مع دخول الحرب الروسية الأوكرانية عامها الثاني، صدرت تصريحات عن دوائر غربية عديدة، استخباراتية وسياسية وعسكرية وإعلامية، تحذر الصين من مساعدة روسيا في حربها ضد أوكرانيا، عبر تزويدها بالأسلحة، ما يعكس مخاوف متنامية من قِبل الغرب حيال انخراط بكين في الصراع الدائر الآن على الأراضي الأوكرانية. وتزامنت هذه التحذيرات الغربية لبكين مع إعلان الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة وأستراليا، يوم 13 مارس 2023، عن تفاصيل خطة مشتركة تهدف إلى إنشاء أسطول جديد من الغواصات التي تعمل بالطاقة النووية، بغية مواجهة نفوذ الصين المتزايد في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. وتثير كل هذه التطورات تساؤلات حول إمكانية اندلاع مواجهة بين الصين وروسيا من ناحية، والولايات المتحدة وحلفائها من ناحية أخرى.
اتهامات غربية:
ظهرت في الفترة الأخيرة أصوات غربية وأمريكية، بدت متناسقة في مضمونها لجهة استهداف الصين، بزعم أنها تفكر في تزويد روسيا بالأسلحة لمساعدتها في تجاوز الصعوبات التي تواجهها في حربها ضد أوكرانيا. وهذا ما يُعد، في حال حدوثه، تغيراً كبيراً في موقف بكين السابق إزاء مسألة إمداد موسكو بالأسلحة.
ولم يقتصر الأمر على التصريحات الاستخباراتية والسياسية والعسكرية، ودخلت بعض الدوائر الإعلامية الغربية على خط الترويج لتلك الاتهامات. فقد ذكرت مجلة “دير شبيغل” الألمانية أن الصين تعتزم تزويد الجيش الروسي بـ100 طائرة من دون طيار من طراز “زد تي – 180″، قادرة على حمل شحنة متفجرات يتراوح وزنها بين 35 و50 كيلوجراماً، بحلول إبريل 2023، وأن هناك مفاوضات بهذا الشأن بين مسؤولين عسكريين روس وشركة تصنيع المُسيّرات الصينية “شيان بينغو إنتيليجنت أفياشن تكنولوجي”، بهدف نقل تكنولوجيا ومكونات إنتاج هذا الطراز من الطائرات إلى موسكو لتصنيعها فيها. كما أشارت صحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية إلى أن واشنطن أبلغت حلف شمال الأطلسي “الناتو” بأن روسيا طلبت من الصين 5 أنواع من المعدات العسكرية، بما في ذلك صواريخ أرض جو، وطائرات من دون طيار، ومعدات استخباراتية، ومركبات مدرعة، وعربات للدعم اللوجستي.
ويُفترض أن يكون نشر واشنطن وحلفاءها هذه التكهنات مستنداً إلى امتلاكهم أدلة قوية تؤكد صحة ودقة المخاوف الغربية، ولكن اللافت هنا أن تلك التحذيرات من الصين، تستند إلى تقييمات ومعلومات استخباراتية، مصدرها الرئيسي أجهزة الاستخبارات الأمريكية والغربية، وتم تعميمها ومشاركتها في أوروبا وحلف “الناتو”، ولم تقدم واشنطن أو حلفاؤها شواهد ملموسة تؤكد صحة هذه التقييمات، بل شكك الرئيس جو بايدن في إمكانية إقدام الصين على إرسال أسلحة إلى روسيا.
وبدورها، لم تكتف بكين بنفي تلك الادعاءات الغربية ووصفها بـ”المضللة”، وكذلك توجيه الاتهام للولايات المتحدة بتصعيد الحرب في أوكرانيا من خلال ضخ الأسلحة في ساحة المعركة؛ لكنها “أي بكين”، وفي خطوة تدحض السرد الأمريكي والغربي ضدها، طرحت مبادرة للوساطة تتكون من 12 بنداً للتسوية السياسية للأزمة الأوكرانية، من خلال وقف إطلاق النار بين موسكو وكييف، وبدء مفاوضات سلام بين الجانبين لإيقاف الحرب. ويُتوقع أن يكون دعم المبادرة محوراً رئيسياً لزيارة الرئيس الصيني، شي جين بينغ، إلى روسيا خلال الفترة من 20 إلى 22 مارس 2023، خاصة بعد التحفظ الروسي على هذه المبادرة والتشكيك الغربي فيها، حيث سيلتقي الرئيس شي نظيره الروسي فلاديمير بوتين، وربما يلتقي أيضاً عبر دائرة فيديو الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي.
براغماتية بكين:
تباينت استجابة كل من الصين والغرب للحرب الروسية الأوكرانية، ففي حين وقف الغرب إلى جانب كييف بفرض سلسلة من العقوبات الاقتصادية المشددة على موسكو، تبنت بكين “الشريك الاستراتيجي لروسيا” مقاربة براغماتية، باتخاذها موقفاً محايداً تجاه الحرب. فقد حمّلت الصين، الولايات المتحدة وحلف “الناتو” مسؤولية اندلاع الصراع وتأجيجه في أوكرانيا، وأعربت عن دعمها لموسكو في مواجهة العقوبات الغربية، وشددت على ضرورة مراعاة المخاوف الأمنية الروسية، كما دعت أيضاً إلى احترام وحدة أراضي أوكرانيا.
