أعاد حادث اقتحام رجل مسلح ببندقية كلاشينكوف مقر سفارة أذربيجان في طهران في 27 يناير 2023 وما أسفر عنه من مقتل رئيس أمن السفارة وإصابة حارسين، التوتر مجددًا بين الدولتين الجارتين، حيث جاء فى خضم خلافات متزايدة بينهما بشأن عدة قضايا بعضها له امتداد تاريخي والآخر حديث. كما أن الهجوم سبقته حملة مناهضة لباكو في وسائل الإعلام الإيرانية بسبب إعلانها في ديسمبر 2022 استعدادها لفتح سفارة في إسرائيل، لتكون بذلك أول دولة شيعية مسلمة تقدم على تلك الخطوة.
قدم كل من الجانبين روايته للحادث، ودوافع المنفذ. ففى وقت وصفت باكو الحادث بـ “الإرهابي”، مؤكدة أن الجانب الإيراني تساهل في توفير الحماية اللازمة لسفارتها في طهران، خاصة أن الحادث يأتي بعد شهور من الدعاية الإعلامية التي تقوم بها إيران ضدها، تباينت آراء إيران حول الحادث وهو ما كشفت عنه الصحف اليومية، وعلى رأسها “كيهان” المقربة من المرشد خامنئي، والتى أكدت أن الحادث كان “شخصيًا” ليست له أى دوافع سياسية ولا ينبغي على أذربيجان “الوقوع في فخ الأعداء” وتسييس الحادث بما لا يخدم العلاقات بين البلدين.
أما صحيفة “جوان” المقربة من الحرس الثوري فشككت في أن يكون الحادث أمرًا شخصيًا، لكنها ذهبت في الاتجاه الآخر، حيث حملت إسرائيل والحكومة الأذربيجانية مسئولية الحادث، بمعنى أن البلدين يقفان وراء هذا الحادث الذى من المحتمل أن يكون مخططًا مسبقًا وفقًا لها.
ارتبطت الاتهامات التي وُجهت إلى إسرائيل بشأن ذلك الحادث، بالتفجيرات التي شهدتها المنشآت النووية والعسكرية في إيران في اليوم التالي للهجوم على السفارة، مما زاد من تخوفاتها من التقارب الأذربيجاني- الإسرائيلي، خاصة عقب تقرير نشرته صحيفة “يسرائيل هيوم”، عن عقيد سابق بسلاح الجو الأذربيجاني أشار فى تصريحات له إلى أن “الطائرات المسيرة التي نفذت هجومًا على مصنع عسكري بمدينة أصفهان الإيرانية، أقلعت من الأراضي الأذربيجانية”[1].
دوافع متعددة
يكمن السبب الرئيسي في الخلاف بين إيران وأذربيجان فى كون الأخيرة حليفًا لتركيا وإسرائيل، هذا بجانب ما فرضته الانتصارات العسكرية لأذربيجان ضد أرمينيا من ارتدادات إقليمية، حيث عكست تصاعد النفوذ التركي والإسرائيلي على حساب طهران في منطقة آسيا الوسطى، ويمكن إيضاح دوافع التصعيد بين الدولتين فيما يلي:
1- أزمة ممر زانجيزور: استطاعت أذربيجان خلال حرب قره باغ الثانية عام 2020، استعادة نحو 80% من أراضيها التي احتلتها أرمينيا، كما استعادت السيطرة على أجزاء من الطريق التجاري الرئيسي السريع (جوريس- كابان) الرابط بين أرمينيا وإيران، وفرضت رسومًا على الشاحنات الإيرانية بالمناطق المحررة، وتواصل أذربيجان الضغط على أرمينيا لفتح ممر زانجيزور الرابط بينها وبين إقليم ناختشيفان الآذري المتمتع بالحكم الذاتي، وهو ما سيتيح نقل المزيد من البضائع والأفراد بين الصين وأوروبا من خلال الممر الأوسط الذي يمر بالأراضي الآذرية، بما سيقوض في ذات الوقت من أهمية ممر النقل الشمالي الجنوبي الذي تعول عليه طهران في تعزيز حركة النقل بواسطته بين روسيا والهند والموانئ الإيرانية على الخليج، وكذلك سيتيح الوصول البري المباشر من تركيا إلى أذربيجان، وهو ما سيعزز من الحضور التركي في جنوب القوقاز، ومن اتصال ما يسمى بـ”العالم التركي” الذي يمتد إلى آسيا الوسطى وتخوم روسيا. وتنظر إيران إلى المشروع على أنه مؤامرة دولية لتطويقها جغرافيًا، متعهدة بمنع أي محاولة لتغيير الجغرافيا السياسية في المنطقة.
