بينما كنت أكبر، كان الجميع منخرطين في السياسة. بشكل عام، شعر الناس بأنه كان لديهم بعض الرأي في تقرير ما يحدث لهم. لكن ذلك تضاءل إلى حد كبير. وأصبحنا نجد أنفسنا الآن ونحن نعيش في عصر انفصلت فيه السلطة عن السياسة، مع ما يترتب على ذلك من عواقب وخيمة. وليست الاختلالات والفوارق الشاسعة في الثروة التي نشهدها الآن سوى نتيجة عرَضية واحدة للرؤية المتضائلة للوجود الإنساني التي تشكل الآن المجتمع “الليبرالي”. والطبيعة المتضائلة لتلك الرؤية هي التي تكشف بشكل واضح عن أن “الليبرالية الغربية” أصبحت في مرحلتها النهائية.
لقد تدهورت نوعية الحياة البشرية نتيجة للأشكال البشعة من الاستغلال، حيث اخترقت السوق وفككت جميع مسؤولياتنا، وعلاقاتنا -وحتى هوياتنا- في سياق بحثها المستمر عن طرق أكثر ربحية لإعادة ترتيب الوجود البشري. وهكذا، أصبحنا عالقين في تدفق لا معنى له من التذويب والاستيلاء وإعادة التخصيص، بينما نحاول باستمرار التكيف وإعادة تشكيل أنفسنا لكي تتناسب مع احتياجات السوق. ولأن المخاوف الاقتصادية أصبحت أساسية، فإن ما يُسمح له الآن بتشكيل بوصلتنا الأخلاقية مستمد إلى حد كبير من السوق. وكما يشير زيغمونت بومان Zygmunt Bauman في كتابه “الحداثة السائلة” Liquid Modernity، فإن “أي نمط يمكن تخيله من السلوك البشري يصبح مسموحًا به أخلاقيًا في اللحظة التي يصبح فيها ممكنًا اقتصاديًا”. مما يعني أن كل احتجاج غير مسموح به فحسب، بل إنه غير أخلاقي.
لا ينبغي أن نتفاجأ بحقيقة أن الليبرالية قد تحالفت مع الرأسمالية المتقدمة وربطت حظوظها معها وقادتنا إلى هذا المأزق العدمي. كانت العقيدة الليبرالية تدور دائمًا حول تقييد مطالب الطبقة العاملة وإخراجها عن سكتها أكثر من انشغالها بالمساعدة في تحقيقها، بحيث تخدم بشكل مفيد الأشخاص الأثرياء كحصن ضد الديمقراطية. وقد أدرك ديوي Dewey هذا التناقض وراءً في ثلاثينات القرن الماضي. وكتب في كتابه “الليبرالية والعمل الاجتماعي” Liberalism and Social Action أن الليبرالي هو “الشخص الذي يعطي الموافقة على مظالم البروليتاريا، ولكنه في اللحظة الحاسمة يركض دائمًا للاحتماء إلى جانب سيد الرأسمالية”. وربما يكون هؤلاء في منتصف “الشطيرة”، كما يُقال في المثَل، لكنهم يعرفون أي جانب هو الذي توجد فيه الزبدة لخُبزهم.
ومع ذلك، فإن لحظة التغيير، عندما أصبحت الليبرالية التي نعرفها اليوم مألوفة وواثقة، وتحولت إلى النيو-ليبرالية كانت في العام 1989. لأنه عندما سقطت الشيوعية، حدث انكماش فكري لليسار. وما ظهر في مكان السياسة الراديكالية كان الفكرة الليبرالية القائلة بأن هناك مستوى مقبولاً سياسيًا من الاستغلال. وكانت هذه فكرة تم استكشافها بحماس مع إقلاع العولمة وانخفاض الأجور الحقيقية. في ذلك الوقت بدأ المثقفون في التخلي عن التفكير الطوباوي، وسعى اليساريون السابقون إلى العمل في وظائف ناعمة في مراكز الفكر التي ترعاها الشركات. باختصار، كان ما ظهر هو “اشتراكية مناسبة للرأسمالية”، كما يصفها راسل جاكوبي Russell Jacoby بدقة في “نهاية المدينة الفاضلة” The End of Utopia. لقد قبل الممثلون السابقون للطبقة العاملة الآن بهيمنة السوق، وقدموا اقتراحات تدريجية حول كيفية تكبير الكعكة وتقاسمها بشكل أكثر إنصافًا.
