الموضوع الكردي في تركيا يستوجب حلاً وطنياً عادلاً

الموضوع الكردي في تركيا يستوجب حلاً وطنياً عادلاً

بغض النظر عن نتائج الانتخابات التركية التي ستتضح ملامحها في غضون الساعات المقبلة؛ لا تبدو في الأفق المنظور معالم حلٍّ واقعي ممكن للموضوع الكردي في تركيا على أسس عادلة، تضمن الحقوق المشروعة التي تعد من البدهيات في عالمنا المعاصر لما يتراوح، وفق معظم التقديرات، بين 20 إلى 25 مليون مواطن يعيش معظمهم في كردستان تركيا/ جنوب شرق تركيا، والمدن التركية الأساسية (اسطنبول، أنقرة، إزمير، مرسين وغيرها) التي انتقلوا إليها نتيجة العمليات والمعارك العسكرية بين الجيش التركي وقوات حزب العمال الكردستاني التي كانت في ثمانينات وتسعينات القرن المنصرم على وجه التخصيص.
فالتحالف الجمهوري الذي يضم الشريكين في الحكم وهما حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية إلى جانب كل من حزب الوحدة الكبرى والرفاه من جديد وحزب هدى بار (حزب كردي إسلامي صغير)، وحزب اليسار الديمقراطي، لا يمتلك أي برنامج واضح بخصوص حل الموضوع الكردي على أسس وطنية تأخذ بعين الاعتبار وحدة تركيا أرضاً وشعباً. هذا رغم التصريحات الإيجابية العامة غير الملزمة، وربما بعض الاتصالات التي تكون عادة تحت ضغط الحسابات الانتخابية الآنية. ومن المعروف أن هذا التحالف يدعو إلى استمرارية النظام الرئاسي القائم، ومرشحه هو الرئيس الحالي لتركيا رجب طيب اردوغان.
والأمر ذاته بالنسبة لتحالف الأمة/ الشعب الذي يضم ستة أحزاب هي حزب الجمهورية، والجيد، والمستقبل، والسعادة، وحزب الدواء (حزب الديمقراطية والتقدم)، والحزب الديمقراطي. أما مرشح هذا التحالف للرئاسة فهو زعيم الحزب الجمهوري كلجدار أوغلو الذي يدعو صراحة إلى اعتماد النظام البرلماني مجدداً. فرغم التصريحات الإيجابية لأعضاء هذا التحالف ومرشحه الرئاسي بخصوص تقبل الآخر المختلف سواء من جهة الانتماء القومي أو الديني والمذهبي، أو درجة الالتزام الديني، ورغم اللقاءات التي تمت بين ممثلي هذا التحالف وأعضاء في حزب الشعوب الديمقراطي، لا توجد خطة واضحة مُعلَنة، مُلْزمة بخصوص كيفية التعامل مع الموضوع الكردي الكبير في تركيا؛ كما لا توجد أية بوادر تشير إلى ملامح الحل الذي قد يُعتمد مستقبلاً. وما يستشف من هذا هو أن الحسابات الانتخابية الآنية هي التي تتحكّم في المقام الأول بهذه التصريحات، وتفسّرها.
غير أن الأمر الإيجابي في التصريحات العامة، التي لا تستند إلى خطة واضحة المعالم بشأن مقاربة الموضوع الكردي لمرشحي التحالفين للرئاسة حول أهمية وضرورة احترام التنوع هو أنه قد يكون تمهيداً لتبنّي سياسة وطنية عامة، تمكّن تركيا من التصالح مع تاريخها وواقعها المجتمعي القائم.