2- تخوف إيراني من التقارب بين أذربيجان وتركيا: فتركيا حليف تقليدي لأذربيجان وتجمعهما علاقات تاريخية وثقافية تعود إلي فترة الحكم العثماني، إضافة إلي مصالح جيوستراتيجية وسياسية واقتصادية مشتركة. ومن الناحية الجيوستراتيجية، تمثل أذربيجان منفذًا لتركيا على البلقان والقوقاز يسهل من مد نفوذها في البحرين الأدرياتيكي وقزوين. لذلك، فإن سيطرة أذربيجان على إقليم قره باغ يدعم الطموحات التركية ويسهل من تواصلها مع الجمهوريات التي تتحدث التركية في آسيا الوسطي.
ومن الناحية السياسية، فإنها تمثل عنصرًا موازيًا للدور الأرميني المعادى لتركيا لإصراره على تحميلها المسئولية الأخلاقية عن مذابح الأرمن في عام 1915. ومن الناحية الاقتصادية، تبرز المصالح المرتبطة بالغاز الطبيعي الذي تستورده تركيا من أذربيجان، وخطوط أنابيب الغاز الروسي التي تعبر أراضي أذربيجان إلى تركيا، والتبادل التجاري الكبير بين البلدين والشركات التركية العاملة في مختلف مجالات الحياة الاقتصادية في أذربيجان.[2]
3- تخوف إيراني من التقارب بين أذربيجان وإسرائيل: من أبرز نقاط الخلاف بين طهران وباكو هو التعاون العسكرى والدبلوماسى المتنامى بين الأخيرة وتل أبيب، حيث تشكل تل أبيب وكيلًا لمصالح الولايات المتحدة في أذربيجان وقناة وسيطة بين باكو وواشنطن تسعى من خلال تواجدها فى أذربيجان إلى التضييق على طهران عبر تشكيل جماعات ضغط فى باكو لزعزعة مصالحها الاقتصادية والسياسية، بالإضافة إلى تأمين مصدر يستطيع مدها بالنفط على المدى الطويل، حيث تقدم أذربيجان نحو 40% من واردات النفط لإسرائيل. ولدى إسرائيل سفارة في العاصمة الأذربيجانية باكو منذ أوائل تسعينيات القرن الماضى، بينما افتتحت أذربيجان مكتبًا تجاريًا في تل أبيب في يوليو 2021 ومكتبًا للسياحة في مارس 2022، كما عينت أول سفير لها على الإطلاق لدى إسرائيل، يوم 11 يناير 2023.
أما على صعيد التعاون العسكري والأمنى بينهما، فتعد إسرائيل مصدر السلاح الرئيسى إلى باكو وفى إطار اتفاقيات التعاون الأمنى تدرب تل أبيب أفرادًا من أجهزة الأمن والاستخبارات الآذرية، وفي السنوات الأخيرة، أصبحت إسرائيل من أهم موردي الأسلحة لأذربيجان وبلغت مبيعاتها أكثر من 740 مليون دولار، وفقاً لمعهد ستوكهولم الدولي لبحوث السلام[3].
واتهم وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان إسرائيل العام الماضي بإقامة وجود عسكري لها وتحالف سري مع أذربيجان، ورفضت باكو تلك المزاعم، لكن إيران نظمت تدريبات عسكرية واسعة النطاق على طول حدودها مع أذربيجان، ورد رئيس أذربيجان حيدرعلييف على هذه التحركات بالتقاط صور له مع طائرات مسيرة انتحارية إسرائيلية تصنع في أذربيجان.
4- التخوف الإيراني من إثارة النزعة القومية: يعد من أعمق مصادر القلق الإيراني، إثارة أذربيجان مشاعر الهوية القومية عند الأقلية الأذرية فى إيران والذين يمثلون قرابة 15-20% من عدد سكانها، فمنذ استقلالها تنظر إليها طهران بقلق بالغ، فمجرد وجود دولة تسمى أذربيجان يحيي آمال الاستقلال لدى السكان الآذريين شمالى الدولة.
