للمرة الأولى في تاريخ تركيا، لم يتم حسم الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية لعدم حصول أي من المرشحين للرئاسة على نسبة الحسم (50%+1) من الأصوات المُقررة وفقًا للدستور التركي، وتضطر البلاد إلى خوض جولة ثانية من السباق الرئاسي وسط منافسة مُحتدمة بين كل من الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان، مرشح تحالف “الجمهور”، وكمال كليجدار أوغلو، مرشح تحالف “الأمة”، وذلك في يوم الأحد الموافق 28 مايو الجاري (2023).
وبحسب التقديرات النهائية التي أُعلن عنها بعد فرز صناديق الاقتراع، بمشاركة نسبة تقارب الـ 90% من إجمالي عدد الناخبين داخل تركيا، وحوالي 53.20% من الناخبين في الخارج، حصد أردوغان نسبة 49.54% من الأصوات، بينما حصل منافسه كمال أوغلو على نسبة 44.85%، في حين حصل المرشح الثالث سنان أوغان على نسبة 5.17%.
أما فيما يخص نتائج الانتخابات البرلمانية، فقد حصد تحالف “الجمهور” نسبة 54.33% من الأصوات بما يعادل 326 مقعدًا، بينما حصل تحالف “الأمة” المعارض على نسبة 35.66% بما يعادل 214 مقعدًا، وحصل تحالف “العمل والحرية” الكردي على نسبة 10.53% بما يعادل 66 مقعدًا. هذا، في حين جاء تحالف “آتا” في المرتبة الرابعة بنسبة 2.45% من الأصوات، والذي وفقًا لقانون الانتخابات لم يحصل على أي مقعد في البرلمان بسبب عدم اجتيازه للعتبه الانتخابية المُقدرة بـ 7% من الأصوات.
مخرجات الجولة الأولى
تمخضت الجولة الأولى من الانتخابات التركية، وما أسفرت عنه من نتائج رئاسية وبرلمانية، عن بعض المفاجآت والملامح الخاصة التي جاءت على عكس ما كان مُتـوقعًا وفقًا لمراكز البحوث واستطلاعات الرأي. ويمكن تناول أبرز تلك الملامح على النحو التالي:
1- إقبال تاريخي على التصويت: تعتبر نسبة المشاركة التي شهدتها الانتخابات التركية في جولتها الأولى والتي اقتربت من نسبة الـ 90% من إجمالي الناخبين، نسبة غير مسبوقة -ليس فقط- في تاريخ تركيا بل وفي العالم. فقد أعطت هذه النسبة انطباعًا بدرجة الوعي السياسي الذي يمتلكه الشعب التركي، ومدى حرصه على حقه في ممارسة الديمقراطية واختيار من يرأس بلاده، حيث أشادت بعض الجهات العالمية بهذه النسبة العالية، واعتبر كل من رئيسة المفوضية الأوروبية، ورئيس المجلس الأوروبي أن الإقبال الكبير جدًا على الانتخابات في تركيا، انتصار للديمقراطية. بينما جاء في صحيفة “ليبراسيون” الفرنسية، أن نسبة المشاركة في الانتخابات التركية لا تحلم بها فرنسا أو الولايات المتحدة الأمريكية[1].
2- ترجيح ضحايا الزلزال لكفة أردوغان: على الرغم من ذهاب أغلب الآراء إلى أن كارثة الزلزال الذي ضرب البلاد في 6 فبراير من العام الجاري، والذي اعتبر “كارثة القرن”، ستؤثر بشكل سلبي على القاعدة الشعبية والتصويتية لأردوغان بسبب حجم الخسائر البشرية والمادية الكبيرة التي تكبدها الشعب التركي، لاسيما في ظل جهود المعارضة التي عملت دائبة خلال الأشهر القليلة الماضية على تسليط الضوء على أوجه قصور الدولة في إدارتها للأزمة، إلا أن نتائج الانتخابات جاءت على غير المُتوقع، حيث تصدر أردوغان في الانتخابات الرئاسية 9 مدن، بينما تصدر حزبه الحاكم “العدالة والتنمية” في الانتخابات البرلمانية 10 مدن، من أصل 11 مدينة ضربها الزلزال. ويُعزي البعض هذه النتيجة إلى كون 8 مدن من الـ11 مدينة، تعد معاقل لحزب “العدالة والتنمية”، وحصد منها أردوغان حوالي 60% من الأصوات في آخر استحقاقين رئاسيين[2].