ولكن، من دون وجود يسار حاد عالي النغمة يقوم بانتقادها وحثها، شرعت الليبرالية في أن تصبح مترهلة وغير ملهِمة. وفقدت أي نوع ذي معنى من الرؤية المستقبلية، كما فقدت أيضًا تقديرها للكرامة الإنسانية الذي كان التزامًا محتضَنًا بعمق في سياسة الطبقة العاملة. وكان هذا المفهوم النيو-ليبرالي للطبيعة البشرية كمورد يجب استغلاله وإعادة تشكيله، هو الذي أصبح ذا أهمية حاسمة في العلاقات الدولية. لأنه على الرغم من إصرار الديمقراطيات الليبرالية الغربية على أن حقوق الإنسان مصونة وغير قابلة للانتهاك، فإن الواقع على الأرض بدا مختلفًا تمامًا. ولذلك ليس من المستغرب أن يكون إصرار الغرب على أن تفسيره الخاص لحقوق الإنسان هو قيمة عالمية يجب على جميع البلدان تبنيها، قد خضع للفحص.
يبدو أن التحدي جاء في الوقت المناسب، حيث أتى في نهاية حقبة من التجاوزات الليبرالية الكبيرة التي كانت فيها العديد من القيم المرتبطة سابقًا بالليبرالية الكلاسيكية، مثل حرية التعبير والتسامح، غائبة بشكل ملحوظ، مما أدى إلى إفقار خطير للثقافة الأوسع. وقد تفاقمت هذه الإخفاقات فحسب خلال تفشي الوباء عندما هددت مجموعة من الحكومات الغربية مواطنيها وأساءت معاملتهم، وتجاهلت سيادة القانون وتخلت عن دساتيرها. ربما كان لليبرالية يومها. وربما يكون فقدان السياسة ذات الرؤية والبصيرة قد أضر بها بشكل قاتل. لأن ما يبدو أنه ظهر هو شكل من أشكال الليبرالية الانتصارية سهلة الإفساد، والمجردة من أي حيوية، أو اتجاه، أو ضابط أخلاقي. الأمر الذي يثير بالتأكيد التساؤل عما إذا كانت هذه الرؤية الليبرالية المشوهة كافية لتكون بمثابة ضوء إرشادي للاقتصادات الرأسمالية الناشئة. بطبيعة الحال، قبل الغزو الروسي لأوكرانيا، عندما كان العالم أحادي القطب بقوة وبدا أن العولمة تسير على الطريق الصحيح، من المشكوك فيه أن تكون الديمقراطيات الغربية قد فكرت كثيرًا في نوعية الحقوق التي يتمتع بها مواطنوها. لم تكن مضطرة إلى ذلك. كان النظام الأخلاقي الذي شكلته أميركا الشركات هو اللعبة الوحيدة في المدينة. لكن هذا لم يعد واقع الحال.
بعد فترة وجيزة من الغزو، كتب المنظِّر السياسي فرانسيس فوكوياما Francis Fukuyama مقالاً في صحيفة “فاينانشال تايمز” بعنوان “حرب بوتين على النظام الليبرالي”، سعى فيه إلى حشد الدعم لليبرالية، مؤكدًا أن “روسيا بوتين لا يُنظر إليها بوضوح على أنها دولة ذات مظالم مشروعة بشأن توسع ’الناتو‘، وإنما كدولة مستاءة وانتقامية عازمة على تقويض كامل النظام الأوروبي لما بعد العام 1991”. ومع ذلك، لا يبدو أن هذا هو واقع الحال. إن الناس في بقية العالم لا يراقبون الأحداث من خلال عدسة غربية، هذا إذا فعلوا من الأساس. وقد فشل تصويتان في الأمم المتحدة كانت القوى الغربية تأمل أن ترى فيهما إدانة شديدة لروسيا، في حشد الأعداد اللازمة لتبرير مثل هذه النتيجة، على الرغم من رفض مطالبة روسيا بإجراء اقتراع سري.
وفي مكان لاحق من المقال، يؤكد فوكوياما على حاجتنا جميعًا إلى القتال من أجل القيم الليبرالية. ومع ذلك، فإن إحدى الصعوبات التي قد يواجهها في هذا الصدد هي أنه تم في ظل الليبرالية تقييد حريات العديد من المواطنين بشكل خطير، وقد لا يكون لديهم الدافع للدفاع عن النظام الذي قيدهم وأساء معاملتهم. وثمة مشكلة أخرى لديه تذهب إلى قلب الليبرالية نفسها؛ بالتأكيد بالشكل الذي هي عليه الآن. وهو أن الليبرالية قد استُخدمت لتجاوز الرغبات السياسية واستبدالها بشيء أقل تكلفة. في الماضي احتفل فوكوياما بحقيقة أن تلبية مطالب المستهلكين في أحضان الليبرالية أصبحت أولوية قصوى، مع الاعتراف طوال الوقت بأنه من خلال هذه الهندسة الاجتماعية، قد يفقد الناس شجاعتهم، وجرأتهم وخيالهم.