وتحاول باكو الضغط على طهران من هذا الجانب، ففي 11 نوفمبر 2022 ألقى الرئيس حيدر علييف كلمة في قمة منظمة الدول التركية لعام 2022 في سمرقند بأوزبكستان، وتطرق إلى أن الأشخاص الناطقين بالآذرية لا يمكنهم تلقي التعليم بلغتهم الأم في بعض البلدان. وكان يشير إلى إيران دون أن يسميها، حيث التعليم الرسمي باللغة الفارسية.
مؤشرات التصعيد
أخذت العلاقات بين إيران وأذربيجان منحى التصعيد خلال العامين الماضيين 2021 و2022، حيث شهدا مشاحنات غير مسبوقة بين الدولتين، يمكن إيضاحها فيما يلى:
1- أزمة الشاحنات: قررت أذربيجان في سبتمبر 2021 فرض رسوم جمركية على الشاحنات الإيرانية التي تمر عبر منطقة قره باغ الخاضعة لسيطرتها في طريقها إلى أرمينيا، حيث رأت أن دخول هذه الشاحنات يتم بشكل غير قانوني، ولم تهتم إيران بتحذيرات باكو الموجهة إليها، فضلًا عما ذهبت إليه الأخيرة بأن بعض الشاحنات حاولت إخفاء هويتها باستخدام لوحات مرور أرمينية.
2- مناورات “الإخوة الثلاثة 2021”: اتخذ المسار التصعيدي بين إيران وأذربيجان منحى جديدًا، بعد مناورات “الإخوة الثلاثة 2021″، التي شاركت فيها كل من أذربيجان وتركيا وباكستان في بحر قزوين، وقد أثارت هذه المناورات استياء طهران التي احتجت وأشارت إلى أن التواجد العسكري التركي والباكستاني في أكبر بحر مغلق في العالم غير قانوني، وفق معاهدة الوضع القانوني لبحر قزوين لسنة 2018، ذلك أن هذا التواجد حكر على البلدان التي تطل على هذا البحر.
3- مناورات حربية على الحدود بين الدولتين: شهد شهر أكتوبر 2022، أخطر موجة من التصعيد بين الدولتين، تجلى بشكل واضح في قيام إيران بتدريبات عسكرية في تحذير واضح لأذربيجان بعدم ضم قطاع رئيسي من الأراضي الأرمينية المتاخمة لإيران. وقد أشار علييف مرارًا وتكرارًا إلى تلك المنطقة على أنها “أرض أذربيجانية موروثة”.
4- افتتاح القنصلية الإيرانية في أرمينيا: افتتحت إيران في 21 أكتوبر 2022، قنصلية في كابان، مركز مقاطعة سيونيك في أرمينيا، ويحمل مكان افتتاح القنصلية دلالة خاصة، حيث يقع بالقرب من المسار المخطط لممر زانجيزور، ما يشير إلى تأكيد إيران أن الحدود مع جارتها الشمالية غير قابلة للتغيير.
5- توجيه الاتهامات المتبادلة: في نوفمبر 2022، احتجزت أجهزة أمن الدولة الأذربيجانية مجموعة من 19 رجلاً يزعم أنهم تلقوا تدريبات على القيام بالابتزاز وأعمال عنف أخرى داخل أراضيها، وزعمت أجهزة أمن الدولة أن المجموعة كانت تحت سيطرة الأجهزة الخاصة الإيرانية وأنها مسلحة. في المقابل اتهمت السلطات الإيرانية في 7 نوفمبر 2022، رجلًا أذربيجانيًا بتدبير الهجوم على ضريح شاه جراغ، الذي أسفر عن مقتل 15 شخصًا وإصابة 40 آخرين.
ويمكن القول أن التوتر الذي تتصاعد حدته بين الدولتين هو نتاج عدم قدرتهما على حل القضايا الموجودة سابقًا، وفي ظل ذلك ستبقى الخلافات قائمة بينهما خلال المرحلة المقبلة.
