أي من السيناريوهات الثلاثة الأكثر احتمالاً للتحقق محفوفة بالصعوبات في غياب أي تسوية تفاوضية ناجحة.
***
في نهاية المطاف، كما هو الحال في أي حرب، سيكون العامل الأكثر أهمية في المسار المستقبلي للصراع الأوكراني هو ما يحدث في ساحة المعركة. وثمة ثلاثة احتمالات لمآلات الأحداث في الأساس، على الرغم من أن كل واحد منها يمكن أن يجلب في أعقابه مجموعة من العواقب المحتملة: تحقيق اختراق أوكراني؛ اختراق روسي؛ أو حالة من الجمود التي تمتد تقريبًا على طول الخطوط الحالية للسيطرة العسكرية.
مع تزايد أعداد القوات الروسية وتحصنها على طول خطوط أمامية أقصر بدعم مدفعي هائل، سيكون تحقيق الجيش الأوكراني اختراقًا تحديًا كبيرًا حقًا. ومع ذلك، فاجأ الأوكرانيون العالم في كثير من الأحيان منذ بدء الغزو الروسي بحيث لا يمكن استبعاد تمكنهم من إحراز المزيد من الانتصارات.
إذا كانت القوات الأوكرانية لتتمكن من إحداث اختراق نحو بحر آزوف بحيث تعزل شبه جزيرة القرم؛ أو إذا نجحت في استعادة جزء كبير من منطقة دونباس الشرقية الانفصالية التي دعمتها روسيا منذ العام 2014، فسيكون من المرجح أن تهدد روسيا في المقابل، وربما تنفذ، شكلاً من أشكال التصعيد الجذري. وقد يبدأ ذلك بقصف رمزي (بالصواريخ التقليدية) للقواعد الجوية لحلف “الناتو” أو خطوط الإمداد في بولندا أو رومانيا. وعلى أي حال، فإن نية الكرملين ستكون أيضًا إثارة احتمال الانزلاق نحو حرب نووية بين روسيا والولايات المتحدة.
من المرجح أن يؤدي مثل هذا الهجوم الروسي إلى رد عسكري أميركي محدود ومتناسب (على سبيل المثال، قصف قاعدة روسية في الجزء المحتل من أوكرانيا). ومع ذلك، في مواجهة خطر نشوب حرب نووية، من المرجح أن تدعو أصوات قوية في الولايات المتحدة وأوروبا إلى وقف لإطلاق النار في أوكرانيا، بحجة أن كييف حققت انتصارًا كافيًا من خلال استعادة جميع الأراضي التي فقدتها تقريبا منذ الغزو الروسي في شباط (فبراير) 2022 (وإن لم يكن معظم المناطق التي احتلتها روسيا وحلفاؤها المحليون منذ العام 2014). وسيساعد الغرب على اقتراح وقف إطلاق النار إذا أدت هزيمة روسية أخرى إلى سقوط الرئيس بوتين، لأنه سيُنظر إلى هذا على أنه نجاح غربي وأوكراني كبير في حد ذاته.
مع ذلك، في حال بدت أوكرانيا وكأنها في طريقها إلى تحقيق النصر الكامل، فإن مثل هذه التحركات لوقف إطلاق النار ستواجه مقاومة شرسة من الحكومة الأوكرانية، ومن بعض أعضاء “الناتو”، بما في ذلك بولندا ودول البلطيق، ومن أقسام مهمة من المؤسسة السياسية ووسائل الإعلام الأميركية. ولذلك لا يمكن التنبؤ بنتيجة مثل هذه الأزمة في الوقت الحاضر؛ لكن من الواضح أن خطر التصعيد إلى حرب واسعة النطاق بين “الناتو” وروسيا سيكون مرتفعًا للغاية.
لا يبدو في الوقت الراهن أن هجوما روسيا يؤدي إلى تحقيق اختراق مظفر هو جزء من الخطط الروسية على المدى القصير، باستثناء التحركات المحدودة للاستيلاء على بلدة باخموت في غرب دونباس. وتشير جميع المؤشرات إلى أن القوات الروسية تقوم بتحصين خطوطها الحالية للحيلولة دون تحقيق أي نجاحات أوكرانية أخرى مثل استعادة الجزء الشرقي من منطقة خاركيف ومدينة خيرسون. ومع ذلك، في حال عانت القوات الأوكرانية من خسائر فادحة واستنفدت مخزونها من الذخيرة والعربات المدرعة في هجمات فاشلة خلال الأشهر القليلة المقبلة، فسوف يكون شن هجوم روسي مضاد ناجح احتمالاً حقيقيًا.
تشير تقديرات الاستخبارات الغربية إلى أن الخسائر الأوكرانية والروسية كانت متكافئة تقريبًا، مع حقيقة أن عدد سكان روسيا يبلغ ثلاثة أضعاف ونصف عدد سكان أوكرانيا. وفي الأشهر الأولى من الحرب، تم إبطال ميزة روسيا الممكنة في القوة البشرية بسبب عدم رغبة نظام بوتين (لأسباب سياسية داخلية) في إرسال المجندين الإجباريين إلى العمل واستدعاء جنود الاحتياط. لكن هذا النقص يجري تصحيحه الآن مع استدعاء 300.000 جندي إضافيين من الاحتياط (وإن كانوا من نوعية مشكوك فيها للغاية). وتنتج روسيا أيضًا قذائف مدفعية أكثر بكثير مما تنتجه أوكرانيا بنفسها أو تتلقاه من الغرب، وليس من الواضح إلى أي مدى يمكن أن تعوض زيادة الإنتاج الأميركي هذا النقص في الأشهر القليلة المقبلة.
