مرة أخرى أدرك المجتمع الدولي خطورة القمع في إيران مع قضية مهسا أميني (22 عاماً) التي اعتقلت ثم لقيت مصرعها، وقد احتجزت الضحية لعدم ارتدائها الحجاب وفقاً للقواعد، وتوفيت بعد ذلك في المستشفى الذي نقلت إليه بسبب التعذيب الذي تعرضت له في مركز الشرطة.
بعد وفاة أميني انتشرت موجات الاحتجاجات في جميع أنحاء البلاد، وعلى رغم أن الأمر بدا أولاً وكأنه رد فعل ضد “إجراءات الحجاب”، فإنه تحول في ما بعد إلى احتجاجات ضد الحكومة الإيرانية، أي نظام الملالي.
ولحد الآن توفي ما يقرب من 500 مواطن بمن فيهم أولئك الذين أعدمهم النظام الإيراني أو أطلق النار عليهم في الشوارع، وعلى رغم الإجراءات القاسية للنظام فإن التظاهرات لا تزال مستمرة، وعندما ننظر إلى هذه التظاهرات في حجمها الحالي لا يبدو لنا أنها ستؤدي إلى تغيير في النظام.
لكن لا ينبغي أن ننسى أنه للمرة الأولى في إيران تنتشر تظاهرات ضد النظام في جميع أنحاء البلاد وتكتسب دعماً خارجياً بهذا الحجم، فكيف نرى موقف تركيا أو بالأحرى السلطات في أنقرة من هذه الاحتجاجات المستمرة في إيران اليوم؟
وسنحاول النظر إلى الموضوع من منظور مختلف، لذا أود أن أعود للوراء قليلاً، ففي صيف العام 2012 كنت على متن طائرة قادماً من القاهرة إلى إسطنبول، وعندما صعدت إلى الطائرة وجلست على مقعدي صعد إليها من ورائي وفد يضم 10 أشخاص كان من بينهم فخر الدين آلتون الذي جلس إلى جانبي ولم أكن أعرفه من قبل، وهو الرئيس الحالي لدائرة الاتصالات في الرئاسة التركية، وبالأحرى المسؤول عن الدعاية والإعلام في البلاد بشكل عام.
هذه في الواقع كانت رحلة طائرة بسيطة وكان اللقاء محض صدفة، لكن الشاهد فيها هو علاقة ذلك الأستاذ مع فخر الدين آلتون، فقد أثار ذلك المشهد في ذاكرتي مواقف أستاذي هذا أيام الثانوية حين كان يقوم 40 شقلبة أثناء تدريسه لنا ليروج لنظام الخميني ويدعونا إلى الجمعيات والنوادي الموالية لإيران في تركيا، ولذلك لم يكن من الصعب أن نفهم أن أعضاء الوفد الآخرين على متن الطائرة كانوا هم أيضاً من المؤيدين المتحمسين للنظام الإيراني.
وعندما جاء عام 2012 مع ما سمي “الربيع العربي” كان شعار “لقد أنقذنا مصر وليبيا وتونس وسيأتي دور الآخرين” يدوي في فضاء هؤلاء، وبعد سنوات من هذه الرحلة بدأت المناصب الحالية التي وصلوا إليها تلفت نظري، فبينما أصبح بعضهم من كبار مستشاري الرئيس بات آخرون إما مديري علاقات عامة في الاستخبارات التركية أو معلقين في التلفزيون أو مسؤولين في وكالة أنباء، وهلم جرا.
ولا يزال أستاذي السابق يواصل تدريب تلاميذ جدد في مركز الدراسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية (سيتا) لضخ الكوادر الإسلاموية في مناصب الدولة الحساسة.
هؤلاء جزء قليل من الخمينيين الذين تعرفت بهم خلال لقاء على متن الطائرة، ولا أشك في أن هناك كثيراً منهم في مناصب حساسة ومؤثرة داخل عمليات صنع القرار، فما هو نوع رد الفعل الذي نتوقعه من حكومة حزب “العدالة والتنمية” تجاه طهران التي تؤيدها مثل هذه الكوادر الإدارية في أنقرة؟
لم نسمع حتى الآن أي شيء من الرئيس رجب طيب أردوغان ولا من الوزراء والنواب أو قادة الحزب، لكن أليس هؤلاء هم الذين ابتهجوا أيام “الربيع العربي” بحجة أنها انتفاضة الشعوب؟ أليسوا من حوّل الشرق الأوسط إلى حمام دم من خلال الفصائل الإسلامية؟
لكن الأمر يختلف مع إيران، فخلال هذه الفترة القريبة الماضية لاحظت أن قادة حزب “العدالة والتنمية” والصحافيين والكتاب الموالين لهم يتشاركون دائماً الجملة نفسها حول إيران، وجذبني الفضول الصحافي إلى البحث عمن يقف وراء هذه الجملة التي تداولت بينهم من طريق النسخ واللصق إلى أن وجدت فخر الدين آلتون الذي كان جالساً إلى جانبي على متن الطائرة بصفته واحداً من الوفد الشديد الحماسة للنظام الإيراني، واسمحوا لي أن أنقل إلى هنا ما كتبه عام 2018 على موقع “سيتا” في ما يتعلق بالاحتجاجات في إيران آنذاك.