فالكرد يمثلون نحو ربع السكان، عاشوا في مناطقهم قبل تأسيس الدولة العثمانية، وأسهموا في بنائها وتوسيع نطاقها. ولم يشعروا في بداية الأمر بحالة الاغتراب التي يعيشونها راهناً، في ظل الدول المعنية، التي كانت تحكم باسم الإسلام، وتحترم الأنظمة المجتمعية المحلية في مختلف المناطق التي كانت تتمتع بصيغة من صيغ الحكم الذاتي ضمن إطار الدولة العثمانية. ولكن مع تنامي التشدد القومي خاصة في عهد جمعية ومن ثم حزب الاتحاد والترقي (تاريخ التأسيس 1889)، ومن ثم في بدايات الحكم الجمهوري (1923) الذي اعتمد ايديولوجية قومية علمانية متشددة، انفجرت التباينات في صيغة ثورات وحركات مسلحة قمعت بعنف من قبل الحكومة؛ وكانت حصيلتها الكثير من القتل والخراب والمآسي. ومع اعتماد النظام العلماني المتطرّف حدث انقسام عميق بين التوجهات السياسية للحكومات المتعاقبة التي تمحورت حول العلمانية الصارمة، والهوية المجتمعية التي كانت قد تشكلت عبر قرون طويلة قبل تأسيس الدولة العثمانية وفي ظلها؛ وكل ذلك تسبب في تبدد الطاقات وانقسامات عميقة، لم تتمكن الانقلابات العسكرية الدورية من وضع الحلول لها، وإنما اكتفت بتأجيل مواجهة الاستحقاقات.
لقد شهدت تركيا، وقبلها الدولة العثمانية في مراحل التشدد القومي والديني، انتفاضات كردية كثيرة طالب من خلالها المنتفضون بحقوقهم المشروعة التي لم تتجاوز حد المساواة العادلة، واحترام الآخر المختلف وحقه في التعبير عن ذاته من خلال استخدام لغته، وإحياء ثقافته، وممارسة عاداته وتقاليده، وأداء شعائره الدينية والتعبير عن معتقداته بحرية، والمشاركة في الحقوق والواجبات العامة.
تركيا دولة إقليمية كبيرة وهامة بموقعها الاستراتيجي وحجمها السكاني وامكانياتها الاقتصادية، وهي اليوم في ظل الحرب الروسية على أوكرانيا تستعيد الكثير من الأوراق الإقليمية والدولية، ولكنها في الوقت ذاته تحتاج إلى معالجة مشكلاتها الداخلية للتمكن من الاستعداد لمختلف التحديات. وفي مقدمة هذه المشكلات تأتي القضية الكردية التي لا تخص فريقاً أو حزباً بعينه، بل هي قضية وطنية عامة تؤثر في واقع الدولة والمجتمع بصورة عامة. ويتسبّب عدم حلها في هدر الكثير من الطاقات والجهود، كما يؤدي إلى عدم الاستقرار سواء في الداخل الوطني التركي أم على صعيد دول الجيران في كل من العراق وسوريا وإيران، وذلك بفعل دور وعلاقات حزب العمال الكردستاني الذي يعد الحزب الأكثر تحكّماً في الساحة الكردية في تركيا، وكذلك في سوريا؛ وله امتدادات واسعة في إقليم كردستان العراق. فلهذا الحزب دور كبير في تعيين قيادات حزب الشعوب الديمقراطي، ورسم سياساته وفرض تحالفاته. ورغم الجهود السابقة والتصريحات السابقة والراهنة بخصوص الموضوع الكردي، لم تتبلور حتى الآن معالم حل عادل مقبول للقضية الكردية في تركيا الأمر الذي كان من شأنه الإسهام في استقرار تركيا والدول المجاورة لها.
ولكن ذلك لن يتحقق من دون تخلي الجهات المتضررة بمختلف الأشكال من مشروع السلام والاستقرار في تركيا وفي المنطقة، لا سيما الجهات الموجودة ضمن الدولة التركية وضمن حزب العمال الكردستاني، وهي الجهات التي تتحرك دائماً لتصعيد الأمور مجددا حينما تلاحظ وجود توجهات جدية قد تساعد على حل القضية المعنية.
