تيليغرام” Telegram، لتزويد المعارضين بمعلومات دقيقة حول ما يجري في جميع أنحاء البلاد، بما في ذلك الاحتجاجات وانتهاكات حقوق الإنسان وعمليات الإعدام. يمكن للتوسع والاستخدام المبتكر لقنوات الاتصال هذه أن يساعدا في ظهور قادة احتجاج جدد ووأد دعاية النظام.
إضافة إلى ذلك، على الولايات المتحدة تكثيف البث عبر إذاعة صوت أميركا باللغة الفارسية وراديو فاردا وتمويل البث التلفزيوني الخاص الذي يديره المغتربون الإيرانيون، الذي يمكن أن يوفر زخماً إضافياً للاحتجاج المشتعل في شوارع المدن الإيرانية. حالياً، من المتوقع أن تنفق الولايات المتحدة أقل من 30 مليون دولار في السنة المالية 2023 على البث في إيران. هذا مثال على التأثير غير المتناسب الذي يمكن أن ينتج من مبلغ صغير من المال كهذا.
وفقاً لصحيفة “نيويورك تايمز”، في ديسمبر (كانون الأول) 2022، توقف عمال النفط وعمال الصلب عن العمل تعاطفاً مع المحتجين في إحدى أكبر الإضرابات العامة في إيران منذ عقود. يجب على واشنطن أن تبذل قصارى جهدها لدعم هذه الإجراءات ومساعدة النشطاء النقابيين على التواصل مع بعضهم بعضاً. ساهمت المساعدة الأميركية لحركة التضامن البولندية (سوليدارنوست) المناهضة للاستبداد في أواخر الثمانينيات في دفع انهيار الاتحاد السوفياتي. يمكن لجهد مواز في إيران اليوم أن يساعد في تأجيج انهيار مماثل في الجمهورية الإسلامية.
حكم النظام الإيراني البلاد لما يقرب من نصف قرن. خلال هذا الوقت، كان مرناً بشكل ملحوظ، وتحدى المطالب العامة لمزيد من حقوق الإنسان والتحديث. حتى الآن، لا يبدو أن الاحتجاجات على وشك إسقاط الحكومة، بيد أن الثورات بطبيعتها لا يمكن التنبؤ بنتيجتها. إنما من أجل مصلحة الشعب الإيراني والمصالح الأمنية الأميركية في المنطقة، يجب على إدارة بايدن أن تفعل كل ما في وسعها للتأكد من أن الإيرانيين الذين يضعون حياتهم على المحك لتحقيق التغيير ينجحون في استعادة بلادهم.
اندبندت عربي