بمناسبة الزيارة الرسمية التي يجريها سلطان عمان هيثم بن طارق إلى طهران غداً الأحد، وما يتصل بالتوقعات المرجوة منها، وجدت أنه من المناسب الكتابة عن المقاربة العمانية للسياسات الإقليمية والدولية وتفرد منطلقاتها.
الزيارة كما ورد في الخبر المنشور عن وكالة الأنباء العمانية تهدف إلى استمرار التشاور والتنسيق بين البلدين حيال التطورات على الساحتين الإقليمية والدولية، والنظر في تعزيز جوانب التعاون القائم بينهما في مختلف المجالات. وتشير تقارير أميركية إلى أن زيارة سلطان عمان تأتي ضمن جهوده للتوسط بين إيران وأميركا، من جانبي أضيف إليها متابعة السلطان لأثر الاتفاق السعودي – الإيراني في الملف اليمني الذي ما زال متعثراً.
ربما كان لافتاً في المشهد العربي عموماً، والخليجي على وجه الخصوص، الطريقة المتفردة التي تمارس فيها سلطنة عمان سياستها الخارجية، فهناك عديد من الدراسات التي أبرزت هذا التفرد في إدارة ملفات معقدة في منطقة شديدة التعقيد والتوتر، وربما كانت من بين أبرز سماتها عدم التجديف مع التيار العام، والتحوط وترك قنوات الاتصال مفتوحة وعدم الإمعان في الاختلاف. وتذهب بعض الدراسات إلى حد توصيف السياسة العمانية بالحياد الإيجابي أو عدم الانحياز، على رغم قناعتي بانهيار مفهوم عدم الانحياز الذي ظهر تاريخياً خلال الحرب الباردة وكان انحيازاً مبطناً أكثر منه عدم انحياز.
الركائز التي تنطلق منها السياسة الخارجية العمانية مثل التعايش السلمي وحسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية واحترام سيادة الدول هي مبادئ عامة في ميثاق الأمم المتحدة، وتكاد تكون مكررة في جميع منطلقات السياسة الخارجية للدول الأعضاء في الأمم المتحدة. ولكن يبقى السؤال ما الذي يصنع التفرد العماني؟ وهل أن عمان أرادت أن تكون صانعة سلام ووسيطاً محايداً؟ أم أن ملابساتها التاريخية خلال العقود الماضية في ممارسة السياسة الإقليمية والدولية ومواجهة التأثيرات الواقعة في منطقة مصالحها الحيوية جعلت من مسقط محطة للمريدين والباحثين عن حلحلة لعقد الملفات الملتهبة؟
باعتقادي أن مرد ما نراه اليوم من تفرد في السياسة الخارجية العمانية، يعود إلى تجربة خاصة بالسلطنة ولا يمكن اعتبارها عناصر يمكن كتابة دليل نظري لتعلمها والاستفادة منها، فهي عمانية في الأول وفي الآخر. فخلال 50 عاماً من تجربة السلطان الراحل قابوس بن سعيد تمسكت بمجموعة من المواقف في مواجهة تحديات بعينها واجهت السلطنة، وأسهمت بتقديري في حياكة العقد الفريد للسياسة العمانية.
فخلال ممارسة السلطان قابوس للحكم لفترة زمنية طويلة امتدت لـ49 عاماً، ساست عمان علاقاتها بدول المنطقة والعالم في ظل تحديات وجودية استهدفت الدولة العمانية، ربما كان أبرزها مواجهة السلطان قابوس للتمرد في جنوب السلطنة، وهو تمرد امتد لأكثر من عقد من الزمن، ورث جله عن نظام أبيه، ضمن محاولات نظام جنوب اليمن الاشتراكي لتصدير الثورة إلى المنطقة مسنوداً بالاتحاد السوفياتي حينها، في ضوء محاولات مستميتة للنظام الشيوعي لملء الفراغ الاستراتيجي الذي خلفه انسحاب بريطانيا من شرق السويس.
وحينما لجأ السلطان قابوس إلى أشقائه العرب طلباً للدعم العسكري لقي بعض الدعم، إلا أنه لم يكن كافياً لإنهاء التمرد، فوجد الدعم والسند في عام 1973 عند شاه إيران الذي قدم دعماً عسكرياً حاسماً، وتحديداً الدعم الجوي الذي أخمد التمرد. وعلى رغم أن التدخل الإيراني أحدث قلقاً في أوساط الدول العربية التي اقترحت تشكيل جيش عربي موحد ليحل محل القوات الإيرانية، إلا أن رد سلطنة عمان جاء على لسان وزير خارجيتها حينها قيس الزواوي، بقوله “إن أشقائنا العرب يفضلون الكلمات عن الأفعال”، وتساءل “أية دولة عربية سيكون بمقدورها مساعدة عمان مثلما فعلت إمبراطورية الشاه؟”.
