لم تؤد الهجمات الأخيرة بالطائرات المسيرة على موسكو والهجمات عبر الحدود على منطقة بيلغورود الروسية إلى أي تغييرات جذرية في خريطة الأعمال القتالية، لكنها كشفت عن رد الفعل الغامض، وربما الذي يتسم بعدم المبالاة بشكل واضح، من جانب السلطات الروسية، حسبما يقول المحلل السياسي ميخائيل فينوجرادوف، مؤسس ورئيس مؤسسة سان بطرسبرغ للسياسات.
ويضيف فينوجرادوف في تحليل نشرته مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي أنه مع امتداد الحرب إلى الأراضي الروسية، ليس باستطاعة الكرملين تحديد الرسالة التي يريد أن يبعث بها للرأي العام. ولذلك، فإنه كما كان الحال أثناء جائحة كورونا، يستعين بحكام المناطق لاختبار سبل الاتصال المختلفة.
ومرة أخرى، أصبح من مهمة الحكام إظهار مهاراتهم في إدارة الطوارئ بينما يقودون أيضا حملات العلاقات العامة، وهذه المرة بشأن المسيرات والأعمال العدائية المسلحة، وغيرها من الحالات الطارئة التي تتعلق بالحرب، في مناطقهم. وفي الوقت نفسه، هم ملزمون بتجنب أي روايات درامية مفرطة، حتى لا يسيئون لصورة الحكومة الاتحادية.
وكان عمدة موسكو سيرجي سوبيانين وحاكم المنطقة أندريه فوروبيوف هما المصادر الأولية للمعلومات بالنسبة لوسائل الإعلام الرسمية بشأن الهجمات بالطائرات المسيرة على العاصمة في 30 أيار/ مايو الماضي. وعلق المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف، على الأمر بعد سوبيانين بخمس ساعات، بينما لم يتطرق الرئيس فلاديمير بوتين له سوى في وقت مبكر من المساء.
وساعد عدم وقوع خسائر خطيرة في الأرواح نتيجة الهجوم وسائل الإعلام على تصوير الموقف على أنه انتصار للدفاعات الجوية الروسية، كما أن تصريحات سوبيانين وفوروبيوف الجافة والفعلية وفرت للحكومة المركزية بعض الوقت لتقييم رد فعل الرأي العام وصياغة روايتها للحادث. وفي نهاية المطاف، وصف الكرملين الهجمات بأنها “رد فعل فاشل” من جانب أوكرانيا على الهجمات الروسية (علما بأن أوكرانيا لم تعلن مسؤوليتها). بينما أظهرت الحكومة المركزية حالة من الهدوء والثقة، وأقنعت مواطني موسكو بأن الحياة في المدينة سوف تستمر على ما هي عليه.
ومن الواضح أن المواطنين حريصون على الحصول على هذه الطمأنة من الحكومتين المحلية والاتحادية. ولم تؤد هجمات المسيرات على المناطق السكنية في العاصمة، أو على الكرملين نفسه إلى تحويل قلق سكان موسكو المتزايد إلى مطالب بأن توقف الحكومة الحرب، أو إلى تصعيد جهود روسيا الحربية.
وفي أعقاب الهجوم بالمسيرات على موسكو، عاود الزعيم الشيشاني رمضان قديروف الظهور بتصريحاته المتشددة، وحث الحكومة الاتحادية على إعلان الأحكام العرفية في أنحاء البلاد. ومع ذلك فإن هذا لا يعكس محاولات الحكومة المركزية لقياس الرأي العام بقدر ما يعكس جهود قديروف للعودة إلى أجندة الحرب التي أبعده عنها يفجيني بريجوزين قائد مجموعة فاغنر المرتزقة.
ويقول فينوجرادوف إن عددا من المناطق الروسية القريبة من الحدود الأوكرانية (مثل كرانودار، وكورسك، وفورونيزه)، وكذلك بعض المناطق البعيدة التي شهدت بالفعل هجمات بطائرات مسيرة (أوريول، وريازان وبسكوف)، تعتبر في خطر أكبر للتعرض لمثل هذه الهجمات. ولا يمكن وصف أي من حكام هذه المناطق، باستثناء رومان ستاروفويت حاكم منطقة كورسك، بأنهم قادة مهمون كثيرا أو أنهم يتمتعون بشخصيات كاريزمية. فهم يفضلون التركيز على أحوال مناطقهم والتعامل مع قضايا “وقت السلم” اليومية.
ويتمثل التحدي الرئيسي الذي يواجهه حكام المناطق الروس في تحقيق التوازن الذى تريده الحكومة المركزية وهو التعامل مع الطوارئ مع السعي للحفاظ على مظهر هدوء الحال في مناطقهم. والكل يدرك أن أي موجة جديدة من التعبئة سوف تكون لها تداعيات اجتماعية وسياسية لا يمكن التكهن بها، لذلك تحاول الحكومة الاتحادية تجنب ذلك من خلال تحديد حصص للمناطق من الجنود المحترفين الذين يتم تجنيدهم على أساس عقود.
ولم تفصح الحكومة بالتحديد عن عدد الجنود الذين تحتاجهم، لكن يُعتقد على نطاق واسع أن العدد سيكون كبيرا للغاية ومن ثم يتعارض ذلك مع حالة اللامبالاة السائدة في البلاد. وللحصول على الأعداد المطلوبة، بدأت المناطق الأكثر ثراء في البحث عن “متطوعين” من خارج حدودها حيث تعرض عليهم بصورة غير رسمية مبالغ مغرية من أجل التوقيع على عقد مع القوات المسلحة.
وفي الوقت الذي تواصل فيه الحكومة المركزية السير على خط رفيع بين اتخاذ خطوات عاجلة للتعامل مع تأثيرات الهجمات على الأراضي الروسية وتشجيع الرأي العام على تجاهل تلك الهجمات وسرعة نسيانها، هناك صراع حتمي ما بين تجنيد أعداد كبيرة من الجنود “المتطوعين” بعقود، وعرض صورة لحياة تتسم بالهدوء.
ويرى فينوجرادوف أن من الصعب إيجاد مزيد من الأشخاص على استعداد للتسجيل للانضمام للجيش لأسباب أيديولوجية في الوقت الذي يسود فيه لدى قطاع عريض من المواطنين اقتناع بأن العملية العسكرية تسير على خير ما يرام، بينما كثيرون آخرون ببساطة لا يعبأون بالأمر.
(د ب أ)