العراق.. موازنة ثلاثية لرشوة المجتمع وتغذية البطالة وإغراق الدولة بالديون

العراق.. موازنة ثلاثية لرشوة المجتمع وتغذية البطالة وإغراق الدولة بالديون

بغداد – تدافع حكومة محمد شياع السوداني عن الحاجة إلى إقرار موازنة ثلاثية (للأعوام 2023، 2024، 2025)، “لتحاشي السجال السياسي” الذي يؤدي إلى تعطيل إقرار الموازنة السنوية، وتوفير الأموال اللازمة “لمواصلة المشاريع الاستثمارية” التي تقوم بها الوزارات المختلفة.

إلا أن إقرار موازنة ثلاثية يعني أيضا أن حكومة السوداني تريد البقاء في السلطة لثلاث سنوات أخرى، من دون أن تخوض في نقاش حول الإنفاق الحكومي. كما أن تحليل أرقام الموازنة يُظهر أنها ثلاثية الرؤوس، وليست ثلاثية السنوات فقط، فهي وإن كانت تستهدف حسب مراقبين رشوة المجتمع، فإن النتائج التي تترتب عليها تؤدي إلى تغذية البطالة عن طريق تزوير الحقائق التشغيلية، كما أنها تؤدي الى إغراق ميزانية الدولة بالديون، حتى تواجه وضعا قريبا من الإفلاس مثلما واجهته لمرتين على الأقل في السابق، رغم أن عائدات النفط لم تتوقف عن التدفق.

ويقول السوداني إن “الموازنة الثلاثية ستحل مشاكل المواطنين التي يواجهونها نهاية كل عام. ففي كل سنة نصل إلى الشهر الحادي عشر وتُصاب الوزارات بشلل بسبب عدم وجود موازنة. وإن الدولة تخسر 6 أشهر لعدم وجود موازنة”.

وتقول النائبة عن ائتلاف “دولة القانون” عالية نصيف إنَّه «في كل عام تحدث عمليات ابتزاز سياسي بشأن الموازنة وتخضع لطلبات الكتل السياسية، ما يُثقل كاهل المسودة، وبالنتيجة الطعن بها أمام المحكمة الاتحادية. ولمعالجة هذا الخلل ومن أجل استدامة المشاريع واستقرار الاقتصاد والاستثمار تم الركون إلى المضي بثلاث سنوات”.

أما الحقيقة بالنسبة إلى الاستثمارات الحكومية التي يجب “ألا تتعرض للتعطيل”، فإن أرقام الموازنة نفسها تثبت أنها أرقام هزيلة قياسا بمعدلات الإنفاق العام، ما يجعل التبرير “الاستثماري” مجرد غطاء لأهداف أخرى، سياسية وليست استثمارية.

وتبلغ موازنة العام الجاري 200 تريليون دينار، أي نحو 153 مليار دولار. ولا تحتل الاستثمارات فيها إلا 50 تريليون دينار أو نحو 38 مليار دولار، وهو مبلغ محدود قياسا بالمشاريع الاستثمارية التي يتعين أن ينهض بها العراق، والكثير منها معطل أصلا، أو مخطط له، ولكن لم ينفذ.

ويقول خبراء اقتصاديون إن السبب الذي يجعل الموازنة الاستثمارية محدودة يعود إلى أن “الموازنة التشغيلية”، والتي تتعلق بالإنفاق الحكومي ورواتب الموظفين تستهلك بمفردها 150 تريليون دينار، أي أكثر من 114 مليار دولار. وفي حين تلحظ الموازنة عائدات لا تتجاوز 103 مليار دولار، فإن ذلك يعني بوضوح أن “الموازنة التشغيلية” تستهلك أكثر من العائد النفطي كله.

وعلى الرغم من أن العراق يعتمد في 96 في المئة من عائداته على النفط، فإن القطاع النفطي الذي يُنتج هذه الثروة لا يُشغّل أكثر من 1 في المئة من إجمالي عدد الموظفين، أي ما يصل إلى نحو 40 ألف عامل وموظف من بين أكثر من 4 ملايين موظف. وتقول التقديرات إن الفرد الواحد من هذا العدد الضخم من الموظفين يعمل، في المعدل، أقل من 20 دقيقة في اليوم.

ويكشف هذا الواقع حقيقة أن سياسات التشغيل هي سياسات رشوة اجتماعية وليست سياسات عمل. فعدا عن أن هناك مئات الآلاف من الموظفين “الفضائيين” الذين لا وجود لهم، وتذهب مرتباتهم الى الأحزاب التي قامت بتعيينهم بأسماء وهمية، فإن هناك مئات الآلاف ممن يتقاضون رواتب جارية وتقاعدية مزدوجة، من دوائر حكومية مختلفة، بفضل التعيينات التي يحصلون عليها من تلك الأحزاب. وبينما يحصل أفراد الميليشيات على رواتب من الدولة كمنجدين في إطار “الحشد الشعبي”، فانهم يحصلون على رواتب أخرى كموظفين حكوميين، لا تعرف دوائرهم نفسها ماذا يعملون.

64 تريليون دينار حجم العجز الموازنة الراهنة من الأساس أي نحو 49 مليار دولار

والغاية الرئيسية من سياسة “الرشوة التشغيلية” هي التغطية على أعمال الفساد الكبرى، فباعتبار أن هناك مئات الآلاف ممن يمارسون فسادهم الصغير الخاص بهم، فإنهم يميلون تلقائيا إلى الصمت على فساد الآخرين.

