ليس المرء مضطراً إلى مناهضته، أو حتى إلى مناصرته، كي يرتاب في أنّ ما وراء الأكمة ما وراءها من كثير زائف مفتعل وقليل صحيح فعلي، خلف الحملات الإعلامية الشرسة التي انخرطت فيها دوائر إعلامية غربية ضدّ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان؛ في مناسبة انتخابات رئاسية تشهدها تركيا ضمن سياقات نوعية، محلية وإقليمية ودولية.
أسبوعية «لو بوان» الفرنسية اليمينة، على سبيل المثال الأوّل، وضعت صورة أردوغان على كامل غلافها، مع عناوين فرعية تشير إلى تهديدات الحرب والنزعة التوسّعية وكراهية الغرب، وعنوان رئيسي ضخم يقول: «أردوغان بوتين الآخر». وبمعزل عن الابتذال الفاضح، الأقرب إلى الـ»كيتش» في أردأ نماذجه، ثمة استغفال لعقول القرّاء وأبصارهم في آن معاً، إلى جانب خيانة الحقائق والنزاهة المهنية في أبسط معطياتها المتوفرة علانية، لجهة أية مقارنة، حتى في أكثر التخيلات ضحالة، بين أردوغان وبوتين.
زميلتها أسبوعية «إكسبرس» الفرنسية، التي بدأت ليبرالية في مطلع خمسينيات القرن المنصرم وكتب فيها أمثال سيرفان شريبر وألبير كامو قبل أن تعلن خطاً معادياً للديغولية ولليسار ومؤيداً للحلف الأطلسي؛ اختارت بدورها أن تتصدّر غلافها صورةُ أردوغان، ولكن بعد أن أدخلت ريشة رسامها «تعديلات» تجعل الرجل أكثر ترهيباً وتخويفاً. العنوان الضخم يقول: «أردوغان، خطر الفوضى»، والعناوين الفرعية تشير إلى «انتخابات تنطوي على كلّ الأخطار»، وإلى «حلف مع بوتين».
أمثلة أخرى يُعثر عليها في أغلفة «إيكونوميست» البريطانية، و»تايم» الأمريكية، و»دير شبيغل» الألمانية، حيث يمكن للمرء أن يتفهم خلاف هذه المؤسسات، وأصحابها وما تمثّل من مصالح، مع أردوغان شخصياً وخطّ حزب «العدالة والتنمية» عموماً؛ ولكن حيث لا يستقيم تفهّم ما تنطوي عليه هذه المواقف من مقادير تدخّل سافر، غير متكافئ وغير محايد، في خيار انتخابي يتمتع بمصداقية المعيار الغربي الشهير حول انتخابات ّحرّة ونزيهة.
الخطورة لا تنتهي هنا، لأنها في الحصيلة تغذّي التنميطات الاستشراقية ذاتها، العتيقة المستهلَكة البغيضة، التي تستنكر على مجتمعات ذات أغلبية مسلمة أن تنجح في خوض تجارب ديمقراطية، أو حتى انتخابية، ناجحة يُعتدّ بها. لن يعثر المرء لدى محرّري موضوعات الأغلفة سالفة الذكر على أيّ غمز من قناة منافس أردوغان، كمال كلشدار أوغلو، الذي يزعم العلمانية ولكنه يعلن على الملأ أنه علويّ المحتد مثلاً؛ ولن يطاله أيّ انتقاد حول التناقض بين مواقف حزبه «الشعب الجمهوري» التي تنتقص من حقوق الأكراد في تركيا، وبين وجود حزب «الشعوب الديمقراطي» الكردي بين صفوف القوى المؤيدة له.
وذات يوم، في سنة 2010 طرحت صحيفة «وول ستريت جورنال» السؤال التالي على المستشرق الشهير برنارد لويس: إلى أين تسير تركيا الراهنة؟ وكان جواب الرجل لا يصدر عن صفته الاستشراقية، الافتراضية أو الفعلية طبقاً للسائل، فحسب؛ بل عن حقيقة كونه أحد كبار المختصين في شؤون تركيا الحديثة، وتركيا العثمانية، تحديداً: خلال عقد من الآن، قد تصبح الجمهورية العلمانية التي أسّسها مصطفى كمال أتاتورك أشبه، إلى حدّ بعيد، بالجمهورية الإسلامية في إيران.
لكنّ الشعب التركي، بمختلف فئاته ومشاربه، كذّب نبوءة «بطريرك الاستشراق»، كما يحلو لهذه السطور أن تلقّبه؛ مراراً في الواقع: عبر صندوق الاقتراع في التشريعيات أو الرئاسيات أو الاستفتاءات المختلفة، أو عبر النزول إلى الشارع وسدّ الجسور أمام الدبابات لإفشال انقلاب كان مقدّراً له أن يكون الخامس في ستة عقود من عمر الجمهورية التركية.
ومَن يتذكّر لويس اليوم، عشية الرئاسيات التركية، يحقّ له أن يسترجع انحطاط النبوءة تلك، إزاء طفح الابتذال في العديد من وسائل الإعلام الغربية؛ وأن يجنح، ببساطة صائبة وصالحة، إلى منح الناخب التركي الحقّ في الاختيار الحرّ، تبعاً لمصالح الشعب التركي العليا لدى هذا المرشح أو ذاك، واضعاً نقطة على السطر… كافية وافية.
القدس العربي