3- تراجع شعبية أردوغان وحزبه الحاكم: تعتبر انتخابات هذا العام هي الانتخابات الأولى التي يضطر فيها أردوغان لخوض جولة إعادة لعدم حصوله على نسبة الحسم أمام منافسيه. فقد حصل أردوغان خلال انتخابات عام 2014، على نسبة 51.79% من الأصوات، بينما في عام 2018، زادت النسبة لتصل إلى 52.38%، وهو ما يعني خسارة أردوغان هذا العام نحو 3% من الأصوات التي كانت تدعمه في آخر سباق رئاسي.
على المنوال نفسه، تُشير النتائج البرلمانية إلى تراجع نسبة تأييد حزب “العدالة والتنمية” بنحو 7% عن انتخابات 2018 التي حصل فيها على نسبة 42.56% من الأصوات بما يعادل 295 مقعدًا، مقارنة بهذا العام الذي حصل فيه على نسبة 35.4% بما يعادل 266 مقعدًا، وهي النسبة الأدنى له في البرلمان على مدار 21 عامًا.
4- انتخابات برلمانية مُبكرة مُحتملة: رغم استمرار حصول تحالف “الجمهور” بقيادة حزب “العدالة والتنمية” على الأغلبية البرلمانية، إلا أن فشل جميع التحالفات في تحقيق أغلبية تُمكن أي منها من إقرار أو تمرير مشروعات القوانين والتعديلات الدستورية، من شأنه أن يفرض حالة من الخلاف والتوتر داخل البرلمان، حيث يتطلب إقرار القوانين أو تمرير التعديلات الدستورية من البرلمان أغلبية الثلثين (400 صوت)، أو تصويت ثلاثة أخماس عدد الأعضاء (360 نائبًا) كي يتم طرحها للاستفتاء الشعبي. ووفقًا لآراء خبراء القانون قد يؤدي التشكيل الحالي لمقاعد البرلمان إلى نشوب أزمة تشريعية تقود إلى انتخابات برلمانية مُبكرة بسبب عدم وجود أغلبية حاسمة تساعد في تيسير أعمال البرلمان، وذلك سواء فاز أردوغان في الجولة الثانية أو فاز نظيره كمال أوغلو، لأن تحالف كلا المُرشحين لا يمتلك في البرلمان الأغلبية الحاسمة[3].
5- صعود التيار القومي: ربما واحدة من بين المشاهد التي ميزت الانتخابات البرلمانية، هي تبعات صعود النزعة القومية في تركيا على الساحة السياسية. فحصيلة الأصوات التي حصدتها الأحزاب القومية سواء التي نجحت في اجتياز العتبة الانتخابية والحصول على مقاعد في البرلمان، أو التي لم تستطع الحصول على أي مقاعد، والتي تمثلت في كل من حزب “الحركة القومية”، والحزب “الجيد”، وتحالف “آتا”، قد وصلت إلى ما يقرب 23%، أي حوالي ربع إجمالي الأصوات[4]، وهو الأمر الذي أرجعه البعض إلى أن أزمة اللاجئين وتزايد أعداد المهاجرين في تركيا خلال السنوات الأخيرة لاسيما من السوريين والأفغان، فضلاً عن الأزمة المُمتدة مع حزب “العمال الكردستاني” المُصنف تنظيمًا إرهابيًا في تركيا، قد مثلا معًا عاملاً لتحفيز النزعة القومية بين الأتراك.
6- استقطاب الأصوات التقليدية: من بين الملامح الأخرى التي شهدتها الجولة الأولى من الانتخابات التركية، هي مسألة انتقال الأصوات من الأحزاب التقليدية -التي كان مُتوقعًا أن تحصدها وفقًا لاستطلاعات الرأي- إلى أحزاب أخرى صاعدة. فنسبة الأصوات التي حصدها حزب “الحركة القومية” في الانتخابات البرلمانية والتي وصلت إلى حوالي 10.7%، لم تكن مُتوقعة، خاصة أن غالبية الاستطلاعات كانت تُشير إلى عدم قدرته على تجاوز العتبة الانتخابية. هذا، في حين أن حزب “الجيد” القومي حصل على نسبة 9.7% من الأصوات، وهي نسبة أقل من ما كان مُتوقعًا، ما يعني أن هناك أصواتًا قومية خسرها حزب “الجيد” ذهبت لصالح حزب “الحركة القومية” الذي صعد كلاعب جديد على الساحة السياسية خلال هذه الانتخابات.
