تعيش السويد حالة قلق وترقّب على مستوى الدولة والمجتمع والأفراد، مصدرها الأساس تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا، واحتمالات تصاعدها وتوسّعها، ونتائجها الراهنة والمستقبلية على صعيد ارتفاع نسب الفائدة، وارتفاع أسعار الطاقة والمواد الغذائية، والتضخّم غير المسبوق منذ عقود؛ وأدى ذلك كله، وسيؤدّي إلى تباطؤ في النمو، وانكماش اقتصادي عميق، هذا ما لم تجد الأزمة الروسية – الأوكرانية طريقها إلى الحل خلال هذا العام.
ومن مفارقات كبرى تثير الانتباه في هذا المجال: أنه بينما تواجه حكومة الأقلية، التي جاءت إلى الحكم قبل نحو ثلاثة أشهر، بدعم من حزب ديمقراطيي السويد الشعبوي اليميني المتشدّد، تحدّيات كبرى على المستويين، الداخلي والخارجي، يلاحظ أنها تفتقر، في الوقت ذاته، إلى التجربة المطلوبة، كما تفضّل تمرير الأجندات المنسجمة مع توجهاتها الأيديولوجية، ومطالب جمهورها الانتخابي، وكان من المفروض أن تركّز على القضايا التي تهم السويديين جميعاً، في مرحلة ربما تعد بالنسبة إلى السويد الأعقد والأخطر منذ الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945).
وإذا قارنا الوضع السويدي الراهن بما كان عليه الحال في أثناء أزمة كوفيد -19، سنتأكد من أهمية الخبرة والإدارة الحكيمة في تجاوز الأوضاع الصعبة، فقد تمكنت الحكومة السابقة بقيادة الحزب الديمقراطي الاشتراكي، رغم نواقصها وأخطائها، من التعامل مع الأزمة بنجاح، وبأقل الخسائر على مستوى الاقتصاد؛ وأصبحت طريقتها في مقاربة الأزمة مثالاً اعتمدته دول كثيرة انتقدت السويد بشدة وقتئذٍ، ومها الصين نفسها التي أوحت بداية، من خلال التستر على البيانات الخاصة بانتشار الوباء وعدد الضحايا، بأنها حقّقت المعجزة إلى أن تبين العكس.
كان من الأفضل للسويد في الظروف المعقدة الراهنة أن تكون هناك حكومة قوية، لا تتأثر بالابتزاز السياسي
ولا يخفى على المهتمين المتابعين أن خبرات (وحكمة) وزيرة المالية في حينه، ماغدالينا أندرسون، رئيسة الحكومة لاحقا نحو خمسة أشهر، زعيمة الحزب الديمقراطي الاشتراكي المعارض الذي لديه العدد الأكبر من النواب في البرلمان السويدي (107 من أصل 349)، قد ساعدت كثيراً في المحافظة على قوة الاقتصاد السويدي، وأنقذت قطاعات عديدة هشّة عادة ما تكون ضحية الأزمات الاقتصادية قبل غيرها من الانهيار، ويُشار هنا بصورة خاصة إلى القطاعات الخدمية والثقافية والفنية. فقد كان من الأفضل للسويد في الظروف المعقدة الراهنة أن تكون هناك حكومة قوية، لا تتأثر بالابتزاز السياسي الذي تمارسه الأحزاب الشعبوية والصغيرة عادة لشدّ عصب جمهورها الانتخابي، أو بهدف الحفاظ على استمرارية دعم الداعمين. وكان يمكن تحقيق ذلك عبر تشكيل حكومة وسط تجمع بين الاشتراكيين والمحافظين إلى جانب حزب الوسط الليبرالي مثلاً، الأمر الذي كان من شأنه وضع الحكومة في موقع القادر على حل المشكلات الداخلية بطريقة أسهل وأقل كلفة، استناداً إلى خبرة الحزبين الكبيرين وتجربتهما في الحكم، وسياساتهما المعتدلة، وتوافقهما على الحلول الخاصة بمسائل داخلية كثيرة. كما أن الحكومة القوية كانت ستحظى باحترام وهيبة على المستوى الدولي، الأمر الذي كان سيكسبها مزيدا من الثقة بالنفس والقدرة على التاثير في التعامل مع التحدّيات الخارجية، ومن أبرز هذه التحديات التي تعد اليوم الشغل الشاغل للحكومة موضوع الحصول على العضوية الكاملة في حلف شمال الأطلسي (الناتو).
