يشهد الداخل الإيراني تحولاً ملحوظاً إزاء الصورة الذهنية لرجال الدين، ومكانتهم في المجتمع، تلك المكانة التي أحيطت منذ قيام الثورة بحالة أقرب إلى “القداسة التي فرضها النظام الديني في البلاد، وظهرت ملامح هذا التحول من خلال حملات متكررة من السخرية على وسائل التواصل الاجتماعي، وتوجيه الإهانة لرجال الدين في الشوارع، واستهدافهم في حوادث اغتيال، فبات من الصعب أن تتكرر هذه الموجات من دون النظر في أسباب هذا الاستهداف، حتى وإن اعتبرها النظام الإيراني حوادث فردية، وأكد على أنها غير إرهابية كما أعلن بشأن حادثي مقتل عضو مجلس خبراء القيادة آية الله عباس على سليماني في مدينة بابلسر شمال البلاد، في 26 إبريل 2023 أثناء وجوده في بنك لإنهاء معاملات مالية، حيث استهدفه أحد عناصر أمن البنك من المسافة صفر حسب مقاطع الفيديو التي سربت عن الحادث، وحادث طعن رجل دين في مدينة قم عقب وقوع حادث سير، في 29 من الشهر ذاته، حيث استهدف القاتل رجل الدين موجهاً إليه عدة طعنات.
هذه الحوادث لم تعد غريبة كما كانت في السابق، في ظل تكرارها بين الحين والآخر، لتشير إلى أن ثمة غضباً اجتماعياً يعبر عنه منفذو هذه الحواث تجاه فئة رجال الدين في إيران، وأن ثمة تراجعاً واضحاً لمكانتهم السابقة في المجتمع بحكم كونه مجتمعاً خاضعاً للحكم الديني، يحتل فيه رجال الدين مكانة مرموقة سواء في النخبة السياسية أو الاجتماعية على حد سواء.
ويمكن القول إن الاحتجاجات التي شهدتها البلاد لعدة أشهر كانت كاشفة بحق عن هذا التراجع في مكانة رجال الدين في إيران، مع انتشار وسوم مثل “عمامة پرانی”، و”انداختن عمامه” التي تحث على نزع عمامة رجال الدين في الشارع، بسبب دورهم في دعم النظام والدفاع عن سياساته، ومطالبة العديد منهم بفرض مزيد من القيود على المجتمع الإيراني بدعوى الحفاظ على قيم الثورة الإسلامية وهوية الدولة والنظام، تلك القيم التي باتت ترفضها شريحة كبيرة من الرأي العام الإيراني، قوامها في الأغلب الأعم فئة الشباب الذي لم يعاصر الثورة، بل بات يرى أن قيمها لم تجلب له سوى القيود والظروف المعيشية الصعبة، بسبب القيود المفروضة على البلاد لسنوات، فظهر استهداف المتظاهرين لرجال الدين بزيهم التقليدي من خلال الإصرار على إسقاط عمائمهم، وتعريضهم للإهانة، الأمر الذي يطرح تساؤلات حول دوافع وأسباب حوادث استهداف رجال الدين في إيران.
اعتراف ضمني
ثمة دلائل تشير إلى إدراك رجال الدين النافذين لمدى تراجع مكانة المعممين في المجتمع الإيراني، ليس فقط بعد حملة الإهانة التي تعرضوا لها في بداية الاحتجاجات التي عمت البلاد في سبتمبر 2022، وإنما أيضاً منذ احتجاجات 2009، عندما شهدت المظاهرات لأول مرة رفع شعار “الموت للديكتاتور”، وتمزيق صورة المرشد الأعلى الذي يعد رمزاً للنظام، وللمؤسسة الدينية ورجالها، مروراً بالسخرية التي تعرض لها تعاطي رجال الدين مع أزمة جائحة كورونا، واعتبار أن التوصيات الصادرة عن مجلس الوزراء بفرض حجر صحي على مدينة قم هى استجابة “لمطالب العدو” في إشارة إلى الولايات المتحدة التي تريد – حسب اعتقادهم – استهداف مكانة قم من خلال فيروس كورونا. فعلى سبيل المثال، نشرت وكالة أنباء العمل الإيرانية “ايلنا” رسماً كاريكاتيراً يصور رجلي دين يعالجون مريض كورونا بوسائل تقليدية، وفي الخلفية المرشد الأعلى يرتدي زي التمريض.
فيما جاء تنظيم مكتب التوعية الإسلامية- وهو منظمة دينية نافذة في النظام، وخاضعة بشكل مباشر لإشراف المرشد الأعلى- لندوة بعنوان “الهيبة السياسية والاجتماعية لرجال الدين في العقد الرابع من الجمهورية الإسلامية” خلال عام 2016، تناول فيها المتحدثون أسباب تراجع مكانتهم السياسية والاجتماعية، وأقروا خلالها بأن الأمر بلغ مرحلة حرجة، ليشير إلى الإدراك المبكر لهذا الأمر.