إيران في السياسة العمانية
على رغم توتر العلاقات العربية – الإيرانية بسبب مشروع طهران التوسعي عقب انتصار الثورة الخمينية في عام 1979، حينما اتخذت طهران أبعاداً تصعيدية في المنطقة تجلت بنشر الفكر الطائفي، وتشكيل ميليشيات إرهابية تدين بالولاء الصريح لطهران في تدخل سافر في شؤون الدول العربية، واصلت عمان تطوير علاقاتها مع النظام الجديد في طهران بعد سقوط شاه إيران حليفها الرئيس في حرب ظفار. وجاءت الحرب العراقية – الإيرانية في عام 1980 مثالاً لاصطفاف العرب لردع سعي طهران إلى زعزعة الأمن والاستقرار الإقليمي وبقيت عمان خارج هذا الاصطفاف، ووجدت أن علاقاتها الخاصة مع طهران باتت توفر قناة مفتوحة بين العرب والغرب وإيران، وهذه القناة تشكل مفتاحاً مهماً لتأثيرها الإقليمي والدولي.
والإيرانيين، وأن حداً أدنى من التفاهمات يظل أمراً حتمياً يصب في مصلحة أمن واستقرار ونماء دول المنطقة. وهذه الرؤيا بالتحديد هي التي تدفع دول المنطقة اليوم للسعي نحو تطبيع العلاقات مع طهران، من منطلق أن الخصومة والعداء، مثلما أنها ليست في صالح إيران فهي ليست في صالح العرب أيضاً. ومن هنا يتطلع العرب إلى أن تصوب طهران سياساتها، وتترك خلف ظهرها الأيديولوجية العقيمة لتصدير الثورة.
وكانت مسقط قبل ذلك في معرض تعاطيها مع تفاعلات إخماد تمرد ظفار نموذجية مع جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، وبتقديري تعتبر مقاربة السلطان قابوس في هذا الصدد أكثر دروس التاريخ العربي استنارة وتعقلاً، من حيث أنها استمرت في تطوير علاقاتها الأخوية مع الاشتراكيين في جنوب اليمن وفتحت أبوابها دائماً لاستقبالهم خلال محطات منازعاتهم الدموية المؤسفة كافة، أما داخلياً فكان العفو العام السلطاني حقيقياً، فعادت كل قيادات التمرد إلى حضن الوطن العماني الكبير، وتسلمت مناصب مهمة وحساسة في الدولة وأسهمت في بناء سلطنة عمان التي نعرفها اليوم.
ملف دولي وآخر إقليمي
حينما تسنم السلطان هيثم بن طارق مقاليد الحكم في عمان خلفاً للسلطان قابوس، أكد في أول بياناته أنه سيتبع النهج ذاته الذي اختطه الراحل، والمبادئ التي وضعها للسياسة الخارجية المتصلة بالتعايش السلمي بين الشعوب وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للغير وحسن الجوار. وركيزة حسن الجوار كانت وما زالت وستبقى قوة السياسة الخارجية العمانية، وهي التي أسهمت في الوساطات المتواصلة بين إيران وأميركا التي بدأت عقب تفجيرات الخبر الإرهابية في السعودية التي تورط فيها الحرس الثوري الإيراني، وما تلاها من اتصالات مهدت الطريق للتوصل للاتفاق النووي إبان إدارة الرئيس أوباما في عام 2015.
وفي السياق نفسه تعمل عمان اليوم تحت قيادة السلطان هيثم، وخلال هذه الزيارة المهمة التي يجريها غداً الأحد إلى طهران، على مواصلة جهود الوساطة بينها وبين واشنطن مع زيادة التوتر في مياه الخليج بين الحرس الثوري والقوات الأميركية المرابطة في المنطقة، وفي ظل التوقعات بإمكان العودة للاتفاق النووي. كما يحمل السلطان هيثم معه إلى طهران رسالة مهمة لإنهاء النزاع اليمني الدامي منذ أكثر من ثماني سنوات، الذي عملت مسقط والرياض بشكل مشترك على إنهائه، وإغلاق صفحة أكبر كارثة إنسانية شهدتها المنطقة والعالم، في ضوء مبادرة السلام السعودية والاتفاق السعودي – الإيراني لتطبيع العلاقات.
وكما يتطلع العالم لنجاح سلطان عمان في خفض التوتر في مياه الخليج يتطلع اليمنيون وكل محبي السلام لأن تحقق المشاورات في طهران انفراجة في الملف اليمني تطوع تعنت الحوثيين وإصرارهم على تدمير جهود السلام وتعيدهم إلى جادة العقل والتوافق الوطني، وخصوصاً بعد عدم توصل الزيارة المشتركة العمانية – السعودية إلى صنعاء بداية أبريل (نيسان) الماضي إلى الانفراج المنتظر في اليمن.
اندبندت عربي