عكست حصيلة المائة يوم الأولى من عمر حكومة رئيس الوزراء العراقى محمد شياع السودانى سياسات داخلية “حذرة” تحسبت للوزن السياسى لخصومه ومعارضيه سواء من التيار الصدرى أو من قوى التغيير الوطنية، أو حتى من قبل داعميه من قوى الإطار التنسيقى.
وبدا أنه قد تجاوز بثبات اختبار المائة يوم الأولى من حكمه عبر تركيز جهوده – فى تلك الفترة – على معالجة الإشكاليات المتعلقة بالخدمات اليومية للمواطنين، فيما بدا وكأنه يحاول سد الثغرات التى قد يتخذها خصومه ذريعة لإفساد مسيرته السياسية فى مرحلتها المبكرة، خاصة وأنه لا يحظى شخصياً بحالة من التوافق العام من قبل القوى السياسية، كما أن سياساته الداخلية لا تحظى بدورها على إجماع تلك القوى، لكنها فى الوقت نفسه لم تجد فيها – حتى الآن- ما يدفعها إلى الاعتراض عليها.
لكن ثمة بعض التطورات التى قد “تعصف” بحالة “الهدوء” التى تشهدها جبهات المعارضة “الشعبية” – إن جاز التعبير- تجاه سياسات السودانى الداخلية؛ وأبرزها تمثل فى قرار المحكمة الاتحادية التى أوقفت إجراءات كانت قد أقرتها حكومة الكاظمى السابقة تتعلق بدفع رواتب وأجور الموظفين فى إقليم كردستان من قبل الحكومة الاتحادية فى بغداد، وهو قرار يدفع العلاقة بين بغداد وأربيل إلى مربع الأزمات مرة أخرى بعد عامين من الاستقرار النسبى.
والتطور الثانى تمثل فى تراجع سعر صرف الدينار العراقى فى مقابل الدولار الأمريكى جراء إجراءات اتخذها واشنطن استهدفت “تقييد” النظام المصرفى العراقى بهدف منع عمليات غسل الأموال وتهريب العملة إلى إيران.
والتطوران من المحتمل أن يؤثرا بصورة أو بأخرى على حالة “الثبات الحذر” التى يتعامل بها السودانى مع الداخل العراقى من ناحية، ومع حالة التوازن التى يحاول الحفاظ عليها فى تعاملاته على مستوى السياسة الخارجية من ناحية ثانية؛ خاصة مع القوى الإقليمية والدولية وتحديدا إدارة “سياسات التوازن” مع كل من إيران والولايات المتحدة والقوى الأوروبية والدول العربية.
التطور الأخير تحديداً والمتعلق بكيفية إدارة السودانى سياساته الخارجية بقدر من التوازن بين القوى المذكورة، ربما يكون هو المحدد الفعلى لمدى قدرته على معالجة واحدة من أهم مسببات الحراك الشعبى ضد الحكومات العراقية منذ حراك تشرين عام 2019، وهى الأزمة الاقتصادية التى ستلقى بظلالها – وفى ظل الإجراءات المصرفية الأمريكية تجاه النظام المصرفى العراقى- على مسيرة حكومته خلال الفترة القادمة خاصة مع التدهور الحالى فى سعر العملة العراقية.
لذا يتجه السوداني إلى تنويع مصادر “شراكاته الاقتصادية” التى بدأها بمؤتمر بغداد-2 فى الأردن ( 20 ديسمبر2022) وبدعم قوى من الرئيس الفرنسى ماكرون، وأتبعها بزيارة رسمية إلى فرنسا فى 26 يناير 2022، بدعوة رسمية أيضاً من الرئيس الفرنسى عنوانها الرئيسى “الاقتصاد والاستثمار وتعزيز الشراكات الأمنية”.