وفي السياق ذاته، نشر معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى تقريراً في 29 مارس 2023، بعنوان “داخل النظام الإيراني: أزمة رجال الدين” أشير فيه إلى وثيقة أصدرها رجال للدين تم عرضها خلال اجتماع مع المرشد الأعلى عقد في مطلع شهر يناير 2023، تظهر أن العديد من رجال الدين في إيران يشعرون بعدم الرضى عن وضعهم وصورتهم الذهنية في المجتمع، وأن ثمة تخبطاً في أوساط شباب الدارسين في الحوزات الدينية يدفع بعضهم إلى التخلي عن زيهم الديني، في ظل الاحتجاجات المستمرة في البلاد.
فيما دفعت الاغتيالات المتكررة لرجال الدين البعض إلى تعبيرهم عن شعورهم بعدم الأمان، في العديد من المدن الإيرانية، بشكل علني، حيث أشار جواد علوي بروجردي، أحد مدرسي حوزة قم، إلى أن الهجمات المتكررة ضد الملالى في مختلف مدن إيران، تشير إلى تغير جذري في نظرة المجتمع لرجال الديني، وأن الفجوة بين رجال الدين والشعب قد اتسعت، وأن الشعب الإيراني فقد ثقته تجاه هذه الفئة، مؤكداً بقوله: “إن دهس رجال الدين بسيارة في شارع بمدينة قم توجد فيه جميع مكاتب المراجع وكبار رجال الدين، يعبر عن مشاعر الناس حيالنا”.
فيما تجدر الإشارة إلى أن أحد أهم مؤشرات إدراك رجال الدين للهوة المتسعة مع المجتمع الإيراني، تمثل في خروج رجل الدين الشيعي عين الله رضا زاده جويباري في مطلع سبتمبر 2020 بمقطع فيديو يؤكد فيه خلع عمامته ورداء رجل الدين، تكريماً لما وصفه بـ “دماء شباب إيران” التي سفكت ظلماً على يد نظام ولاية الفقيه، بحسب تعبيره. إذ هاجم جويباري ما أسماه “استغلال رجال الدين الفقه الشيعي من أجل ولاية الفقيه”، قائلاً إن “رجال الدين الحاكمين في إيران قد حرّفوا أحكام الشريعة الأساسية من أجل بقاء سلطتهم”.
دافعان رئيسيان
يمكن القول إن سلسلة الاستهدافات بالإهانة أو الاغتيال لرجال الدين قد جاءت نتيجة تأثير عدد من العوامل، التي راكمت سخطاً تجاه هذه الفئة، لعل أهمها دافعان أساسيان هما:
1- الاستمرار في تسييس الدين وانعزال رجال الدين عن الواقع: بل وتغييب المجتمع عن ما يدور حوله من تطورات. وكان من نتائج ذلك أن الصبغة الدينية للنظام الإيراني والأدوار النافذة للمؤسسات الدينية في البلاد لم تعد جاذبة لفئات المجتمع الإيراني الشابة، والمتطلعة لحياة أفضل في ظل أوضاع اجتماعية خانقة، واقتصادية صعبة، لاسيما مع انفتاح هذه الفئة على الخارج رغم القيود المفروضة عليها، وادراكهم للفروقات الاجتماعية والمعيشية بين إيران ودول جوارها الأكثر انفتاحاً وتطوراً، فضلاً عن الفجوة العميقة التي باتت واضحة بين الخطاب الديني لرجال الدين والواقع الذي يعيش فيه المجتمع الإيراني.
وبالرغم من ندرة استطلاعات الرأي العام في إيران بسبب القيود المفروضة في هذا المجال، فإن استطلاعاً للرأي اهتم بمناقشة دور الدين في المجتمع الإيراني، ونظرة الإيرانيين لهذا الدور، أجراه مركز “كمان” لاستطلاعات الرأي في إيران ومقره هولاندا، قبل عامين في يونيو 2020، شمل أكثر من 50 ألف مشارك، 90% منهم داخل إيران، وأشارت نتائجه إلى أن ثمة تحولاً في نظرة المجتمع لدور المؤسسات الدينية، والنصوص الدينية في الحياة العامة في إيران، إذ يعتقد 71% من السكان أن المؤسسات الدينية يجب أن تُؤمِّن نفقاتها بنفسها، وذلك في ظل الدعم المالى اللامحدود الذي تحظى به المؤسسات الدينية والحوزات العلمية التابعة لها، بالرغم من تردي الأوضاع الإقتصادية في البلاد.
