في العاشر من مارس 2023، تم الإعلان عن اتفاق سعودي إيراني، بوساطة صينية، يقضي بعودة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، بعد سبع سنوات من قطعها، وتفعيل اتفاقية التعاون الأمني المُوقعة بينهما في عام 2001. وهو الاتفاق الذي مثّل مفاجأة لإسرائيل، وعلى نحو جعلها من الخاسرين المحتملين بعد الإعلان عنه.
دوافع الاتفاق:
ذهبت التحليلات والتقديرات المنشورة في مراكز الفكر ووسائل الإعلام الإسرائيلية إلى أن دوافع السعودية لإعادة العلاقات مع إيران لم تكن وليدة عوامل آنية، وإنما ارتبطت بتطور الأحداث منذ عام 2016 “لحظة قطع العلاقات بين الرياض وطهران”، والتي أثبتت تعرض المملكة لتهديدات ضاغطة من إيران ووكلائها المسلحين، في ظل رد فعل غربي وأمريكي متواضع. ورأت هذه التحليلات الإسرائيلية أن الإدراك السعودي لتلك التهديدات الإيرانية تطوّر عبر عدة محطات، وأبرزها التالي:
1- تدهور العلاقات السعودية الأمريكية، وصولاً إلى رفض الرياض التنسيق مع واشنطن فيما يتعلق برفع حصص إنتاج النفط بعد اندلاع الحرب الأوكرانية.
2- وجود تقارير عن طلب السعودية من الولايات المتحدة الأمريكية مساعدتها في بناء مفاعلات نووية لأغراض سلمية، في مقابل تسويف أمريكي. وتجددت هذه المطالبات في ديسمبر 2022، وفقاً لادعاءات صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية، ولكن هذه المرة طالبت الرياض أيضاً بمنحها نفس مستوى تسليح دول حلف “الناتو”. ويبدو أن الرد الأمريكي لم يكن على مستوى التطلعات السعودية.
3- يبدو أن السعودية رأت أن الاتفاق مع إيران لن يُنهي حالة المواجهة معها، ولكن سيُقلِّل مستوى التهديدات في المستقبل المنظور، وسيُمكّن المملكة من تحقيق مكاسب في ملفات إقليمية أخرى، وفقاً للتقديرات الإسرائيلية.
الموقف الإسرائيلي:
جاء رد الفعل الإسرائيلي إزاء الاتفاق السعودي الإيراني مُنسجماً مع حالة الانقسام التي تشهدها تل أبيب، حيث وُقع الاتفاق خلال رحلة رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، إلى إيطاليا. وأفادت وسائل إعلام إسرائيلية بأن مسؤولاً رفيع المستوى – دون تسميته – كان يسافر مع نتنياهو في رحلة روما ألقى باللوم على الحكومة الإسرائيلية السابقة “بينيت/ لابيد” والإدارة الأمريكية الحالية برئاسة جو بايدن، في هذا الاتفاق، قائلاً: “كان هناك شعور بضعف أمريكي وإسرائيلي، لذا لجأت السعودية إلى قنوات أخرى”.
ولكن من المثير للاستغراب أنه خلال أول ظهور علني لنتنياهو بعد عودته من إيطاليا، وخلال خطاب مُتلفز بعد ترؤسه للاجتماع الأسبوعي لمجلس الوزراء الإسرائيلي، لم يتحدث عن الاتفاق السعودي الإيراني، وركّز على مخرجات زيارة إيطاليا، وجهوده لمواجهة الخطر الإيراني. وهو ما يعطي انطباعاً بأن نتنياهو ليس مُهيأً بعد للتعامل مع هذا التطور، وأنه تفاجأ به تماماً.