ولكن يبدو أن الحسابات الحزبية، وربما الشخصية، حالت دون ذلك، فتشكّلت الحكومة الحالية الضعيفة التي تضطر تحت وطأة حاجتها لتوسيع قاعدتها الشعبية، ونتيجة ضغط الظروف الاستثنائية في المحيط الإقليمي وعلى المستوى الدولي، إلى إعطاء الوعود، والبناء على مسلّمات غير منتجة، فتكون الإخفاقات، والتحويرات، والسعي المستمر للتنصّل والتسويغ، الأمر الذي أدّى إلى ارتفاع أصوات كثيرة من الصحافيين والمؤثرين في الرأي العام، تعلن صراحة أن الحكومة تضلل، بل والقول إنها لا تجد أي حرج في ممارسة التضليل، وتؤكّد أن الحكومة تعلق فشلها على شمّاعة المشكلات التي لم تعمل الحكومة السابقة لها على حلها، أو لم تتمكن من حلها.
تواجه الحكومة اليمينية الحالية على الصعيد الداخلي مشكلة تصاعد الجرائم المنظّمة بصورة غير معهودة؛ فلا يمر يوم إلا ويسمع فيه المرء خبراً عن حادثة قتل أو محاولة قتل أو تفجير. وبناء على تصريحات الشرطة السويدية نفسها، تجاوزت حدود شبكات العصابات التي تقف خلف هذه الجرائم التي تحدث بفعل التصارع على أسواق الممنوعات، أو تكون في سياق عمليات الثأر وتصفية الحسابات، مدينة أو مدن محدّدة، وإنما أصبحت على مستوى السويد كلها، بل امتدّت لتتشابك مع عصابات أخرى في دول عديدة، تتبادل معها المعلومات والمهام والخبرات.
ومن مشكلات أخرى تواجهها الحكومة السويدية، عجز ناسٍ كثيرين عن دفع فواتير الكهرباء وأقساط القروض السكنية، وارتفاع أسعار المواد بصورة عامة، خصوصا الغذائية منها. ولكن مشكلة عدم موافقة تركيا على دخول السويد إلى “الناتو” بصفة العضوية الكاملة، تبقى المشكلة الأكبر التي تشغل بال الحكومة السويدية التي تتحسّب لاحتمالات سوداوية في ظل استمرار الحرب الروسية على أوكرانيا، وتخشى من تصاعد النزعة التوسّعية الروسية مستقبلاً. فرغم أهمية موقع السويد الجيوسياسي المهم بالنسبة إلى الحلف المذكور، سيما في مناخات احتمالية تصاعد الصراع مع روسيا وحليفاتها، نرى أن تركيا والمجر لم توافقا على عضوية كل من السويد وفنلندا، في حين وافق كل الأعضاء الآخرين الـ 28 في الحلف على ذلك.
