على رغم ضغوط واشنطن التي أسهمت في كبح التوتر بين الحزبين الحاكمين في إقليم كردستان، فإن الغموض ما زال يكتنف الأجواء حول إمكان تحقيق مخرجات، في ما تعترض خطوات الحوار جملة من العقبات تتصدرها الخلافات حول إجراء الانتخابات البرلمانية، ووضع صيغة جديدة لتقاسم النفوذ والإيرادات، والتعامل في ملف الخلافات مع الحكومة الاتحادية، في ظل الهواجس من “تزايد المخاطر المحدقة بالكيان الكردي”.
ويتجه الحزبان الرئيسان “الديمقراطي” بزعامة مسعود بارزاني، و”الاتحاد الوطني” بزعامة بافل طالباني، لعقد اجتماع ثان مطلع الأسبوع المقبل، بعد أن كانا أجريا مباحثات “أولية” في وقت سابق على خلفية وساطة قام بها منسق البيت الأبيض لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بريت ماكغورك خلال زيارته للبلاد، منتصف الشهر الماضي، وقد لاقى الاجتماع ترحيباً رسمياً من سفارتي الولايات المتحدة وبريطانيا.
الخلافات بين الحزبين بلغت الذروة في أعقاب اتهام “الديمقراطي” قادة أمنيين تابعين لـ”الاتحاد” بالوقوف وراء عملية اغتيال ضابط منشق عن الأخير بمدينة أربيل في أكتوبر (تشرين الثاني) من العام الماضي، ومن ثم إعلان نائب رئيس الحكومة قباد طالباني، شقيق بافل، مقاطعته لاجتماعات الحكومة الائتلافية احتجاجاً على “طريقة إدارة الحكم”، بعد خوضهما صراعاً محتدماً على المناصب في الحكومة الاتحادية، وعلى آلية تقاسم الإيرادات في الإقليم.
محاذير من تفويت الفرصة
تعقد أوساط سياسية الآمال على تحقيق نتائج بفعل الضغوط الأميركية، مدفوعة بكون الإقليم يمثل “نقطة استراتيجية مهمة” للمصالح الأميركية في منطقة الشرق الأوسط، في وقت تلقت حكومة الحزبين صدمة جديدة على إثر إصدار المحكمة الاتحادية في بغداد قراراً “بعدم قانونية إرسال الحكومة الاتحادية الأموال إلى الإقليم”، بعد أن كانت أصدرت حكماً مماثلاً بعدم دستورية إدارته لملفه النفطي، لكن يبقى التساؤل حول مدى قدرة الحزبين على تجاوز العقبات التي يخشى أن تنسف المكتسبات المتحققة طوال العقود الثلاثة الماضية من حكمهما شبه المستقبل عن بغداد.
بدأ الحزبان حراكاً على المستويين النيابي والحزبي لوضع خطوات نحو إجراءات انتخابات برلمانية خلال العام الحالي، تمهيداً لوضع صيغة اتفاق جديد لإدارة الحكم كما يطالب به حزب طالباني، لكن أمامهما قبل ذلك اجتياز الخلافات على قانون ومفوضية الانتخابات، التي تسببت في تأجيل الاقتراع الذي كان مقرراً في مطلع الماضي، في حين يواجه قرار تمديد العمر التشريعي لدورة البرلمان الحالي تهديداً بإلغاء شرعيته من قبل المحكمة الاتحادية، التي حددت السابع من فبراير (شباط) المقبل موعداً لحسم الدعاوى القضائية المرفوعة في شأن عدم قانونيته.
القيادي البارز في “الديمقراطي” فاضل ميراني صرح بأن حزبه “لن يفرض شروطاً، كما لن يقبل كذلك شروطاً من أي طرف”، لكنه أكد على أنه “لا خيار سوى التوصل إلى اتفاق”، محذراً من تبعات “عدم إجراء الانتخابات خلال العام الحالي على الثقة بالعملية الديمقراطية”.