وقد مثّلت مسألة الموازنة بين الحفاظ على الشراكة المهمة للغاية مع روسيا، وفي الوقت نفسه تجنب فقدان مصالحها مع الغرب، تحدياً كبيراً لسياسة الصين الخارجية وموقفها تجاه الحرب الأوكرانية، خاصة في ظل امتلاكها شبكة هائلة من المصالح مع كل من روسيا والغرب.
ومن هنا، يُطرح التساؤل حول التطور الجديد الذي ربما طرأ ليدفع الصين، حسبما تذهب التقديرات الغربية والأمريكية، إلى احتمال إمداد روسيا بالأسلحة في حربها ضد أوكرانيا. ولماذا تفكر القيادة الصينية في مثل هذه الخطوة الآن، بعد دخول الحرب عامها الثاني، بما يمثل تحولاً جذرياً في موقف الصين إذا حدث تجاه الصراع الروسي الأوكراني؟
دوافع استباقية:
بصفة عامة، يمكن القول إنه لو صحت تقديرات رغبة بكين في مساعدة موسكو عسكرياً، فإن مرد ذلك سيرجع إلى علاقات الشراكة الاستراتيجية بين البلدين والتي تمت صياغتها بشكل رسمي قبل الحرب، وهناك عدة أسباب أخرى وراء هذه الرغبة الصينية، بافتراض صحتها، لعل من أبرزها:
1- استجابة بكين لطلب الرئيس بوتين بضرورة التقارب العسكري بين البلدين لمواجهة ما أسماه بالضغوط الغربية غير المسبوقة.
2- استخلاص الدروس المُستفادة من رد فعل الغرب على الدعم الصيني المحتمل لروسيا، ولاسيما فيما يتصل بالخطط الصينية المستقبلية تجاه تايوان.
3- العمل على صرف انتباه الولايات المتحدة عن الصين ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ، وأن تستمر في تركيز اهتمامها على أوروبا، وخاصة بعد أن اتهمت بكين كلاً من الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا بتأجيج سباق تسلح جديد بعد اتفاق الدول الثلاث في 13 مارس الجاري على تطوير جيل جديد من الغواصات التي تعمل بالطاقة النووية، بهدف مواجهة التوسع العسكري الصيني في المحيطين الهندي والهادئ.
4- تعارض خسارة روسيا مع المصالح الجوهرية للصين، حيث ستجد بكين نفسها وحيدة ومعزولة في مواجهة الغرب، وبالتالي تراجع مكانتها في النظام الدولي، في مقابل تأكيد الهيمنة الأمريكية على العالم.
5- رغبة الرئيس شي في تعزيز الدور الدبلوماسي للصين، وطموحه أن تؤدي دوراً أكثر نشاطاً في الأمن العالمي، وهو ما يفسر نشر بكين مضمون مبادرة الأمن العالمي التي طرحها شي بالتزامن مع الذكرى السنوية الأولى للحرب، وكذلك طرحها مبادرة للسلام بين روسيا وأوكرانيا.
وبالنظر إلى ما تتسم به السياسة الخارجية الصينية من براغماتية، يمكن استنتاج وجود دوافع مصلحية قوية ربما قد تؤدي ببكين إلى مد يد المساعدة العسكرية المباشرة لروسيا في حربها ضد أوكرانيا، وفقاً للتقديرات الغربية، والتي قد تشمل الذخائر والأسلحة الدقيقة، والطائرات من دون طيار، والعربات المدرعة والدبابات.
تداعيات محتملة:
على الرغم من أن حديث الغرب عن احتمالية قيام الصين بتزويد روسيا بالأسلحة، ما زال يندرج في سياق التكهنات التي تفتقر إلى أدلة واضحة وملموسة لتأكيدها، فإنه في حالة تحول هذه التكهنات إلى حقيقة، من شأن ذلك أن يثير مخاوف عديدة لدى الغرب، في ضوء ما سيترتب عليه من تداعيات وانعكاسات عديدة محتملة، يتمثل أبرزها في الآتي:
1- خسارة الغرب لشريك اقتصادي رئيسي: من شأن تزويد الصين لروسيا بالأسلحة أن يدفع الغرب إلى فرض عقوبات اقتصادية على بكين، وهو ما سيترتب عليه فقدان شريك اقتصادي وتجاري واستثماري في غاية الأهمية بالنسبة له. فبالنظر إلى مؤشرات وحجم التجارة بين الجانبين، يتضح حجم الخسارة التي سيتكبدها الغرب في حالة قيامه بعقاب بكين، حيث تُعد الصين الشريك التجاري الأول للاتحاد الأوروبي منذ عام 2020، وبلغ حجم التجارة بينهما في عام 2021 نحو 586 مليار دولار. وبجانب المصالح التي تربط الصين مع أوروبا، فهناك أيضاً مصالح اقتصادية وتجارية قوية تربطها بالولايات المتحدة، ويؤكد ذلك وصول حجم التبادل التجاري بينهما إلى ما يزيد على 750 مليار دولار في عام 2021، فيما بلغ الاستثمار البيني 240 مليار دولار.