أمّا المعارضة الإسرائيلية، فحاولت استغلال الموقف وتوظيفه في إطار هجومها السياسي على نتنياهو، حيث أكد رئيس الوزراء السابق، يائير لابيد، أن الاتفاق يمثل “إخفاقاً كاملاً وخطراً على السياسة الخارجية للحكومة الإسرائيلية”، وأنه بمثابة “انهيار لجدار الدفاع الإقليمي الذي بدأنا ببنائه ضد إيران”. وبالمثل تحدّث شريكه سابقاً في رئاسة الوزراء، نفتالي بينيت، حيث ذكر أن استئناف العلاقات بين الرياض وطهران يعتبر “تطوراً خطراً لإسرائيل وانتصاراً دبلوماسياً مهماً لإيران”، مُتهماً نتنياهو بـ”الفشل الذريع الناجم عن الإهمال الدبلوماسي والضعف العام والصراع داخل إسرائيل”. بينما علّق وزير الدفاع السابق، بيني غانتس، بأن نتنياهو تخلّى عن أمن إسرائيل ومواطنيها، بينما هو وحكومته “مشغولون بالانقلاب السلطوي”، على حد تعبيره.
ولكن اللافت للانتباه كان رد فعل رئيس لجنة الأمن والشؤون الخارجية والدفاع في إسرائيل، يولي إدلشتاين، وهو عضو في حزب الليكود “بزعامة نتنياهو”، حيث قال إن “العالم لا يقف مكتوف الأيدي، ونحن منشغلون بالصراعات الداخلية. لقد حان الوقت لنجلس ونحل خلافاتنا، حتى نتحد ونواجه التهديد الوجودي الذي نواجهه جميعاً”. وهو ما يشير إلى بوادر انقسام محتمل داخل صفوف الليكود حول سياسات حكومة نتنياهو.
أضرار مُكلِفة:
ذهبت معظم التقديرات إلى أن الاتفاق السعودي الإيراني سيكون مُكلِفاً لإسرائيل، وذلك على المستويات التالية:
1- تراجع فرص حصار إيران إقليمياً: يرى الإسرائيليون أن فرص تشكيل تحالف إقليمي ضد إيران باتت صعبة عمّا قبل. ومن المُرجَّح أن يعيد اتفاق الرياض وطهران رسم خريطة التحالفات الإقليمية مرة أخرى، ويمنح إيران الشرعية التي تحتاجها لتثبيت مكانتها في العالم العربي، ويمكن أن يؤدي إلى مزيد من الاتفاقات الإيرانية مع دول عربية أخرى، وربما يُمهّد لتقديم حل عملي للأزمة في لبنان، وصولاً إلى إمكانية استئناف المفاوضات بشأن الاتفاق النووي.
2- تعظيم الشكوك حول قدرة حكومة نتنياهو على توجيه ضربة عسكرية لإيران: غالباً ما كان نتنياهو يُصوِّر نفسه على أنه السياسي الوحيد القادر على حماية إسرائيل من البرنامج النووي المتسارع لطهران والوكلاء الإقليميين، مثل حزب الله في لبنان، وحماس في قطاع غزة. ولكن ظلّ هناك من يشكك في قدرة نتنياهو على تبني هذا الخيار، وما إذا كان أصلاً هو الخيار الأنسب في اللحظة الراهنة. وقد جاء الاتفاق الأخير ليُعزز هذا الاعتقاد، خاصة أنه تزامن مع أجواء مضطربة داخل سلاح الجو الإسرائيلي، وهو عنصر حيوي لأي مهمة عسكرية إسرائيلية محتملة قد تستهدف إيران. إذ انضم 37 طيّاراً إسرائيلياً من “السرب 69” إلى الاحتجاجات الشعبية ضد خطط حكومة نتنياهو للإصلاح القضائي. ومن المعروف أن “السرب 69” هو القوة الضاربة الاستراتيجية لسلاح الجو الإسرائيلي.