على الصعيد ذاته، انخفضت نسبة الأصوات التي كان من المُتوقع أن يحصل عليها حزب “الشعوب الديمقراطي” الكردي الذي خاض الانتخابات باسم حزب “اليسار الأخضر” نظرًا لقرار المحكمة الدستورية في الدعوى المقدمة ضده لاتهامه بدعم الإرهاب. فقد حصل الحزب على 8.77% فقط من الأصوات، وهو ما أرجعه البعض لصعود حزب “عمال تركيا” اليساري، الذي تمكن من استقطاب جزء من أصوات ناخبي حزب “الشعوب الديمقراطي”، خاصة في ظل الربط الدائم بين الأخير وحزب “العمال الكردستاني”.
محددات الجولة الثانية
هناك محددان أساسيان من شأنهما التأثير بدرجة كبيرة في نتائج الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، وهما: النتائج البرلمانية التي حصد فيها تحالف “الجمهور” أغلبية المقاعد، والكتلة التصويتية التي يستطيع سنان أوغان وتحالفه “آتا” التأثير فيها لتوجيه أصواتها إلى أحد المرشحين، وذلك بناءً على عدة شروط، أبرزها: ترحيل اللاجئين من تركيا، وعدم التحالف مع التنظيمات الإرهابية وهياكلها السياسية. ولعل صعوبة التنبؤ بمجريات المرحلة القادمة، تكمن في أن هذين المُحددين قد يدفعا في اتجاهين مُعاكسين على نحو يمكن استعراضه كالتالي:
أولاً: اتجاهات ترجيح فوز أردوغان
بالنسبة لنتائج البرلمان، فهناك اتجاه يرى أن فوز تحالف “الجمهور” بالأغلبية البرلمانية من شأنه أن يدفع فئة الناخبين المُترددين الذين لم يحسموا موقفهم في الجولة الأولى نحو اختيار الاستقرار والتجانس بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، وتجنب الازدواجية التي قد تدفع نحو عدم الاستقرار السياسي في البلاد وبالتالي تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية بصورة أكبر، لأنه في حال فوز كمال أوغلو ستواجه البلاد العديد من الأزمات على رأسها كيفية الانتقال من النظام الرئاسي إلى النظام البرلماني، وهي النقطة الجوهرية التي ركز عليها خطاب وبرنامج تحالف “الأمة”. بالتالي كيف سيضمن التحالف استمرار تماسكه في ظل عدم قدرته على الوفاء بأبرز وأهم ما جاء في وعوده الانتخابية.
أما بالنسبة للكتلة التصويتية التي يسيطر عليها سنان أوغان، فهناك 3 عوامل أساسية تُرجح ميل الكتلة إلى كفة أردوغان: أولها، التوافق بين كل من أردوغان وسنان أوغان في سياساتهما المناهضة للأكراد وللأحزاب المتحالفة مع حزب “الشعوب الديمقراطي” الكردي الموصوم بعلاقته مع حزب “العمال الكردستاني”، وهي الورقة التي يلعب عليها أردوغان الآن لكسب تأييد أنصار أوغان، مُستغلاً في ذلك التحالف القائم بين حزب “الشعوب الديمقراطي” وتحالف “الأمة”، ومُستغلاً أيضًا في مقابل ذلك تاريخه الطويل في محاربة الأكراد سواء داخل البلاد، أو خارجها من خلال الحملات العسكرية التي شنها في كل من سوريا والعراق ضد القوات الكردية لتأمين حدود بلاده من خطر الإرهاب.
ثانيها، أن ربط سنان أوغان منح أصواته إلى تحالف “الأمة” بفك ارتباط التحالف مع حزب “الشعوب الديمقراطي” هو معادلة صعبة بالنسبة لتحالف “الأمة”، لاسيما أن الأكراد لديهم كتلة تصويتية تصل إلى حوالي 10% من الأصوات. بالتالي من الصعب أن يُجازف كمال أوغلو بالتخلي عن الأكراد مقابل الحصول على حوالي 5% من الأصوات غير المضمونة.
وثالها، أن الكتلة التي يسعى الجانبان إلى استقطابها هي أصوات “قومية متطرفة”، أي أن الأيديولوجيا القومية ستكون عاملاً مؤثرًا في السلوك الانتخابي لهذه الفئة، ومن خلال تحليل أجرته صحيفة “ميدل إيستآي”، بناءً على البيانات التي نشرتها وكالة الأناضول، تبين أن أوغان أخذ من حصة أردوغان التصويتية في منطقة وسط الأناضول[5]. لهذا، من المُرجح أن تذهب أصوات كتلة القوميين لصالح أردوغان في جولة الإعادة، نظرًا لأنه الأقرب إلى التيار القومي من نظيره كمال أوغلو الذي لم يحصل منذ البداية على دعم زعيمة حزب “الجيد” القومي ميرال اكشينار، بشأن مسألة ترشحه في الانتخابات الرئاسية، رغم كونها جزءًا من تحالف “الأمة”.
