لم تأت جولة الانتخابات الرئاسية التركية الثانية بمفاجأة ما؛ فقد كان فوز الرئيس، رجب طيب أردوغان، بعهدة رئاسية ثانية وأخيرة واضحًا في نهاية الجولة الأولى. ما شغل المعلقين ومنظمات قياس الرأي العام خلال الأسبوعين الفاصلين بين الجولتين كان توقع الفارق بين الرئيس المخضرم ومنافسه، كمال كليتشدار أوغلو، زعيم حزب الشعب الجمهوري المعارض. في النهاية، وبعد أن تفوق أردوغان في الجولة الأولى بفارق أربع نقاط مئوية على منافسه، حُسمت الانتخابات الرئاسية في الجولة الثانية بالفارق نفسه تقريبًا.
هذا لا يعني بالتأكيد أن فوز أردوغان كان مضمونًا من البداية، ولا يعني أن أوساط مناصري الرئيس وحزبه، حزب العدالة والتنمية، كانت محصنة ضد التوتر والقلق. الحقيقة أن شكوكًا انتشرت داخل تركيا وخارجها، ولأسباب عديدة، في أن النصر سيكون حليف الزعيم السياسي الأبرز في تاريخ تركيا الحديث. ولذا، وما إن اتضح فوز أردوغان حتى تنفس الكثيرون الصعداء، بمن في ذلك أولئك الذين حرصوا على استقرار الدولة والبلاد، وأولئك الذين تطلعوا إلى استمرار السياسة الخارجية التي اختطَّتها إدارة أردوغان في السنوات الأخيرة.
إضافة إلى فوزه بعهدة ثانية في ظل النظام الرئاسي الذي بدأ تطبيقه في 2018، حاز تحالف الجمهور، الذي يضم حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية وعدة أحزاب محافظة صغيرة أخرى، أغلبية معقولة في البرلمان. فكيف ولماذا حقق أردوغان الفوز، بالرغم من ازدحام الفضاء الإعلامي والسياسي، داخل تركيا وخارجها، طوال الأشهر السابقة على الانتخابات، بتوقعات خسارته؟ وما طبيعة الأولويات، الداخلية والخارجية، التي يفترض أن تبدأ إدارته الجديدة بمعالجتها؟ وما الذي يمكن أن يعنيه هذا الفوز لمستقبل تركيا؟
فوز بقليل من المفاجآت
لم يستطع أردوغان حسم الانتخابات في الجولة الأولى نظرًا لأن منافسه الأبرز، كمال كليتشدار أوغلو، الذي اصطف خلفه تحالف متعدد الأطياف من سبعة أحزاب سياسية، حقق نسبة معتبرة من الأصوات. كما أن منافسه الثاني، القومي سنان أوغان، فاجأ كافة أطراف الساحة السياسية بحصوله على ما يزيد على خمسة بالمئة من الأصوات. ولكن نصيب أردوغان من الأصوات، الذي تجاوز 49 بالمئة، أوحى بصورة جلية بأنه سيكون الفائز في الجولة الثانية. الحقيقة، أن أردوغان لم يكن يحتاج إلا إلى 260 ألف صوت إضافي للفوز من الجولة الأولى، في انتخابات يصل عدد الناخبين فيها إلى ما يفوق الستين مليونًا من المواطنين.
عُقدت الجولة الأولى من الانتخابات في 14 مايو/ أيار، ودعت الهيئة العليا للانتخابات إلى عقد الثانية في 28 من الشهر نفسه. بمعنى، أن أسبوعين فقط فصلا بين الجولتين، كان على المرشحيْن صاحبي عدد الأصوات الأعلى في الجولة الأولى خلالهما حشد ما يكفي من الأنصار لتحقيق الفوز. وليس ثمة شك أن التحدي الأكبر أمام المرشحين المتنافسين كان إقناع المواطنين الذين شاركوا في انتخابات الجولة الأولى بالعودة إلى مراكز الاقتراع من جديد والتصويت في الجولة الثانية. تخوفت حملة كليتشدار أوغلو من الشعور بالإحباط واليأس الذي خيم على ناخبيه بعد خسارته الفادحة في الجولة الأولى، بينما تخوفت حملة أردوغان من الشعور بالطمأنينة والثقة الذي ساد أوساط مناصريه. في النهاية، لم تتراجع نسبة التصويت في الجولة الثانية إلا بنقطتين مئويتين فقط عن الجولة الأولى؛ وهو ما أعاد التوكيد على ثقة الشعب التركي بالمسار الديمقراطي وصندوق الاقتراع.