أهداف متعددة
زيارة السودانى لباريس ولقاءاته مع الرئيس الفرنسى – الذى أبدى دعماً قوياً للسودانى منذ توليه الحكومة – حملت العديد من الأهداف التى تركزت فى:
1- تنويع مصادر التعاون الاقتصادى والشراكات الاستراتيجية بين العراق والقوى الدولية من ناحية، وإعادة صياغة العلاقة بين العراق والتحالف الدولى الذى تترأسه الولايات المتحدة لمواجهة الإرهاب لكن عبر البوابة الفرنسية من ناحية ثانية.
إذ أشار السودانى فى تصريحاته على هامش الزيارة إلى أن بلاده تحتاج إلى “نمط جديد من العلاقة مع التحالف الدولى”، وهو ما يعنى ضمنياً ضرورة طرح طبيعة التعاون بين بغداد وقوى التحالف الدولى وفى مقدمتها الولايات المتحدة وفرنسا للنقاش، وإعادة صياغته بما يضمن التفاعل على أسس من التعاون والعمل المشترك بعيداً عن سياسات المحاور وفقاً لتصريحات السودانى نفسه.
هذا الهدف تحديداً يعنى أن بإمكان بغداد البحث عن “بديل استراتيجى دولى” للولايات المتحدة التى ترتبط معها بعلاقات تحالف استراتيجية فى العديد من المجالات الأمنية والعسكرية والاقتصادية. ورغم صعوبات تحقيق هذا الهدف فى المدى القريب، بالنظر إلى طبيعة وحجم ونوع اتفاقات الشراكة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، إلا أنه يعبر عن خطوة إجرائية فى مسار طويل تحاول فيه بغداد استبدال الولايات المتحدة كشريك، بشريك دولى آخر يقلل الارتباط به من معدل التخوف والهواجس لدى الداعم الإقليمى المتمثل فى إيران.
2- طرح العراق نفسه كمصدر يوفر إمدادات النفط والغاز إلى أوروبا المنكوبة بالحرب الروسية-الأوكرانية وما نتج عنها من تداعيات على إمدادات الطاقة فيها. ووفقاً لمصادر فإن بوابة العبور العراقى لسوق النفط والغاز الأوروبية تتمثل فى شركة “توتال للطاقة” الفرنسية التى وقعت خلال عام 2021 عدة اتفاقات للشراكة مع الحكومة العراقية عنوانها الاستثمار فى قطاع الغاز والنفط والطاقة الكهربائية، والأخيرة تحديداً بإمكانها معالجة أزمة الكهرباء الحادة فى العراق التى كانت “المحرك الرئيسى” لاحتجاجات تشرين 2019.
إذ أشارت بعض المصادر إلى أن الزيارة أسفرت عن توقيع صفقات تجاوزت قيمتها المالية الـ20 مليار دولار، وهو ما سينعكس إيجاباً على حالة الاقتصاد العراقى داخلياً، لاسيما وأن السودانى سيعطى مساحات واسعة أمام عمل الشركات الفرنسية فى برامج إعادة الإعمار العراقية .
3- الوساطة بين بغداد وواشنطن؛ حيث أشارت بعض المصادر إلى رغبة السودانى في دفع باريس للعب دور الوسيط بين العراق والولايات المتحدة، وتحديداً من أجل تقريب وجهات النظر بشأن الإجراءات التى اتخذتها الولايات المتحدة حيال تقييدها لتعاملات البنك المركزى العراقى بوضعها ما يسمى، وفقاً لمتخصصين، “قواعد امتثال لتعاملات البنك المركزى العراقى فيما يتعلق بالدولار الأمريكى”.
وهناك من يشير إلى رغبة السودانى فى قيام باريس بإقناع واشنطن بدعوته لزيارة رسمية يلتقى فيها مع الرئيس الأمريكى جو بايدن لبحث أزمة الدولار والإجراءات المصرفية التى تقيد بها واشنطن النظام المصرفى فى العراق.
4- رفع كفاءة الأجهزة الأمنية العراقية عبر التدريب والتسليح؛ هذا الهدف تحديداً يعنى اتجاه السودانى فى مسار يدعم رؤية إيران حيال اتفاقات التعاون الاستراتيجية بين بغداد وواشنطن.