وبحسب تقرير الموازنة للعام الجاري فإن عدد القوى العاملة في القطاع العام زاد بنحو 883 ألف موظف. وهي زيادة تشكل حسب التقرير13 في المئة من إجمالي القوى العاملة في العام 2021. إلا أن الباحث الاقتصادي يحيى الكبيسي يقول إنه لدى “مراجعة قانون الموازنة لعام 2021 تكشف أن إجمالي القوى العاملة في تلك السنة بلغ 3 ملايين و263.8 ألف موظف، وبحساب الزيادة لعام 2023 سيكون الرقم 4 ملايين و96.3 ألف موظف، وهذا يعني أن الزيادة في القوى العاملة بلغت 25.5 في المئة وليس 13 في المئة”.

وهذه زيادة أقرب ما تكون إلى زيادة خرافية لا يبررها إلا شيء واحد، هو تغذية “الفساد من تحت” للتغطية على “الفساد من فوق”.

ويلاحظ الكبيسي، على سبيل المثال، أن عدد القوى العاملة في وزارة التربية قد ارتفع من 154.1 ألف موظف في العام 2021 إلى 963.9 مليون موظف في العام 2023، وأن عدد القوى العاملة في وزارة الصحة قد ارتفع من 116.4 ألف موظف في العام 2021 إلى 488.2 ألف موظف في العام.

والحقيقة التي يعرفها العراقيون هي أن الخدمات في هذين القطاعين لم تشهد تغييرات جذرية توازي حجم عمليات التوظيف فيهما.

ويقول أستاذ الاقتصاد عماد عبداللطيف سالم في تدوينة إنه «في اقتصاد ريعي، تشكّل الإيرادات النفطيّة 96 في المئة من إجمالي إيراداته العامة، فإنّ اعتماد موازنات ثلاثية السنوات، سيعني بالضرورة وجود ‘كلاوات – حيل’ سياسية ثلاثيّة الأبعاد، أيضاً.. فصُنّاع القرار يتعاملون في العراق مع الأطر القانونيّة، وأحياناً الدستورية، وفقاً لرغباتهم، وبما يخدم مصالحهم، بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشر، قبل أيّ اعتبارٍ آخر».

وتعني سياسات التشغيل الوهمي ونقص الموارد الخاصة بالمشاريع الاستثمارية أن هناك تغذية متعمدة للبطالة في المجتمع، من خلال جعل الملايين يعتاشون على الدولة من دون أن يقدموا شيئا للاقتصاد. وإذ يبلغ عدد السكان الذين يعتمدون على الرواتب الحكومية، بحسب حجم الأسر، نحو 16 مليون نسمة، فإن ذلك يعني أن أكثر من نصف المجتمع بات غارقا بحصته، ولو الصغيرة، من الفساد، وهو ما يوفر للأحزاب الحاكمة فرصة لشراء الناخبين، أكثر فاعلية من وسائل الرشوة الأخرى، التي تقدم خلال الحملات الانتخابية، لاسيما وأنها “فاعلية رسمية” من ناحية، ودائمة من ناحية أخرى.
وبينما كان البنك الدولي قد ألزم العراق باحتساب سعر برميل النفط بـ64 دولارا، فإن الموازنة تقدر سعر النفط على أساس 70 دولارا، وهو ما يثير إشكالية جسيمة. ذلك أن موازنة “تشغيلية” لتمويل الرشوة الاجتماعية تبلغ 114 مليار دولار، سوف تعني عجزا شديدا إذا ما انخفض سعر برميل النفط إلى ما دون 64 دولارا.

ويقول أستاذ الاقتصاد في جامعة البصرة نبيل المرسومي إن «الموازنة ستدخل في المسار الحرج إذا انخفض سعر خام برنت إلى نحو 60 دولاراً للبرميل؛ إذ ستكفي الإيرادات النفطية عندئذ لتغطية فقط فقرتي رواتب الموظفين والرعاية الاجتماعية اللتين تصلان إلى أكثر من87 تريليون دينار في موازنة 2023».

883 ألف موظف جديد في القطاع العام وهي زيادة تشكل 13 المئة من إجمالي القوى العاملة

وبحسب تجارب السنوات السابقة، فإنه سوف يجري تعويض النقص عن طريقين اثنين: الأول، سحب الأموال من الموازنة الاستثمارية، وهو ما يعني تعطيل المشاريع التنموية من جديد. والثاني هو زيادة الاقتراض، وهو ما يزيد أعباء الديون إلى درجة تهدد الخزانة العامة بالوقوف على حافة الإفلاس مرة أخرى.

وتشمل الموازنة الراهنة، من الأساس، عجزا يبلغ 64 تريليون دينار أي نحو 49 مليار دولار، أو ما يعادل نحو 45 في المئة من إجمالي العائدات النفطية، وذلك على الرغم من أن قانون «الإدارة المالية الاتحادية» رقم 6 لسنة 2019 (المادة 6 – رابعا) يقر بأنه «لا يجوز أن يزيد العجز في الموازنة التخطيطية عن 3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي».

ولكي تتم تغطية العجز، فإن الحكومة سوف تجد نفسها مضطرة، كما فعلت من قبل، إلى إصدار سندات وحوالات خزينة للمصارف الحكومية فضلا عن القروض الخارجية.

وكان وزير المالية السابق علي عبدالأمير علاوي كشف لدى مناقشة الموازنة العامة لعام 2021 في مجلس النواب العراقي أن حجم الدين الخارجي للعراق بلغ 160 تريليون دينار أو ما يعادل 133.3 مليار دولار. وحتى بعد حذف ما تعتبره الحكومة “ديونا معدومة” فإن حجم الدين الخارجي يبلغ 93.3 مليار دولار. وهو مبلغ قريب للغاية من كل ما يملكه العراق من احتياطات نقدية.

العرب