في الصراع الجيوستراتيجي المفتوح بين طهران وتل أبيب، استخدم الطرفان كل المستويات والأدوات المتاحة والممكنة على مدى العقود الأربعة الماضية لمحاصرة بعضهما بعضاً والإبقاء على حال التوتر والترقب، لأن كلاً منهما يدرك بشكل عميق أن تفوق أي منهما على الآخر يعني نهاية مشروعه في الإقليم، وأن يكون الجهة الأقدر على لعب دور الشريك الرئيس والأساس في رسم معادلات النفوذ والدور الإقليمي وتعزيز مكانته في المعادلة الدولية.
ومن وجوه هذا الصراع وأدواته شكلت الحرب الاستخباراتية أحد أبرز معالمه، إذ اتسعت مساحة استهدافاتها إلى خارج البلدين، وتم استغلال أية فرصة لتوجيه أي ضربة ممكنة في أي مكان في العالم، وفي هذا السياق يمكن التوقف عند عملية التفجير التي حصلت في الأرجنتين، الكنيس اليهودي في بيونس أيرس، وقد يكون آخرها اغتيال العالم النووي محسن فخري زاده في قلب العاصمة طهران، وما بينهما وبعدهما من عمليات تجسس وزراعة عملاء في البلدين، وصولاً إلى استهداف المنشآت النووية والعسكرية وقواعد “حرس الثورة” في سوريا والعراق، في مقابل ضرب مواقع في أربيل مركز إقليم كردستان العراق، قالت طهران إنها مقار لجهاز الـ “موساد” الإسرائيلي لقيادة عمليات أمنية في الداخل الإيراني.
ومن الوجوه التي أخذها هذا الصراع ذات البعد الجيوسياسي والأهداف الجيوستراتيجية تأتي المسألة الكردية التي تمظهرت في الاستفتاء على الانفصال أو الاستقلال الذي أجرته قيادة الإقليم في أكتوبر (تشرين الأول) 2017، والذي كان مدعوماً بشكل واضح ومباشر من تل أبيب، لما يشكل من تهديد مباشر للنظام الإيراني الذي رأى فيه خطراً إستراتيجياً يهدد سيادته ووحدة أراضيه، من خلال التأسيس لمرحلة جديدة تعيد رسم الحدود الجيوسياسية ليس لإيران فقط، إذ يسهم في تحريك القوى الكردية – الإيرانية للمطالبة بالانضمام إلى الإقليم العراقي المستقل، بل قد يتدحرج إلى كل من تركيا وسوريا، وتمهيد الطريق إلى إقامة دولة كردستان الكبرى.
وفي المقابل وظفت طهران ونظامها الجغرافيا العربية لفرض معادلتها الجيوستراتيجية من خلال تطويق إسرائيل بقوى وفصائل تابعة ومتحالفة معها، واستخدامها كمصدر تهديد مباشر للداخل الإسرائيلي واستقراره الأمني، سواء من لبنان أو قطاع غزة والضفة الغربية، وتحويل سوريا إلى قاعدة متقدمة قرب الحدود الفلسطينية، ثم ألحقت بها اليمن الذي استكمل حلقة المحاصرة الإيرانية لإسرائيل من طريق التحكم بالممر المائي الدولي في باب المندب.
أمني يهدف إلى إبعاد الخطر أو التهديد الإسرائيلي من حدودها وأمنها الداخلي، إلا أنها واجهت تحدياً وجودياً في الأزمة الكردية – العراقية، مما دفعها إلى إسقاط كل المحاذير والأعراف السيادية العراقية، فلم تتردد في الدخول المباشر والتدخل العلني لإسقاط المساعي الكردية للاستقلال بقيادة قائد “فيلق القدس” السابق قاسم سليماني، وفرض حصار اقتصادي على الإقليم بالتعاون مع تركيا وحكومة بغداد الاتحادية.
ووصل القلق الإيراني وارتفع إحساس النظام باقتراب الخطر الإسرائيلي الحقيقي مع الإعلان عن التوقيع على اتفاق السلام بين إسرائيل ودولة الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين، مما دفعه إلى اعتماد لغة التهديد بسقوف عالية مع قيادة البلدين، ورأى في هذا الاتفاق تهديداً مباشراً لأمنه.
وفي الوقت ذاته ذهب النظام الإيراني إلى نسج تفاهمات مع أبوظبي لتفكيك هذا الخطر في مقابل تنازلات تتعامل مع الهواجس ومصادر القلق الخليجية من طموحاته السياسية والعسكرية والنووية، بخاصة في ظل تمكن إسرائيل من خرق الطوق الجغرافي والاقتراب من حدود إيران المباشرة من دون أن تكون قادرة على حرية التحرك والعمل، على غرار ما فعلت وتفعل في لبنان وسوريا وفلسطين والعراق.
ولا شك في أن الأثمان التي يدفعها النظام الإيراني لمواجهة الإستراتيجية الإسرائيلية، بخاصة مساعي تل أبيب إلى بناء قواعد سياسية وأمنية واستخباراتية على مقربة من الحدود الإيرانية وفي محيطها الجيوسياسي المباشر والأقرب، كانت أثماناً كبيرة ومعقدة داخلياً ودولياً، واستنفدت طاقات كبيرة للبقاء على استعداد دائم للتعامل مع أي مستجد أو خطوة جديدة من الخطوات الإسرائيلية المتدحرجة والموزعة على أكثر من جبهة واتجاه، وتأخذ أشكالاً مختلفة ومتنوعة مفتوحة على كل الاحتمالات والمستويات.
وإذا ما كان النظام الإيراني من خلال التصعيد الأخير الذي لجأ إليه عبر التحرك الذي قامت به القوى والفصائل والأحزاب الموالية لها والمتحالفة معها، وتنفيذ استراتيجية “وحدة الساحات” التي أشعلت الداخل الفلسطيني وقطاع غزة، وتوسعت باتجاه سوريا وأعادت لبنان ليكون ساحة ومنصة لإطلاق الصواريخ، واستطاعت إرباك المستويات السياسية والعسكرية والأمنية الإسرائيلية، مما دفع الأخيرة إلى الذهاب باتجاه خيار جديد، وهذه المرة من الجهة الأذربيجانية التي تشكل خاصرة غير مستقرة تحفل بكثير من التوترات لأسباب مختلفة ومتعددة على خلفيات قومية وتاريخية، من أزمتها مع جارتها أرمينيا المتحالفة مع إيران، وسعي باكو إلى لعب دور محوري في إطار مشروع “وحدة العالم التركي” أو الدول الناطقة بالتركية أو من أصول تركية، بالقدر الذي تسمح به أنقرة التي تتزعم وتطمح إلى تحقيق هذه الرؤية، لتكون شريكاً فاعلاً في المعادلات الدولية لتعويض التزاحم في الأدوار الشرق أوسطية، وتعدد اللاعبين والمؤثرين وصعوبة الحصول على حيز متقدم في معادلات المنطقة.
اندبندت عربي