فقبل سنوات، وتحديداً ما بين 2012-2014 قطعت عملية السلام بين حزب العمال والحكومة التركية أشواطاً لا بأس بها، ولكنها توقفت فجأة لتندلع الاشتباكات بين مسلحي الحزب المذكور والقوات التركية، هذا رغم أن حزب الشعوب الديمقراطي كان قد تمكن من الدخول إلى البرلمان بكتلة كبيرة مقابل نسبة 11.7 في المئة من الأصوات العامة، وكان بذلك الحزب الثالث في البرلمان من جهة الحجم بعد حزب العدالة والتنمية والحزب الجمهوري. ولكن الذي حدث، هو أنه لم يجر أي استثمار سياسي لذلك، وهو الأمر الذي يفهم بأن المجموعة المهيمنة على حزب العمال الكردستاني لا ترى أن من مصلحتها حل الموضوع الكردي في تركيا بصورة سلمية، ويبدو أن أطرافاً ضمن الدولة العميقة التركية لا تريد هي الأخرى أمراً من هذا القبيل.
هل ستشهد مرحلة ما بعد الانتخابات، بغض النظر عن الفائز، تبلور معالم عقلية جديدة تتعامل مع قضايا تركيا الداخلية بمزيد من الانفتاح يعكس وجود رغبة حقيقية في التوصل إلى حلول مستدامة تساهم في توحيد المجتمع التركي على قاعدة احترام التنوع والتعددية من جهة الانتماءات القومية والدينية والمذهبية، أو على صعيد تباين الآراء والأفكار ووجهات النظر؛ فتكون هناك تحولات إيجابية على صعيد التعامل مع الملف الكردي خاصة، وعلى صعيد احترام حريات التعبير والصحافيين، ووضع حد لظاهرة المعتقلين السياسيين وتسوية أوضاع المعتقلين وإطلاق سراحهم؟
وتجدر الإشارة هنا إلى أن عودة حزب العدالة والتنمية إلى سياسة تصفير المشكلات مع الدول المجاورة، لن تعطي نتائجها المرجوة ما لم يكن هناك استقرار داخلي يقوم على فكرة تصفير المشكلات في الداخل التركي، وهذا ما يستوجب التعامل مع مطالب المكونات المجتمعية، وقضايا حقوق الإنسان، والحريات الديمقراطية بعقلية استيعابية تبحث عن الحلول لا إثارة المشكلات.
وباعتبار أن الموضوع الكردي الداخلي بالنسبة إلى تركيا له تشعباته الإقليمية، وتأثيراته وأبعاده الدولية، فإن حله على أسس عادلة متوازنة سيؤدي إلى نتائج وانعكاسات إيجابية على صعيد الأوضاع الداخلية في تركيا، وعلى مستوى دورها الإقليمي، وموقعها الدولي. ولإنجاز كل ذلك، لا بد من القطع مع عقلية اعتبار القضية الكردية مشكلة تستدعي تضافر جهود الدول المعنية بها من أجل قمع تطلعات الكرد المشروعة، والبحث في المقابل عن حلول واقعية عادلة تأخذ بعين الاعتبار الظروف المشخصة في كل دولة من الدول المعنية بالملف الكردي.
تحديات كبرى في انتظار التحالف الفائز في الانتخابات، ولكن في جميع الأحوال سيكون في مصلحة تركيا ومصلحة الإقليم كله التعامل مع القضايا الوطنية التي تهم سائر المواطنين في تركيا بغض النظر عن انتماءاتهم القومية والدينية والمذهبية، وتوجهاتهم الفكرية، بعقلية وطنية منفتحة بعيداً عن الحسابات الحزبية والانتخابية، وعبر تضافر جهود الحكومة والمعارضة. وكل ذلك سيساهم من دون شك في إبعاد البلاد عن الأزمات السياسية والاقتصادية وغيرها، ومثل هذا الأمر تحتاجه تركيا اليوم أكثر من أي وقت مضى، انطلاقاً من موقعها الجيوسياسي الهام في ظروف الاصطفافات الإقليمية والدولية الكبرى، خاصة في أجواء الحرب الروسية على أوكرانيا وانعكاساتها على الإقليم وعلى أوروبا وعلى الأوضاع الدولية بصورة عامة.

القدس العربي