3- تغيير موازين القوى في المنطقة لصالح الصين: يرى الإسرائيليون أن الاتفاق بين السعودية وإيران، بوساطة الصين، يُشكِّل نقطة تحول أساسية في المعادلة الجيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط. فبكين أكّدت، من خلال هذه الوساطة، رغبتها في زيادة انخراطها الدبلوماسي والسياسي في المنطقة. وبعد أن وقّعت الصين اتفاقية التعاون الاستراتيجي مع إيران، في مارس 2021، والتي تتضمن من بين بنودها استثمارات صينية بقيمة 400 مليار دولار في عدد من المجالات في إيران على مدار 25 عاماً؛ أدركت بكين أن حصد مكاسب هذا الاتفاق لن تتم إلا بعد توقيع اتفاق نووي جديد، أو إعادة إدماج طهران في الإقليم، لذا دخلت معركة الوساطة بين إيران والسعودية من أجل بناء تحالف يخدم مصالح الدول الثلاث دون الحاجة إلى خدمات أو ضمانات من الولايات المتحدة.
ويبدو أن المُهدد الرئيسي لإسرائيل بشأن هذا التطور، هو أن الصين ربما أصبحت قريبة من أخذ مكانة أو على الأقل منافسة الولايات المتحدة كقوة اقتصادية واستراتيجية في المنطقة، وهي قوة ليس لتل أبيب تأثير كبير فيها، كما هو الحال مع واشنطن.
شكوك الفاعلية:
في مقابل التيارات التي رصدت خسائر إسرائيل من الاتفاق السعودي الإيراني، كان هناك وجهة نظر أخرى ترى ضرورة التمهّل قبل الحكم على فاعلية هذا الاتفاق، ومدى تأثيره في تل أبيب، وذلك للسببين التاليين:
1- إن الاتفاق يعني أن الصين والسعودية يضعان، ضمنياً، رهاناً كبيراً “محفوفاً بالمخاطر” – وفقاً لوصف الإسرائيليين – حول مستقبل السلوك الإيراني، ونيات طهران لضبط سلوكها الإقليمي. ويُذكّر هذا الاتجاه بأن إيران اعتادت تاريخياً أن تذهب إلى التهدئة كخيار تكتيكي مدفوع باعتبارات قصيرة المدى، دون التخلي عن الأهداف الاستراتيجية للنظام، والمتمثلة في استمرار الهيمنة الإقليمية ودعم البرنامج النووي.
2- عند البحث عن الأدوات التي تملكها الصين كوسيط للتأثير في السلوك الإيراني في حال انتهكت طهران هذا الاتفاق، يرى الإسرائيليون أن بكين لا تمتلك مثل هذه الأدوات في اللحظة الراهنة، وهو ما قد يُضعف مكانتها كقوة عالمية تسعى للحضور بقوة في المنطقة، ويجعل الاتفاق أكثر هشاشة.
ومن جانبه، وصل إفرايم هليفي، المدير السابق للموساد الإسرائيلي، في تحليله للاتفاق، إلى أنه ليس من الحكمة أن تُعارض حكومة نتنياهو الاتفاق علناً، من جهة، لأنها لا تملك القدرة على تغييره، ومن جهة أخرى حتى لا تدخل في خلاف مع الصين، ناهيك عن رؤيته أن هذا الاتفاق لن يؤثر في العلاقات العربية الإسرائيلية.
خلاصة القول إن إسرائيل قد تكون من أبرز الأطراف المُحتمل تضررها بعد الإعلان عن اتفاق استئناف العلاقات السعودية الإيرانية، ويبدو أنها لم تكن مستعدة لهذا السيناريو، خاصة أنها كانت مهتمة طيلة السنوات الماضية بمحاولة تشكيل جبهة إقليمية، وبدعم أمريكي، في مواجهة طهران. كما أن نجاح الوساطة الصينية في الوصول إلى هذا الاتفاق فاجأ صُناع القرار في تل أبيب، وذلك بالنظر إلى ارتباط بكين بعلاقات جيدة مع طهران، على عكس علاقات واشنطن مع الأخيرة. وبالرغم من كل ذلك، مازال هناك اتجاه في التقديرات الإسرائيلية يرى أنه من المُبكر الحكم على التداعيات الإقليمية للاتفاق السعودي الإيراني، ومنها انعكاسه على المصالح الإسرائيلية.
مركز المستقبل