ثانيًا: اتجاهات ترجيح كمال كليجدار أوغلو
بالنسبة لنتائج البرلمان، وعلى الرغم من أن تحالف “الجمهور” لم يحصل على نسبة الحسم في البرلمان التي تمكنه من تمرير القوانين والتعديلات الدستورية، إلا أن حصوله على الأغلبية قد تدفع الناخبين المحسوبين على تيار المعارضة، سواء الذين شاركوا في الجولة الأولى أو الذين لم يشاركوا كمُمتنعين بسبب انسحاب مرشحهم محرم انجه من السباق الرئاسي، أن يسعوا لفرض توازن بين السلطتين التنفيذية والتشريعية من خلال انتخاب كمال أوغلو مُمثلاً لتيار المعارضة في مواجهة الأغلبية البرلمانية التي حصدها تحالف “الجمهور”.
أما بالنسبة لكتلة التيار التابع لسنان أوغان وتحالف “آتا”، فهناك ورقتان أساسيتان قد يعتمد عليهما كمال أوغلو في استقطابها: أولاهما، التوافق بين موقف تحالف “الأمة” والتيار القومي المتطرف الموالي لسنان أوغان بشأن ضرورة تسريع وتيرة ترحيل اللاجئين من تركيا إلى بلدانهم وإن كان ذلك سيتم بصورة قسرية، وإدخال تعديلات على قوانين الجنسية لإلغاء الحقوق المُكتسبة بموجب القانون للمُجنسين في تركيا. وذلك على عكس أردوغان الذي طبق سياسات هجرة ولجوء سمحت للملايين من الأجانب بالاستقرار والتجنس والعمل في تركيا بصفة قانونية، فضلاً عن إصراره على استكمال عمليات ترحيل اللاجئين السوريين إلى بلادهم بصورة طوعية.
وثانيتهما، التوترات القديمة التي تشوب العلاقة بين سنان أوغان وحزب “الحركة القومية” المتحالف مع حزب “العدالة والتنمية” تحت مظلة تحالف “الجمهور” الموالي لأردوغان. فقد كان حزب “الحركة القومية” هو أولى محطات سنان أوغان في الحياة السياسية عندما كان نائبًا برلمانيًا عن الحزب عام 2011. إلا أنه طُرد بموجب قرار لجنة التأديب الداخلية في الحزب بعد نشوب خلافات بينه وبين قيادات الحزب بسبب عدم إدراجه على قائمة المرشحين البرلمانيين عن الحزب في الانتخابات التشريعية لعام 2015. ورغم عودته للحزب في العام ذاته بدعوى قضائية، إلا أنه طُرد مرة أخرى في عام 2017 ليعلن انتهاء مسيرته السياسية مع حزب “الحركة القومية”. ولعل هذه التوترات التي شابت علاقة الطرفين قد تقف حائلاً دون نجاح المفاوضات التي من المُقرر أن تجري خلال الفترة القادمة بين تحالف “الجمهور” وسنان أوغان، فضلاً عن توقع عزوف أنصار اوغان عن التصويت لأردوغان المدعوم من حزب “الحركة القومية”.
ختامًا، يمكن القول إنه مع نتيجة الأصوات المُتقاربة التي حصدها كل من رجب طيب أردوغان، وكمال كليجدار أوغلو في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية، ومع عدم حصول تحالف كل منهما على نسبة الحسم في الانتخابات البرلمانية، من المُتوقع أن تشهد هذه المرحلة الانتقالية حملة عنيفة ومُكثفة من الدعاية والاستقطاب، التي تستهدف في الأساس أصوات كتلة تحالف “آتا” القومي المتطرف كورقة حاسمة في جولة الإعادة، والذي بدوره سيحدد موقفه بناءً على الحوارات والمفاوضات التي سيجريها مع الجانبين لضمان حصوله على أكبر حزمة من المكاسب السياسية، لاسيما بعد فشله في الحصول على أي مقاعد في البرلمان، الأمر الذي قد يدفعه إلى التنازل عن بعض شروطه أو قبول التفاوض بشأنها، وهو ما سنترقبه خلال الأيام القليلة القادمة.
آمنه فايد
مركز الأهرام للدراسات