مع ذلك، وبالنظر إلى السجل حتى الآن والمحدوديات المستمرة في القوى العاملة والدروع والذخيرة الروسية، لا توجد فرصة واقعية لأن يؤدي اختراق روسي إلى الاستيلاء على كييف. بل إنه ليس من المحتمل، حتى من بعيد، أن تتمكن روسيا من الاستيلاء على خاركيف، في حين أن انسحاب روسيا من خيرسون إلى الضفة اليسرى لنهر دنيبر يجعل الهجوم على موانئ البحر الأسود الأوكرانية في ميكولايف وأوديسا مستحيلاً تقريبًا.
ومع ذلك، إذا استولت روسيا على منطقة دونباس بأكملها وعززت جسرها البري إلى شبه جزيرة القرم، فمن المحتمل كثيرًا أن يدعي بوتين أن الأهداف الروسية الرئيسية (كما هي محددة في بداية الغزو) قد تحققت، وأن موسكو ستعرض بعد ذلك وقفًا لإطلاق النار وإجراء محادثات سلام من دون شروط مسبقة.
سيكون من شأن مثل هذا العرض الروسي أيضًا أن يفتح الباب أمام انقسامات عميقة داخل معسكر الغرب، وبين الدول الغربية وأوكرانيا. فمع تلاشي احتمال انتصار أوكرانيا في المستقبل البعيد، واحتمال اشتعال حرب لا نهاية لها، قد يزعم كثيرون في الغرب أن وقف إطلاق النار سيكون على الأغلب أفضل صفقة يمكن أن تحصل عليها أوكرانيا على الإطلاق.
سوف تكسب هذه الحجة قوة من حقيقة أن وقف إطلاق النار المستقر فقط هو الذي سينهي تدمير روسيا للبنية التحتية الأوكرانية ويسمح لأوكرانيا وشركائها ببدء عملية طويلة ومكلفة للغاية لإعادة بناء الاقتصاد الأوكراني من أجل تعزيز آمال كييف في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. وقد يروق هذا أيضًا لبعض الأوكرانيين البراغماتيين، الذين قد يعتقدون أن وقف إطلاق النار والنمو الاقتصادي سيسمحان لأوكرانيا بتعزيز قواتها المسلحة لاستئناف الحرب في وقت لاحق -وهو أمر تجعله هجمات روسيا على الاقتصاد الأوكراني صعبًا للغاية في الوقت الحالي.
بطبيعة الحال، سيجادل المعارضون الأوكرانيون والغربيون للقبول بوقف إطلاق النار الذي تقترحته روسيا بأن هذا سيسمح لروسيا ببناء قواتها الخاصة لخوض حرب جديدة في المستقبل أيضًا، على الرغم من أن هذه الحجة ستضعف إذا أعلنت موسكو على الملأ أن أهدافها الحربية في أوكرانيا قد تحققت.
باستثناء تمكن أي من الجانبين من تحقيق اختراق، فإن الاحتمال المتبقي هو مأزق دموي من الجمود المستمر إلى أجل غير مسمى على طول خطوط المعركة الحالية، وهو ما يذكّرنا في كثير من النواحي بالوضع على “الجبهة الغربية” في الحرب العالمية الأولى. وسيكون السؤال عندئذ هو كم من الوقت سيستغرق -وكم عدد الأشخاص الذين سيتعين عليهم الموت- قبل أن يصبح كلا الجانبين منهكين ويقرران أنه لا جدوى من مواصلة الصراع.
عندئذ سيكون المشهد مهيأ لوقف لإطلاق نار غير مستقر مثل ذلك القائم بين الهند وباكستان في كشمير على مدى الأعوام الـ75 الماضية. أو في الواقع نسخة أكبر بكثير من وقف إطلاق النار الذي كان قائمًا في دونباس من العام 2015 إلى العام 2022. ومن شأن وقف إطلاق النار هذا أن يكون مصحوبًا بمفاوضات سلام، ولكن أيضًا بانفجارات دورية للعنف وربما نشوب حرب شاملة.
سوف يكون وقف لإطلاق النار من هذا النوع أفضل من إراقة الدماء الهائلة الحالية في أوكرانيا. ولكن، ما لم يكن مصحوبًا بمفاوضات ناجحة للتوصل إلى تسوية، أو تقليل التوترات المسلحة على الأقل، فإنه سيكون محفوفًا بالعناصر السلبية: احتمال نشوب حروب جديدة، ليس فقط في أوكرانيا وإنما أيضًا بين روسيا ودول الاتحاد السوفياتي السابق الأخرى؛ وصعوبة إعادة الإعمار الأوكرانية والتقدم نحو الانضمام إلى عضوية الاتحاد الأوروبي؛ واستحالة استعادة الحد الأدنى من التعاون في العلاقات الغربية مع روسيا؛ واحتمال قدوم تعاون أقوى بين روسيا والصين وإيران.
الغد