كان كليتشدار أوغلو عقد اتفاقًا قبل الجولة الأولى مع حزب الشعوب الديمقراطي، الكردي القومي، لدعمه في الانتخابات الرئاسية؛ وهو ما أثار ردود فعل سلبية في الأوساط التركية القومية المؤيدة له. ولذا، فقد سارع إلى تغيير إستراتيجيته الانتخابية قبل الذهاب إلى الجولة الثانية، وعقد تحالفًا جديدًا مع أوميت أوزداغ، زعيم حزب النصر وأكثر الشخصيات القومية عنصرية. وهذا، على الأرجح، ما ولَّد انطباعًا بتخبط المعارضة ومرشحها، وأثار ردودَ فعل سلبية هذه المرة في الأوساط الكردية.
عمومًا، وبالرغم من محاولات المراقبين ودارسي الرأي العام التركي قراءة تحولات الناخبين بين الجولة الأولى والثانية، فالواضح أن الانتخابات الرئاسية لم تشهد أية متغيرات جوهرية بين الجولتين، ولا حتى بين هذه الانتخابات والانتخابات الرئاسية السابقة في 2018. بالرغم من الأزمة المالية-الاقتصادية التي تمر بها البلاد منذ عامين، وبالرغم من الزلزال المدمر الذي أصاب ملايين السكان وأودى بحياة ما يقارب الخمسين ألفًا منهم، وبالرغم من التحالف الكبير وغير المسبوق الذي اصطف خلف كليتشدار أوغلو، ومن الحملة الإعلامية الشرسة داخل تركيا وخارجها، فقد حافظ أردوغان على ذات نسبة الأصوات التي حققها في 2018، بتراجع طفيف. كما أن كليتشدار أوغلو لم يستطع أن يرتفع عن مجموع الأصوات التي صبَّت لصالح مرشحي المعارضة معًا في الانتخابات الرئاسية السابقة قبل خمس سنوات.
ثمة جدل واسع النطاق في أوساط المعارضة حول فقدان مرشحها للكاريزما، وعجزه عن تطوير إستراتيجية انتخابية مقنعة، وحول تحالفاته المتقلبة، وخلو خطابه من الأمل والبرنامج المتماسك. ولكن الحقيقة، على الرغم من شرعية هذه الانتقادات، أن الأسس التي ارتكز إليها انتصار أردوغان كانت أبعد من ذلك. فالواضح أن سياسة الهويات لم تزل صاحبة الثقل الأكبر في الساحة التركية، وأن الكتلة التصويتية المحافظة لم تزل هي الأكبر، وأن ثقة أغلبية هذه الكتلة في أردوغان وإنجازاته وقدرته على قيادة الدولة والبلاد لم تزل راسخة.
بيد أن هذا الفوز الحاسم والمريح لا يعني أن ولاية أردوغان الثانية والأخيرة، التي يفترض أن تستمر إلى 2028، ستكون أكثر هدوءًا وراحة من سابقتها. حالة النهوض التي أطلقتها حكومة العدالة والتنمية منذ تولى مقاليد البلاد قبل عشرين عامًا، أصبحت هي ذاتها بوتقة لتوليد سلسلة من المسائل والمعضلات.
تحديات الداخل
يواجه الرئيس التركي في ولايته الأخيرة عددًا من التحديات الكبرى، سواء على الصعيد الاقتصادي، أو السياسي، أو الحزبي:
يتعلق أول هذه التحديات بالأزمة الاقتصادية التي تمر بها تركيا منذ عامين على الأقل، وهي أزمة تنبع هذه المرة من عيوب جوهرية في نمط التنمية التركي وليس بالاقتصاد العالمي. فقد شجعت الحكومة التركية طوال ما يزيد عن العقد القطاع الخاص على الاقتراض من الخارج لدعم حركة نمو وتوسع اقتصادي مطرد؛ مما تسبب في تراكم قروض قصيرة الأجل تتجاوز 250 مليارًا من الدولارات. في الوقت نفسه، ولأسباب مختلفة، ذات دوافع سياسية أو حسابات ربحية بحتة، شهد السوق التركي انسحابًا لما يعرف بالأموال الساخنة من حقول الاستثمار المتعددة. بذلك، انخفضت قيمة الليرة التركية واندفاع الأتراك إلى التخلي عنها، فازداد الطلب على العملات الأجنبية، سيما الدولار واليورو، وارتفع مستوى التضخم بدرجة غير مسبوقة منذ ربع القرن.