بمعنى أكثر دقة، فإن رغبة السودانى فى ترقية التعاون مع فرنسا على الصعيد الأمنى والعسكرى والتسليح يستهدف تقليل الاعتماد على الجانب الأمريكى فى الشأن نفسه؛ أى محاولة بغداد استبدال التعاون العسكرى مع الولايات المتحدة بالتعاون العسكرى مع باريس، وهو ما يحقق فى محصلته النهائية رغبة طهران بإبعاد العراق عن حالة الأرتباط الاستراتيجى بالولايات المتحدة على المدى الطويل.
بدائل جديدة
عبرت أهداف الزيارة التى قام بها رئيس الوزراء العراقى لباريس – وفقاً لما سبقت الإشارة إليه- عن مسعى الحكومة العراقية الجديدة بشأن البحث عن “بدائل دولية” تبنى معها العراق استراتيجيات شراكة بعيدة المدى على المستويات الاقتصادية (الاستثمار والطاقة) والأمنية (مكافحة الإرهاب والتدريب والتسليح) والثقافية (التبادل الثقافى وحماية الآثار).
ويكشف ذلك عن توجه جديد – بدأه مصطفى الكاظمى رئيس الوزراء العراقى السابق – يرغب فى الابتعاد بالعراق عن نقطة الصراع الدولى الاقليمى التى تغلف العلاقة بين إيران والولايات المتحدة، وتنعكس فى ملفات التفاعل المشتركة إقليمياً وأبرزها الملف العراقى.
لكن السؤال هنا هو: إلى أى مدى يستطيع السودانى الذهاب بالعراق بعيداً عن سياسات المحاور؟.
الواقع يقول بصعوبة وربما استحالة هذا التصور لعدة أسباب أبرزها على الإطلاق هو قوى الدعم الداخلية التى جاءت بالسودانى رئيساً للحكومة؛ بمعنى أن قوى الإطار التنسيقى – الموالية لإيران – والتى رجحت كفة السودانى لرئاسة الحكومة لن تتركه يذهب بعيداً عن التأثير الإيرانى.
كما أنه هو تحديداً له إطار وخطوط حمراء لا يستطيع تجاوزها؛ لأنه ببساطة ابن المنظومة نفسها الموالية لإيران. بل يبدو أن تحركاته النوعية تلك بالتوجه نحو باريس وعقد عدة اتفاقات للشراكات الاستراتيجية على مختلف الأصعدة والمستويات تعكس رغبة إيرانية مؤيدة وليست رافضة لهذا التوجه؛ لأنه فى النهاية يقلل من شدة الارتباط الاستراتيجى بالولايات المتحدة، وهو هدف إيرانى بامتياز.
بلا شك، إن التوجه العراقى الجديد بالبحث عن بدائل دولية للتعاون والشراكة الاقتصادية والأمنية يعد فى حد ذاته تنوعاً فى خيارات السياسة الخارجية العراقية، بما قد يوحى باستكمال مسار حكومة الكاظمى السابقة التى حاولت الحفاظ على “خيارات التوازن” فى علاقتها الخارجية.
لكن سيظل هذا التوجه – ووفقاً لما سبق من معطيات- رهناً لمدى ما يمثله من مصالح لإيران الراعى الإقليمى للحكومات الشيعية العراقية أياً كانت توجهاتها، والتى لا تخرج عن مسارين إما موالية تماماً لإيران وتوجهاتها الخارجية (الحكومات العراقية منذ عام 2006 إلى 2018)، وإما متوازنة فى توجهاتها حيالها (حكومة الكاظمى 2020-2022).
أما الأفق الاستراتيجى متعدد المصالح الذى دشنته زيارة السودانى لباريس فيصعب تصنيفه فى الوقت الراهن، فهل يعبر عن استقلالية عراقية فى نسج خريطة التحالفات الاستراتيجية بعيداً عن إيران؟، أم وسيلة تحقق بها إيران عبر العراق أهدافها الاستراتيجية فى إبعاده عن حالة “التحالف الاستراتيجى” مع الولايات المتحدة، أو على أقل تقدير موازنة تأثيرها؟.
مركز الأهرام للدراسات