خلال الأيام الخمسة للمنتدى الاقتصادي العالمي، الذي اختتم أعماله يوم الجمعة الماضي، التقت في دافوس شخصيات من كل أنحاء العالم، لكل منها وزنها في دنيا السياسة أو الأعمال أو التكنولوجيا. الآن وبعد انتهاء أعمال القمة السنوية للمنتدى، لدينا فرصة لأن ننظر في مرآة دافوس، لا لنرى صورتنا، ولكن صورة العالم، كما تبدو في المرآة. الحقيقة أن الدول العربية لم تكن ظاهرة بوضوح في الصورة، باستثناء السعودية، وبعض دول الخليج. أما بقية شؤون الدول العربية فإنها كانت إما في المنطقة الرمادية، أو احتجبت تماما في المنطقة السوداء المعتمة. الدول الفاشلة: لبنان وتونس والسودان واليمن كانت في المنطقة السوداء، ومعها سوريا على الحافة بين الرمادية والسوداء. وعلى الرغم من أن مرآة دافوس البراقة كانت تركز على طموحات العالم في العام الجديد، وتحديات التضخم والركود والتفتت، إلا إنها لم تهمل هموم الدول المدينة والدول الأشد فقرا، لأن تفاقم مشكلاتها يهدد استقرار العالم.
ريادة تكنولوجية سعودية
ليس هناك ما نستطيع أن نستخلصه من رسائل عربية إلى المنتدى، أفضل مما صرح به المسؤولون السعوديون، الذين شاركوا في المنتدى، وزراء الطاقة والخارجية والاستثمار. الرسائل تفيد بأن المملكة، الدولة «المحورية» عربيا في الوقت الحاضر، قررت أن تنطلق وحدها إلى فضاء أوسع بعيدا عن السرب العربي، الذي يعاني من مقومات ضعف خطيرة، ولا تريد الرياض أن تسمح لهذا الضعف أن يكون قيدا على حرية انطلاقها. الاستنتاج الكبير هو أن السعودية تطمح لأن تكون واحدا من أكبر 10 اقتصادات في العالم، بعد أن قفزت درجتين إلى الدرجة 18 من الدرجة 20 في عام 2021، وأن تلعب دورا رئيسيا على المسرح العالمي من خلال مجموعة العشرين. المحركات الرئيسية للانتقال الذي تسعى إليه السعودية تتمثل في تنويع الاقتصاد، وزيادة الاستثمارات في قطاعات التكنولوجيا والطاقة الجديدة، والتوسع الاستثماري في الأسواق الخارجية، من الصين واليابان شرقا إلى الولايات المتحدة وكندا غربا. وليس سرا الآن أن السعودية تسعى لاستمرار قيادتها العالمية في قطاع الطاقة، من خلال مشروعات الطاقة المتجددة داخليا وإقليميا وعالميا، كما تسعى للمشاركة في القيادة التكنولوجية في قطاعات جديدة مثل صناعة السيارات الكهربائية من خلال التعاون مع شركات عالمية رائدة، بهدف أن تصبح أحد المراكز العالمية لصناعة السيارات الكهربائية وغيرها من السيارات التي تعمل بالوقود النظيف. وعلى الرغم من أن دور السعودية كمانح لمساعدات التنمية لن يتراجع، إلا أنه سيعتمد على معايير دقيقة لتحقيق الرشادة الاقتصادية، وأعلى عائد ممكن، على غرار ما تفعله المؤسسات الدولية مثل، صندوق النقد والبنك الدولي. وقد عرض المسؤولون السعوديون بصراحة وشفافية، خطط بلدهم للتوسع الاقتصادي خلال العام الحالي وفي المستقبل، مؤكدين ضمنيا على مبادئ مستحدثة مثل مبدأ «استقلالية السياسة الخارجية»، وهو ما يعني الانفتاح على العالم ككل، دون قيود أو إملاءات خارجية.