ومن ثم، فإن احتمال إطالة أمد الحرب في أوكرانيا نتيجة المساعدة العسكرية الصينية لروسيا، وقطع الغرب علاقاته التجارية مع الصين، سوف يترتب عليه تداعيات خطرة، قد تصل إلى حدوث ما وصفه البعض بـ”زلزال اقتصادي”، بسبب الاعتماد الغربي المتزايد على الإنتاج الصيني، وأهمية السوق الصينية للدول الأوروبية.
2- تدهور علاقات بكين مع واشنطن وحلفائها: تهدف الولايات المتحدة من وراء الكشف عن المعلومات الاستخباراتية التي أشارت إلى تفكير الصين في إمداد روسيا بالأسلحة، إلى محاولة ردع بكين عن اتخاذ مثل هذه الخطوة، وتوضيح ما سيترتب عليها من تداعيات، وهو ما يعني أن واشنطن سوف تقوم في هذه الحالة، وبالتوازي مع العقوبات الأوروبية المحتملة، بفرض عقوبات اقتصادية قاسية على الصين. وبالتالي، من المتوقع أن يؤدي انخراط بكين عسكرياً في الحرب الأوكرانية إلى تدهور حاد في العلاقات الصينية الأمريكية والأوروبية، وهو ما يفسر تحذير الاتحاد الأوروبي من تداعيات تلك الخطوة على علاقاته مع بكين.
3- تغيير قواعد الصراع الروسي الأوكراني: من شأن تدفق الأسلحة من الصين إلى روسيا أن يُعيد خلط أوراق النزاع في أوكرانيا ويُحدث تحولاً كبيراً في الصراع. فالحرب الجارية بين روسيا وأوكرانيا تُعد في أحد أبعادها حرباً بين الأنظمة الصناعية، حيث تعاني روسيا جراء استخدام أوكرانيا للمنظومات العسكرية الغربية، وفي حال تدخل الصين، فإن كييف ستفتقد أي ميزة تتمتع بها بفضل هذه الأنظمة. كما سيترتب على قيام بكين بتوريد الذخائر إلى موسكو، سواء ذخائر المدفعية أو الذخائر دقيقة التصويب أو الأسلحة الهجومية بعيدة المدى، منح روسيا ميزة نسبية، وهو ما سيؤدي إلى زيادة معاناة الأوكرانيين.
4- عودة أجواء الحرب الباردة بين الشرق والغرب:سوف يترتب على أي إمدادات أسلحة صينية لروسيا، المخاطرة بتصعيد محتمل للحرب الأوكرانية إلى مواجهة بين روسيا والصين من جانب، وأوكرانيا وحلف “الناتو” بقيادة الولايات المتحدة من جانب آخر. ويذهب البعض إلى أن الصراع الجاري حالياً في أوكرانيا يشبه بعضاً من سمات وملامح الوضع الدولي خلال حقبة الحرب الباردة، فقد أصبح التحالف بين موسكو وبكين أقوى مما كان عليه الحال خلال الحقبة الشيوعية، كما يسعى الرئيس شي إلى تحقيق طموحاته المعلنة صراحة لمعارضة الهيمنة العالمية للولايات المتحدة. وعلى الجانب المقابل، اتخذت واشنطن والاتحاد الأوروبي سلسلة من التحركات لقطع العلاقات التجارية بشكل تام مع موسكو ووقف تطوير قطاع التكنولوجيا في الصين، كما حذر الرئيس زيلينسكي من اندلاع حرب عالمية إذا قدمت الصين دعماً عسكرياً لروسيا ضد أوكرانيا. وهي جميعها ملامح تثير التساؤل بشأن مدى انقسام العالم مرة أخرى إلى كتلتين متنافستين كما حدث خلال الحرب الباردة.
في الختام، يمكن القول إنه في حالة تحول التحذيرات الأمريكية والغربية للصين من تزويد روسيا بالأسلحة ضد أوكرانيا، من خانة التوقعات والتكهنات إلى حقيقة واقعة، فإن ذلك سيؤدي إلى قطع العلاقات الاقتصادية والتجارية بين الصين والغرب، سواء أوروبا أو الولايات المتحدة، كنتيجة منطقية لقيامهما في هذه الظروف بفرض عقوبات اقتصادية على بكين؛ نظراً لما سيترتب على هذا الأمر من تغيير لموازين القوى في الحرب الأوكرانية، وهو ما لا يتسق مع هدف الغرب الساعي إلى إلحاق الهزيمة بروسيا. علاوة على ما ستعكسه هذه الفرضية من حدوث تحول جوهري في سياسة الصين الخارجية بجعلها ذات طابع عسكري وتدخلي في الصراعات الخارجية. وهذه جميعها مؤشرات تشي بحدوث استقطاب واصطفاف حاد في العلاقات الدولية قد يُعيدها مرة أخرى إلى أجواء الحرب الباردة.
مركز المستقبل للدراسات