كما أشارت النتائج إلى اتجاه 68% من المستطلع رأيهم إلى ضرورة تنحية النصوص الدينية من التشريعات المعمول بها في البلاد حتى ولو سيطر المتشددون على البرلمان، في حين يرى 14.4% من المستطلع رأيهم أنه يجب الالتزام بالنص الديني في تشريعات البلاد، بينما رأى 4.2% من المستطلع رأيهم أن المتشددين في حال فوزهم بالأغلبية البرلمانية من حقهم توظيف القوانين الدينية في التشريعات، فيما أقر 13.4% بعدم وجود رؤية واضحة لهم في هذا الشأن.
ولعل موقف رجال الدين في حوزة قم من السياسات المتبعة عالمياً لمواجهة فيروس كورونا، لا يمكن تجاهله في إطار انفصالهم عن الواقع وإجبارهم الجمهور على الأمر نفسه، حيث عمد هؤلاء إلى رفض التوصيات الطبية التي طالبت بها وزارة الصحة، بما فيها دعوات لإقامة مستشفيات عزل في قم، بل وطالبوا الناس بالاستمرار في زيارة الأضرحة والحسينيات للحصول على “المناعة الإلهية”، والشفاء، مما أدى إلى تحول قم إلى أسوء بؤر تفشي الوباء في البلاد.
2- تبعية الحوزة الدينية ورجالها للمرشد الأعلى وتحيزها له: وهو الأمر الذي جعلها منفصلة عن تاريخ استقلالها السابق عن السلطة، في إيران قبل عام 1979، وبالتالي تبني رؤى وأفكار المرشد في المجال العام، فضلاً عن دخول رجال الدين في لوبيات باتت تسيطر على النظام، وتشكل في الوقت نفسه جبهة لحمايته، إلى جانب الحرس الثوري والجيش وأجهزة الدولة العميقة وفئة البازار المرتبطة بمصالح مالية مع النظام والعائلات الكبرى في البلاد، بشكل أصبح لافتاً، فإلى جانب التحيز للسلطة، يتضح الفارق الاجتماعي والمستوى المعيشي لأغلب رجال الدين النافذين في البلاد، وعائلاتهم، بشكل يخالف دعوات النظام للتقشف، مما عزز الفجوة بين هذه الفئة والمجتمع، لاسيما مع إدراك فئة الشباب مدى عمق هذه الهوة.
وقد مثّل موقف المؤسسات الدينية ورجالها من الاحتجاجات الأخيرة التي شهدتها البلاد منعطفاً مهماً في تجرؤ الرأي العام الإيراني على التعبير عن سخطه على رجال الدين ومواقفهم من مطالب الشارع الإيراني، حيث وظّف خطباء المساجد خطب الجمعة طيلة فترة الاحتجاجات للتحريض على المتظاهرين، واتهامهم بـ”الحرابة”، وقاد هذا الاتجاه رجل الدين المتشدد وخطيب الجمعة في طهران أحمد خاتمي، الذي دعا السلطات القضائية إلى اتخاذ تدابير صارمة ضد المتظاهرين ومثيري الشعب، بشكل يردعهم عن التطلع إلى إثارته مجدداً، والذين اتهمهم بأنهم “خانوا الأمة”. كما دعا غيره من رجال الدين الأجهزة الأمنية إلى تعقب ومحاسبة منفذي عمليات إسقاط العمائم.
وثمة اتجاه يشير إلى أن ثقة المجتمع المهتزة برجال الدين لا تعود فقط إلى موقف هؤلاء من النظام ودعمهم له، وإنما تعود أيضاً إلى القيود التي وضعها رجال الدين حول أنفسهم، ناحية الوصول إليهم، وبالتالى بات اللقاء المباشر بهم صعباً، ما أدى إلى استغناء الجمهور عن دورهم الفقهي في مناحي حياتهم اليومية، والبحث عن مصادر بديلة، ما انعكس بشكل مباشر على سمعة رجال الدين وهيبتهم.
في النهاية يمكن القول إن تعبير فئات من الشعب عن غضبهم وسخريتهم من رجال الدين يعد انعكاساً لفكرة رفض نمط وسياسات النظام الحالي، وربما نظرية ولاية الفقية برمتها، من خلال التركيز على محاولة إسقاط رمزية النظام الدينية، ووصاية رجال الدين على المواطنين، فيما يرجح أن يستمر هذا الرفض مع تزايد قمع السلطات للحريات والتعامل العنيف مع مطالب التغيير، التي بلغت حد المطالبة بتغيير الدستور الإيراني وهوية النظام خلال الاحتجاجات الأخيرة.
مركز الأهرام للدراسات