العولمة والتفتيت
يعود لخبراء صندوق النقد الدولي الفضل في نحت مفهوم ومصطلح «التفتت الاقتصادي» في العالم وبيان خطورته. وقد انتقل هذا المصطلح بسرعة من قاعات المناقشات الأكاديمية والبحوث في الصندوق، إلى مراكز البحث والتفكير في العالم كله، وتردد خلال قمة منتدى دافوس على ألسنة السياسيين والاقتصاديين ورؤساء الشركات. هموم العالم الرئيسية، كما بدت في مرآة منتدى دافوس هذا العام، تضمنت قضايا كثيرة محورية منها: هل تساعد عودة الاقتصاد الصيني للعمل بكل قوته، وتحقيق معدلات نمو تتجاوز أربعة في المئة سنويا (النمو المتوقع لعام 2023 يتراوح بين 5 إلى 5.5%) على زيادة الانتعاش العالمي وإبعاد شبح الركود؟ وهل تستطيع الشركات أن تعمل بطاقتها الكاملة، على الرغم من استمرار اضطرابات سلاسل الإنتاج في العالم؟ الحكومة الصينية ترى أن اقتصادها يواجه فعلا تحديات كبيرة بسبب تباطؤ النمو في الأسواق الخارجية، لكنها تعتزم التغلب على ذلك بتنشيط الطلب المحلي، والاستثمار بكثافة في أسواق الدول النامية المجاورة، ولكنها مع ذلك تحذر من السياسات الهادفة إلى فصل الاقتصادين الأمريكي والصيني عن بعضهما، لأن ذلك قد يؤدي إلى خسارة مزدوجة لكل منهما. ويؤكد صندوق النقد الدولي أن إصلاح عيوب العولمة، أو الخلل فيها لا يتحقق بنسفها، لكن بالمحافظة عليها واستثمار محركاتها في دفع النمو، خصوصا في الدول النامية. الرئيس الكوري الجنوبي يون سوك يول دعا إلى تحسين سلاسل الإنتاج العالمية، لتوفير أفضل قدر من الاستقرار والنمو على أساس الثقة المتبادلة بين دول العالم المختلفة، بينما وصف بات غيلسنجر رئيس شركة «إنتل» العالمية أزمة الرقائق الإلكترونية العالمية الراهنة، بأنها أشبه ما تكون بسائق سيارة مسرعة قام بوضع قدميه على «بدالي» كل من البنزين والفرامل في وقت واحد! وقال إن شركته، في سعيها لحل أزمة الإمدادات ستقيم مجمعا لإنتاج الرقائق الإلكترونية في مقاطعة أوهايو، بتكلفة تبلغ 20 مليار دولار، للاستفادة من حزمة المساعدات والدعم التي أقرتها الحكومة الأمريكية للصناعة بقيمة 52 مليار دولار. وقد لخص معهد الدراسات الدولية لمؤسسة «ماكينزي» المناقشات التي جرت في منتدى دافوس في خمسة استنتاجات رئيسية على النحو التالي:
رغم أن مرآة دافوس كانت تركز على طموحات العالم في العام الجديد، وتحديات التضخم والركود والتفتت، إلا إنها لم تهمل هموم الدول المدينة والدول الأشد فقرا
الاستنتاج الأول: إن عوامل الارتباك والاضطراب في النظام الدولي، لم تتوقف ولم تتباطأ، ومن المتوقع أن تستمر. وهذا يعني على مستوى التخطيط الجزئي في المنشأة، ضرورة أن تكون لدى الشركات قدرة أكبر على تحمل ومقاومة نتائج اضطراب سلاسل الإنتاج، استعدادا للغد غير المضمون.
الاستنتاج الثاني: أن هناك اختلافات بين أقاليم العالم من حيث القدرات والموارد، لكنها مع ذلك لا تشكل جزرا منعزلة. ويحتاج استمرار تيار العولمة إلى قدر كبير من «تنويع مراكز القوة»، وليس الفصل بين هذه الأقاليم أو فك الترابط القائم بينها «decoupling» كما تحاول أن تفعل الولايات المتحدة حاليا مع الصين.