ملفات مترابطة
كان من بين السيناريوهات المرجحة التي رسمت مسار التوتر المتصاعد بين إيران وأذربيجان خلال الفترة الأخيرة، احتمالية نشوب مواجهة عسكرية بين الدولتين، وارتبط ذلك بشكل كبير بإقدام إسرائيل على توجيه ضربة جوية للمنشآت النووية الإيرانية، عبر الأراضي الأذربيجانية، ويمكن قراءة ذلك فيما يلي:
1- اتهامات قديمة: ترى إيران فى العلاقة بين إسرائيل وأذربيجان تهديدًا لأمنها القومي، وسبق لها واتهمت باكو بإيواء إسرائيليين أو تأمين ملاذ لهم بالقرب من حدودها الشمالية الغربية. كما حملت إسرائيل المسئولية عن هجمات استهدفت برنامجها النووي انطلاقًا من أذربيجان. واتهمت أذربيجان أكثر من مرة، خلال السنوات الفائتة، بتقديم تسهيلات لجهاز الموساد، لا سيما في ما يتعلق باغتيال علماء نوويين إيرانيين، وتوجه بعض المنفذين إلى أراضيها، قبل سفرهم إلى إسرائيل. وعلى مدى السنوات الأخيرة، وقعت تفجيرات ونشبت حرائق عدة في مراكز عسكرية ونووية إيرانية، إذ أكدت الحكومة، في بعض الحالات، أن هذه الانفجارات كانت متعمدة، وهي “أعمال تخريب من صنع قوى العدو”، وفي إطار ذلك أكد مسئولون إسرائيليون في تصريحاتهم بشكل عام، أن تل أبيب نفذت عمليات داخل إيران استهدفت برنامجها النووي والعسكري.
2- اتهامات جديدة: شهدت إيران يوم 28 يناير 2023، العديد من الأحداث في مختلف مناطقها، إذ دوت انفجارات في مصنع لإنتاج الذخيرة التابع لوزارة الدفاع في مدينة أصفهان وسط البلاد، أكدت الوزارة وقوعها، وقالت إن أجسامًا طائرة صغيرة (مُسيرات صغيرة) هاجمت هذا المجمع التابع لها، بيد أنه تم إحباط الهجوم، بحيث تم استهداف إحدى هذه المسيرات بنيران المضادات الجوية، وعلقت المسيرتان الأخريان في “فخاخ دفاعية” وانفجرتا. لكن وزارة الدفاع لم تحمل، في بيانها، مجموعة أو دولة بعينها، مسئولية الحادث. إلا أن المندوب الإيراني لدى الأمم المتحدة سعيد ايرواني وجه اتهامًا لإسرائيل بالمسئولية عنه.
3- توقيت الانفجار: وقع الانفجار في أصفهان في الوقت الذي يناقش فيه مسئولون إسرائيليون وأمريكيون خططًا جديدة لمواجهة عمليات إيران “المزعزعة للاستقرار” في المنطقة، بما في ذلك تعميق تعاونها العسكري مع روسيا، كما جاء الحادث بعد يوم واحد فقط من توجيه إيران اتهامات لإسرائيل بأنها تقف وراء اقتحام سفارة أذربيجان وما يحمله ذلك من تداعيات على علاقة الجارتين ببعضهما البعض، حيث يقيد الصراع بينهما أيضًا حرية حركة إيران في الالتفاف على العقوبات الاقتصادية، عبر اعتمادها على دول الجوار في إعادة تصدير النفط للعالم الخارجي، ومن ثم عدم التخفيف من وطأة العقوبات الاقتصادية عليها.
في الأخير يمكن القول، أن إيران أمام تحديات عديدة، فقد وصل التوتر بينها وبين أذربيجان إلى مستوى غير مسبوق، يعكس فشل أجندة “الجوار القوي” التي كانت ضمن وعود الرئيس إبراهيم رئيسي أثناء حملته الانتخابية، هذا بجانب فشلها في التوصل إلى اتفاق مع القوى الدولية حول برنامجها النووي، وما صاحب ذلك من تصعيد إسرائيلي تجاهها، فى الوقت الذى لا تزال التكهنات حول نوعية وكيفية الرد الإيراني على تلك الممارسات غير مؤكدة.
مركز الأهرام للدراسات