يقول آلتون، “ألاحظ أن الاضطرابات الداخلية في إيران تثير لدى بعضنا نوعاً من الشماتة ضدها، وهذا موقف خاطئ جداً وخطر للغاية”.
ويضيف، “إن انتقاد سياسات إيران بعد 2010 شيء ودعم جهود القوى الأجنبية في إعادة تصميم إيران شيء آخر، فالهدف في الواقع هو إحداث تغيير في الإدارة بهدوء، ومع ذلك نعلم جميعاً أن هذا لن يحدث، وإذا حدث تغيير في الإدارة مع انتفاضة الشوارع فستتبع ذلك حرب أهلية دموية، والقوى التي تقف وراء هذه العملية القذرة هي أيضاً تعرف ذلك”.
إن القارئ لهذه السطور قد يعتقد أن المتحدث باسم خامنئي هو الذي أدلى بهذا البيان، وهذا هو نص عبارات فخر الدين آلتون على صفحات موقع مركز أبحاث يعتبر مرجعاً لصانعي القرار في تركيا. لكن الأشخاص أنفسهم بمن فيهم أردوغان كانوا يهتفون إبان “الربيع العربي” في كل تجمع “دمشق، بغداد، القاهرة، مكة، المدينة المنورة، القدس، أنتم لنا، أنتم العثمانيون”.
وبتعبيرهم عن ذلك على هذا النحو كانوا يعتبرون التدخل في الشؤون الداخلية لتلك الدول أمراً مشروعاً، لكن ماذا حدث في النهاية؟ لقد اصطدموا بالحائط.
والمشكلة هنا ليست في ما إذا كانت أنقرة ستحتج على إيران أم لا، بل أردت أن أوضح العقلية التي تحكم تركيا علماً أننا إذا نظرنا إلى البنية الديموغرافية لإيران سنرى أن الأتراك هم إحدى الهويات العرقية التي تشكل سكانها، بل وصرّح علي أكبر الذي كان يشغل منصب وزير الخارجية في عهد أحمدي نجاد خلال إحدى زياراته إلى تركيا بأن 40 في المئة من سكان إيران أتراك، وهذا يعني أن هذه التظاهرات مدعومة ليس فقط من قبل أولئك المنحدرين من أصل كردي أو فارسي، ولكن أيضاً من قبل الأتراك هناك.
أوليس الأحرى بالمسؤولين في تركيا أن يدلوا ولو بتصريح قصير على الأقل في شأن القلق على سلامة أقربائهم هناك؟
بالطبع يجب أن يؤخذ بالاعتبار أن هناك جوانب اقتصادية وطاقية وثقافية واجتماعية واستراتيجية للعلاقات بين تركيا وإيران اللتين تشتركان في حدود طولها 560 كيلومتراً مربعاً، ومع ذلك فإن قرع طبول الحرب عندما يتعلق الأمر بالدول العربية كما حدث في سوريا، ثم إلقاء اللائمة على “قوى أجنبية” عندما يتعلق الأمر بإيران، لن يكون إلا ازدواجية صارخة في المواقف تنم عن مدى فاعلية إيران لدى السلطات في تركيا، وإضافة إلى ذلك كان لتركيا أخيراً تفوق ملحوظ على إيران من الناحية الاستراتيجية بخاصة في الحرب بين أذربيجان وأرمينيا، إذ كانت إيران واقفة إلى جانب أرمينيا، وكان بإمكان أنقرة تضييق الخناق على إيران في هذا السياق، لكن على العكس فقد أفسحت حكومة حزب “العدالة والتنمية” المجال دائماً لطهران التي هي ضدنا في كل مكان، وسوريا نموذجاً.
إن هذه القضية تتطلب مزيداً من الكلام حولها، لكنني أردت أن ألفت الأنظار في حدود مقالة قصيرة إلى الجهة التي يقف إلى جانبها الإسلامويون في تركيا.
اندبندت عربي
وبعد بضع محادثات ذكرت له أن الشخص الجالس أمامي كان معلمي في السابق، وعند ذلك ناداه آلتون “هنا بجانبي تلميذ سابق لك”، ثم تجاذبنا أطراف الحديث مع أستاذي والآخرين في الوفد حتى وصلنا إلى إسطنبول.