الاستنتاج الثالث: بالنسبة لتحقيق هدف الحياد الكربوني (تخفيض الانبعاثات الكربونية الجديدة للصفر)، فإن دول العالم يجب أن تأخذ في اعتبارها التوازن المطلوب بين الانتقال من الوقود الكربوني إلى الوقود النظيف، وبين قدرة منظومة الطاقة الحالية في العالم على تحمل تبعات أو تداعيات هذا الانتقال.
الاستنتاج الرابع: كشفت مناقشات المنتدى، وعلى وجه الخصوص المداخلات التي قدمها رؤساء شركات التكنولوجيا العالمية العملاقة مثل «مايكروسوفت» و»إنتل» و»آي بي إم» و «كوالكوم»، أن النمو الاحتوائي الشامل في جميع الأسواق يعزز فرص النمو ويزيد القدرات التنافسية، ويتيح وفورات أكبر نتيجة العمل في بلدان تتمتع بموارد كبيرة لم تصل بعد إلى حد الاستغلال الأمثل.
الاستنتاج الخامس: إن الاستثمار في «اقتصاد الفضاء» البازغ، يحمل فرصا كبيرة للعالم مع التجديد التكنولوجي السريع الذي يرافقه. هذا الاستنتاج في واقع الأمر يفتح أمام الاقتصاديين وصناع التكنولوجيا ورواد الابتكارات، آفاقا واسعة في مجالات اقتصادية تتعلق باكتشاف الفضاء الخارجي واستثماره لخير البشرية، والتوسع في تطويع تكنولوجيا الفضاء للاستخدام على الأرض، كما يحدث في قطاع الاتصالات. لكن هذا الاستنتاج يفتح أيضا بابا واسعا للجدل حول التنظيم القانوني لاستغلال الفضاء اقتصاديا، ووضع الترتيبات التي تحول دون انتقال الحرب من الأرض إلى الفضاء. ومع أن الحديث عن «اقتصاد الفضاء» يبدو خياليا أو سابقا لأوانه بالنسبة للبعض، فإن خبراء مؤسسة ماكينزي يؤكدون أنه واحد من أسرع المكونات الاقتصادية نموا. وطبقا للتقديرات الحالية فإن قيمة اقتصاد الفضاء بلغت 469 مليار دولار في عام 2021 بزيادة 9% عن العام السابق. ومن المتوقع في أي لحظة أن تحقق تكنولوجيا الفضاء وتطبيقاتها الصناعية الجديدة اختراقا يجعل قيمتها خارج الأرض أكبر منها على الأرض، سواء من خلال تطبيقات السياحة والسفر، أو من حيث تطبيقات استخراج المعادن واستخلاص المياه وتوليد الطاقة. ويجب أن لا ننسى أن الإنسان الذي شهد أول رحلة طيران تجاري في العالم عام 1914 لم يحلم بأن يصبح الطيران التجاري على ما هو عليه الآن، وأن إطلاق القمر الصناعي الأول «سبوتنيك -1» عام 1957 كان مجرد البداية التي مهدت لرحلات مأهولة وغير مأهولة إلى الفضاء، ومئات الأقمار الصناعية الكبيرة والصغيرة والمتناهية الصغر التي تجوب الفضاء، وأن أول إنسان استخدم الإنترنت في بداية التسعينيات لم يتخيل أبدا أن تصبح التطبيقات الإلكترونية المثبتة على أجهزة الاتصالات المحمولة حقيقة في حياتنا لا يمكن الاستغناء عنها. في هذا السياق بدت آفاق الاقتصاد الفضائي البازغ في مرآة منتدى دافوس الاقتصادي هذا العام. وفي هذه المرآة، يوما ما، قد نرى أنفسنا وقد يرانا العالم.
القدس العربي