وتزامنت تصريحات ميراني مع جولة مباحثات يجريها، منذ أيام، وفد من حزبه مع القوى المختلفة، قبل أن يعقد اجتماعا ثانياً مع حزب طالباني.
مسار انتخابي شائك
يتركز الخلاف الرئيس حول المطالب بتعديل قانون الانتخابات واعتماد نظام الدوائر المتعددة بدلاً من الدائرة الواحدة، والمزاعم المتعلقة بسجل الناخبين لاحتوائه على “أسماء مكررة وأخرى لمتوفين”، فضلاً عن الإشكال المتعلق بعدم حسم أسماء مواطنين في السجلات الثانوية بخانة الجنسية التي تشكك حكومة بغداد في صحتها، إذ تقدر أعداد هؤلاء بنحو 140 ألفاً، منهم 124 ألفاً في أربيل ودهوك الخاضعتين لنفوذ حزب بارزاني، و17 ألفاً في السليمانية حيث نطاق نفوذ حزب طالباني.
وكان منسق “الغرفة القانونية” في حركة التغيير المشاركة في الائتلاف الحكومي جومان محمد، كشف عن “تسجيل زيادة سكانية في الإقليم، بالمقارنة مع بيانات الحكومة الاتحادية، يصل إلى نحو 700 ألف شخص”.
وأبدى مسؤولون في “الديمقراطي” مرونة في شأن معضلة تعديل القانون وسجل الناخبين، لكنهم ما زالوا يتحفظون في شأن مطلب حصر التصويت على المقاعد المخصصة للأقليات وفق نظام “الكوتا” بأبنائها فقط، “لتحقيق تمثيل حقيقي من دون استغلالهم من قبل الأحزاب الكبيرة”، وفق ما يطرحه حزب طالباني وقوى المعارضة.
شكاوى مؤجلة
يعتقد المحلل سرتيب جوهر أن “عديداً من العقبات تعترض العملية الانتخابية، في ظل التفاوت في مطالب ومقترحات القوى السياسية، وليس من الواضح إلى أي مدى سيؤثر الضغط الخارجي، بخاصة في الحزبين، للمضي قدماً، وإلا فإنه بالنظر إلى الواقع ومستوى الخلافات فإنه يصعب أن تجرى الانتخابات قبل نهاية العام الحالي”.
يرى جوهر أن “أمام الأطراف مقترحان لحل المعضلة كلاهما صعب: الأول هو اللجوء إلى سجل مفوضية الانتخابات الاتحادية الذي يعتمد على النظام البايومتري، أو جعل البطاقة الوطنية أساساً للتصويت، وهذه لها مشكلاتها”.
ولفت إلى “وجود مشكلة أخرى تتعلق بآلية المصادقة على نتائج الانتخابات وتلقي الشكاوى والطعون وحسهما، فكل طرف له ملاحظاته ومطالبه، وهذه أمور ينظمها قانون مفوضية الانتخابات، لذلك تجري المطالبة بتعديل هذا القانون، في حين أن المهلة القانونية للمفوضية الحالية منتهية ويجب إما تمديد ولايتها أو انتخاب أخرى جديدة في البرلمان”.
الدعم الدولي له حدود
من جانبه يصف المحلل جمال بيره الأزمة بين الحزبين التقليديين بأنها “حرب باردة، فهما لا يتفقان، وفي الوقت نفسه لا يمكن لأحدهما الاستمرار من دون الآخر، وقد انعكس هذا الصراع سلباً على الثقل الكردي في الحكومة الاتحادية، وأسهم في إضعاف دورهما في ما يتعلق بالقرارات المصيرية، وخلق حالاً من اليأس لدى الشارع الكردي الذي يعاني منذ سنوات الأزمات، خصوصاً الاقتصادية، وعلى رغم ذلك فإن القوى العراقية، ومنها الكردية في عمومها، تخضع لمؤثرات الدول الإقليمية والعظمى”.