لمواجهة الأزمة، لجأت حكومة أردوغان السابقة إلى خفض حثيث في قيمة الفائدة، على أساس أن انخفاض معدل الفائدة، والانخفاض في سعر الليرة، سيدفع نحو النمو الاقتصادي والتراجع في مستوى البطالة، وزيادرة الصادرات، وانخفاض مستويات التضخم، أو ما يعرف بالنموذج الصيني. ولكن ما غاب عن أصحاب هذه السياسة أن النموذج الصيني أثبت فعالية مديدة في وقت كانت أرصدة الصين من العملات الدولية في تصاعد، ومرحلة من تدفق الاستثمارات الأجنبية، بدون أن تثقل كاهل الاقتصاد الصيني أية ديون ملموسة.
المهم، أن إعادة أردوغان لمحمد شيمشك، وزير المالية ونائب رئيس الوزراء الأسبق، وزيرًا للمالية والخزانة، والوزير الأسبق جودت يلماز، نائبًا للرئيس، واختيار الأكاديمي، القيادي في اتحاد رجال الأعمال والصناعيين “موسياد”، عمر بولاط، يشير بوضوح إلى عزم أردوغان على تشكيل فريق اقتصادي-مالي كفؤ ومحل ثقة من السوق التركي والدولي. ولابد أن الدوائر السياسية والمالية-الاقتصادية ستنتظر ببالغ الترقب طبيعة السياسات التي ستتبناها الحكومة الجديدة، وما إن كانت ستستطيع وضع تركيا على بداية طريق التعافي الاقتصادي.
ثاني التحديات الداخلية الرئيسة يتعلق بوضع دستور مدني جديد للبلاد، الهدف الذي أعلنه أردوغان منذ أكثر من عامين، وأعاد التوكيد عليه خلال حملته الانتخابية. تستند الدولة التركية في بنيتها وعملها إلى دستور 1982، الذي كُتب في ظل نظام ما بعد انقلاب 1980. وعلى الرغم من أن عشرات التعديلات قد أُجريت على هذا الدستور، بما في ذلك التعديل الذي نقل البلاد إلى النظام الرئاسي قبل خمس سنوات، إلا أن روح الدستور وتوجهه لم تزل كما هي. تحتاج تركيا بلا شك دستورًا جديدًا، ليس دستورًا مدنيًّا وحسب، بل دستورًا يعالج مسائل المواطنة والأمة الشائكة، ويعيد النظر في مسائل الحريات والحقوق، ويعالج النواقص والعيوب التي شابت التحول إلى النظام الرئاسي.
ولكن الطريق إلى وضع دستور جديد لن يكون بلا عوائق؛ إذ إن تحالف الجمهور الحاكم لا يتمتع بأغلبية كافية لإقرار الدستور الجديد في البرلمان، وليس من الواضح ما إن كان من الممكن بناء تحالف برلماني كاف يأخذ مسودة الدستور إلى الاستفتاء. ولذا، فإن عملية كتابة هذا الدستور تتطلب نقاشًا وطنيًّا واسع النطاق، ومحاولة إرساء أوسع إجماع سياسي ممكن على مسودته، قبل أن تبدأ العملية التشريعية لإقراره.
أما ثالث التحديات الداخلية فيتعلق بمستقبل حزب العدالة والتنمية وما إن كان سيستطيع الحفاظ على الحكم في المستقبل، سيما بعد أن يغادر زعيمه الكاريزمي التاريخي الساحة السياسية في نهاية ولايته الحالية. حقق تحالف الجمهور، الذي يعتبر العدالة والتنمية ثقله الرئيس، أغلبية مريحة نسبيًّا في البرلمان. ولكن، وعلى الرغم من هذه الأغلبية، فقد أظهرت الانتخابات تراجعًا في حظوظ حزب العدالة والتنمية نفسه، سواء من جهة نصيبه من الأصوات أو من جهة عدد مقاعده في البرلمان التركي. تفرض هذه النتائج على الرئيس التركي ومسؤولي حزبه وإدارته، إن كان يرغب فعلًا في الحفاظ على ميراث العدالة والتنمية ونمط قيادته للبلاد والدولة، إعادة النظر في بنية الحزب وخطابه وعلاقاته بفئات الشعب وقواه المختلفة.