لذلك من الغريب أن يتم الآن إخراج قيم “الليبرالية الكلاسيكية” من الخزانة في محاولة لتحريك الجماهير إلى العمل، عندما تكون تلك القيم بالضبط هي التي تجاهلها الغرب في العصر النيو-ليبرالي. عندما كانت العولمة مطروحة، لم يكن مهمًا أنه يتم تضييق رؤى الناس واستغلال حيواتهم. لم يكن يهم أن الحرية قد اختُزلت إلى مجرد أداء لأنها لم تعد ثمة حاجة إلى هؤلاء الناس كمواطنين. كانت الأشياء القابلة للاستغلال بلا توقف من الكيانات المستهلِكة هي كل ما احتجنا أن نكونه.
في الفقرة الأخيرة من “نهاية التاريخ”، يقدم فوكوياما قصة رمزية مستوحاة من “الغرب الأميركي المتوحش” توضح رؤيته الجيوسياسية. وفيها يصف دول العالم بأنها عربات في قطار، تسافر على طريق متجه إلى بلدة. “سوف تدخل بعض العربات المدينة بحزم وسلاسة، بينما سيتلبث بعضها الآخر في معسكر مؤقت وراءًا في الصحراء، أو تكون عالقة في أخاديد في الممر الأخير فوق الجبال”. قد يسير البعض في الاتجاه الخاطئ، وإنما مؤقتًا فقط، وفقًا لفوكوياما، نتيجة لفقدان الإحساس بالاتجاه مؤقتًا. وقد تتعرض أخرى لهجوم من الهنود ولا تنجو. (لا يقول ما إذا كانت لدى الأميركيين الأصليين عربة لهم أيضًا). بل إن البعض ربما لا ترغب حتى في الذهاب إلى البلدة، كما يعترف. ومع ذلك، “ستكون الغالبية العظمى من العربات منخرطة في الرحلة البطئية إلى البلدة، وسيصل معظمها في النهاية إلى هناك”. لأن جميع العربات، بالنسبة لفوكوياما، متماثلة بشكل أساسي. وترجع أي اختلافات ظاهرية بينها إلى موقعها على الطريق فحسب. تلك التي دخلت البلدة “بحزم وسلاسة” هي ببساطة أكثر تقدُّمًا –تاريخيًا- من تلك التي تتخلف عن الركب. وثمة الكثير مما يمكن قوله عن قصة فوكوياما الرمزية، ولكن يبدو لي أن الجانب الأكثر لفتًا للنظر فيها هو أهمية الزخم: جميع العربات تتحرك. وهي جميعًا منطلقة بالفعل على الطريق، ويفترض أنها تبحث عن وجهة. وقد أطلقت العولمة هذه العملية، وأطلقَ الغرب العربات، والآن يجب عليه أن يقودها إلى البلدة. وتعتمد سمعة البلدة، وربما حتى بقاؤها الاقتصادي، على ذلك.
سوى أن الزخم توقف الآن. لأن عربة روسيا توقفت على جانب الطريق، ونظرت أسفل الجبل إلى البلدة وقررت أنها لا تريد الذهاب إلى هناك. إنها واثقة من وجهتها الخاصة. وهي، على أي حال، لا تحب “الشريف” البلطجي للبلدة. ومشكلة البلدة هي أن العربات الأخرى تتوقف الآن أيضًا. إنها لم تعد تقبل بأنها مضطرة إلى الذهاب إلى البلدة أيضًا -لقد انتهى التفوق المتخيل للقيم الغربية. وتدرك العربات الآن أن ثمة وجهات أخرى متاحة. لقد انتهت لحظة القطب الواحد. ما الذي يعنيه ذلك بالنسبة للأشخاص الموجودين مسبقًا في المدينة، من يدري؟ ربما سئم بعضهم التسوق، ويشرعون الآن في البحث عن وجهات بديلة. وربما يقوم البعض ببناء عرباتهم الخاصة.
سوزان روبرتس Susan Roberts: محاضرة في الفلسفة الأخلاقية وحقوق الحيوان. اشتغلت في مكافحة الصيد لعدد من السنوات، وتطوعت قبل كمنقذة للحياة البرية/ مقدمة رعاية للثعالب المريضة والمصابة. وألقت العديد من المحاضرات حول حقوق الحيوان والفلسفة لكل من الأطفال والبالغين، وهي مساهمة منتظمة في مدونة حول سياسة الحيوان -“Uproar”. خلفيتها في القانون والفلسفة. مارست العمل كمتقاضية تجارية لعدد من السنوات قبل الحصول على درجة الماجستير في القانون الطبي والأخلاقيات من كينغز كوليدج في لندن لندن والدكتوراه في الميتافيزيقيا من جامعة كنت في كانتربري. تتشكل وجهة نظرها حول حقوق الحيوان إلى حد كبير من خلال ما تراه السؤال الأوسع حول كيفية عيش الناس في العالم. تعتقد أن أي إجابة ذات مغزى على هذا السؤال تتطلب تغييرًا سياسيًا كبيرًا.
الغد