يشير بيره إلى أن “الإقليم من الواضح أنه حظي في العقود الثلاثة الماضية بشيء من الخصوصية على المستويين الإقليمي والدولي، لكن هذا لا يعني أن هذه المكانة يمكن لها أن تستمر في حال بقاء الوضع المتأزم على ما هو عليه، بل إن ذلك سيضع كيان الإقليم وتجربته على المحك”.
أظهرت نتائج استطلاع أجرته شركة “شيكار للبحوث”، التي تديرها مجموعة من الأكاديميين ومقرها أربيل، حول قرارات المحكمة الاتحادية ضد الإقليم، أن 53 في المئة من المشاركين، الذين يبلغ عدهم ألف شخص معظمهم من موظفي القطاع العام، أرجعوا أسباب القرارات إلى الخلاف بين الحزبين، في حين رأى 80 في المئة أن ممثليهم في بغداد غير أكفاء، كما كشف الاستطلاع عن أن 50.7 في المئة من المشاركين يؤيدون الانسجام مع بغداد، فيما انحاز 42 في المئة بنطاق نفوذ حزب بارزاني لإلغاء كيان الإقليم، في مقابل 64 في المئة في نطاق نفوذ حزب طالباني.
الكيان مهدد بالتقويض
تذهب المؤشرات باتجاه تزايد المخاطر على الإقليم بناء على استراتيجية “تهدف إلى إنهاء كيانه أو على الأقل تقويضه، عبر تعميق أزماته ودفعه نحو مزيد من التشرذم”، وفق السياسي والكاتب أبو بكر كارواني، الذي حذر “من الاستمرار في هدر الأموال، والانشغال عن الأولويات دون مواكبة المتغيرات في المحيط، وعرقلة فرص بناء نظام مؤسساتي حقيقي يعبر عن كيان دستوري موحد”.
ولفت كارواني إلى أن “أزمة الإقليم الاقتصادية والإبقاء على الخلاف مع بغداد، مع تعرضه للتهديدات والضغط العسكري بذريعة إيوائه القوى الكردية المعارضة لدول الجوار، وبخاصة إيران، تدخل ضمن مؤشرات هذا السيناريو”.
وتشمل المخاطر القائمة أيضاً، بحسب كارواني، إدخال الإقليم ضمن الصراع الدولي الدائر حول الطاقة، “عبر إعطاء صبغة للإقليم، وبخاصة حزب بارزاني، بأنه قوة محسوبة على الغرب ضد روسيا وحلفائها”.
وأوضح أن قرارات المحكمة الاتحادية ضد الإقليم تدخل كذلك ضمن المخاطر، “لتكون إحدى الأدوات التي يمكن أن تسهم في تفجير وضع الإقليم الداخلي إلى حد خلق فراغ في السلطة لتجريده من الشرعية”.
كما نوه كارواني إلى “التشويه الذي طاول التجربة الديمقراطية في الإقليم بعد قرار تأجيل الانتخابات، ليس فقط لكونه انعكاساً للصراع الداخلي، بل لأن له بعداً إقليمياً ودولياً قد يطاول كيان الإقليم الدستوري، لأنه في الحالين، سواء بصدور قرار من المحكمة الاتحادية بعدم شرعية سلطة الإقليم الحالية، أو الفشل في إجراء الانتخابات خلال العام الحالي، فإن الأمر يتطلب إيجاد سبيل لسد الفجوة القانونية وكل ما يتعلق بمصير هذا الكيان”.
وختم بالقول إن “المبعوثة الأممية إلى العراق جينين بلاسخارت كانت أبلغت قيادات القوى الكردية بأن موقف الإقليم أمام بغداد ودول المنطقة والمجتمع الدولي أصبح ضعيفاً، وإذا لم تجر الانتخابات فقد يقضى على ما تبقى من مكتسبات”.
اندبندت عربي