التحرّكات الاحتجاجية، بدوافعها وأشكالها المختلفة، أدّت إلى المزيد من التعقيد في الوضع والتشدّد في المواقف
وعلى ما يبدو، وبناء على الوعود، سيحلّ موضوع موافقة المجر، في نهاية المطاف، رغم تعاطف رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وتبقى العقبة في الموقف التركي الذي كان المشكلة بالنسبة إلى الحكومة السابقة، وما زال هو الشغل الشاغل للحكومة الحالية التي لم تتمكّن بعد من الوصول إلى حل بشأن تجاوز هذه العقبة؛ هذا رغم زيارة رئيس الوزراء السويدي، أولف كريسترسون، أنقرة، حيث التقى بالرئيس التركي، أردوغان، وكان لافتاً حرصه على المبالغة في المجاملات هناك على أمل الحصول على الموافقة التي كانت، في حال حصولها، ستعدّ من أكبر إنجازات حكومته. غير أن ذلك لم يحدث، بل ازدادات التعقيدات مع تصاعد منسوب التشدّد التركي، ورفع مستوى المطالبات الخاصة بتسليم أشخاص مطلوبين تركياً، لا تسمح القوانين السويدية بتسليمهم، الأمر الذي لا تستطيع الحكومة تجاوزه بناء على صلاحياتها الدستوية. كما أن التحرّكات الاحتجاجية، بدوافعها وأشكالها المختلفة، (تعليق الدمية التي كانت ترمز إلى أردوغان، إحراق المتطرّف الدانماركي – السويدي راسموس بالودان نسخة من المصحف الشريف.. إلخ) أدّت إلى المزيد من التعقيد في الوضع والتشدّد في المواقف. ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن موضوع الحل الخاص بعضوية “الناتو” في عداد أشباه المستحيلات من دون مساعدة الأميركان والأوروبيين، وتدخلهم الذين يمتلكون أوراق ضغط في هذا المجال، فمصالح تركيا الاقتصادية الأساسية هي في نهاية المطاف مع الغرب (حجم التبادل التجاري السنوي بين تركيا من جهة، والولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي من جهة ثانية، أكثر من 200 مليار دولار). كما أن أسلحتها غربية أميركية في المقام الأول، وتوجّه جيشها بصورة عامة غربي، ولها تجارب مريرة عبر التاريخ مع روسيا وإيران. أما الدوافع وراء تشدّدها مع السويد فربما تكمن في الحسابات الانتخابية الداخلية، وكذلك في رغبتها في تسوية الملفات الخلافية مع الولايات المتحدة، وهي عديدة، منها: رغبتها في الحصول على الأسلحة الأميركية المتطوّرة، والوصول إلى حل بخصوص علاقة الولايات المتحدة مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، واجهة حزب العمال الكردستاني في سورية، ومستقبل العلاقة مع سلطة بشار الأسد، خصوصا بعد اللقاءات والتصريحات الخاصة بالتطبيع مع السلطة المعنية، رغم التحفظ الأميركي المعلن.
الأمور ما زالت متداخلة، وربما من السابق لأوانه القول إن الموضوع قد حسم وفق رغبة السويد
وقد جاءت زيارة جاويش أوغلو، أخيرا، واشنطن بدعوة من الجانب الأميركي، حيث التقى مع نظيره أنتوني بلينكن، وهي زيارة سبقتها وأعقبتها تصريحات إيجابية عن الوزيرين؛ وتأكيد أوغلو أن المباحثات كانت ممتازة، إلى جانب البيان الختامي، وقد أعطى ذلك كله بعض الأمل بامكانية حدوث انفراج على صعيد ملف انضمام السويد إلى “الناتو”، غير أن الأمور ما زالت متداخلة، وربما من السابق لأوانه القول إن الموضوع قد حسم وفق رغبة السويد.
من جانب آخر، لا بد هنا من تأكيد حقيقة مفادها بأن موضوع حصول السويد على عضوية “الناتو” لن يكون المفتاح السحري الذي سيمكّنها من فتح جميع الأبواب؛ فالحرب في الجوار الإقليمي مستمرة، ولا توجد ضمانات ببقائها ضمن حدودها الحالية، بل هناك خشية مشروعة من توسّع نطاقها وارتفاع حدّتها، أما النتائج فستكون مزيدا من المشكلات والأزمات والكوارث، ويؤكد ذلك كله أهمية بذل المساعي بجدّية أكبر من أجل الوصول إلى حل واقعي مقبول من المعنيين، يؤدّي، في نهاية المطاف، إلى إيقاف هذه الحرب التي غدت خطراً على الأمن والاستقرار في العالم بأسره.
العربي الجديد