كما كافة قوى الدولة الحديثة السياسية التي تمكث في الحكم فترات طويلة، أظهر حزب العدالة والتنمية مؤشرات على الترهل، وفقدان الحيوية والإبداع، خلال الخمس أو الست سنوات الماضية. والواضح أن جهود أردوغان الإصلاحية داخل الحزب لم تكن كافية للدفع نحو بداية جديدة. يحتاج الحزب بالتأكيد خلال السنوات القليلة القادمة قيادة شابة، تحمل رؤية تلتف حولها أغلبية الشعب، وتتمتع بقدرة على إعادة بناء الثقة بين الحزب والقاعدة الشعبية، وتعيد بناء صورة الحزب المؤتمن على قيادة البلاد والمكرس لخدمة شعبه، لا البحث عن المكاسب الشخصية.
ولكن العدالة والتنمية يحتاج إضافة إلى ذلك التصدي مرة أخرى لمعالجة المسألة الكردية واستعادة نصيبه التقليدي من الصوت الكردي. فإلى 2015، عندما وصلت عملية السلام والتوافق حول المسألة الكردية نهاية الطريق، كان نصف الصوت الكردي يذهب عادة إلى العدالة والتنمية. وما لبث التراجع في الدعم الكردي للعدالة والتنمية، بل ولأردوغان نفسه، أن أصبح واضحًا في انتخابات 2015، واستفتاء 2017، وانتخابات 2018، والانتخابات المحلية في السنة التالية، كما في جولة الانتخابات الأخيرة.
ولابد أن حلًّا جريئًا للمسألة الكردية هو أمر ملحٌّ لمستقبل تركيا ككل، وليس لمستقبل العدالة والتنمية وحسب. وربما يكون ما أظهرته الانتخابات الأخيرة من تراجع في حظوظ حزب الشعوب الديمقراطي، ومعارضة قطاع ملموس من كوادر الحزب لما اعتبروها سياسة خاطئة انتهجتها قيادة الحزب في دعم كليتشدار أوغلو، فرصة لفتح حوار جاد ومثمر مع الجناح الأكثر براغماتية واعتدالًا في الحزب لإطلاق عملية أكثر شمولًا للتعامل مع كافة جوانب المسألة الكردية.
ثمة عدد آخر من الملفات الداخلية المهمة التي تقتضي من أردوغان وحكومته التعامل معها، وعلى رأسها الوفاء بوعود إعادة بناء منطقة الزلزال، وتعهد عملية إصلاح شامل للقطاع التعليمي، وإقرار تشريعات جديدة لحماية المرأة والمستهلك، ولكن هذه الملفات تبدو أقل تعقيدًا من ملفات الاقتصاد والدستور وإعادة بناء الحزب ومعالجة المسألة الكردية.
تحديات الخارج والأمن القومي
أظهرت حكومات العدالة والتنمية منذ بداية تولي الحزب السلطة في 2002 توجهًا نحو اتباع سياسة خارجية استقلالية في الساحة الدولية، واستعادة علاقات تركيا التاريخية بدول جوارها في العالم العربي والبلقان والقوقاز. ولكن التوجه الاستقلالي للسياسة الخارجية أصبح أكثر وضوحًا في السنوات التالية على المحاولة الانقلابية الفاشلة في 2016. في المقابل، وبالرغم من نجاح سياسة التعاون والانفتاح التركية مع دول البلقان، وبداية تطبيع العلاقات التركية-الأرمينية، وتأسيس منظمة الدول التركية، اصطدمت العلاقات التركية-العربية بعدد من العقبات والأزمات، سيما في حقبة ما بعد الثورات العربية.
ولدت السياسة الاستقلالية في الساحة الدولية حلقات من التوتر في العلاقات التركية مع الولايات المتحدة. وإضافة إلى أسباب أخرى، تتعلق بالخلافات حول النفوذ في المتوسط، أدت النزعة الاستقلالية التركية إلى تصعيد الخلافات مع فرنسا. ما أضاف مزيدًا من التعقيد إلى العلاقات التركية مع الولايات المتحدة وفرنسا كان الرعاية الخاصة التي تعهدتها الإدارات الأميركية المتعاقبة لامتدادات حزب العمال الكردستاني السورية، والترحيب الفرنسي بنشاطات الحزب في الساحة الأوروبية، والتأييد متباين المستويات الذي أظهرته واشنطن والعواصم الأوروبية للموقف اليوناني في شرق المتوسط. وليس ثمة شك أن التساهل الأوروبي مع نشاطات حزب العمال هو السبب الرئيس خلف امتناع تركيا عن التصديق على طلب التحاق السويد بحلف الناتو حتى الآن.
لم تخل العلاقات التركية مع روسيا والصين، بالرغم من حرص أنقرة على تجنب الانخراط في المواجهة الغربية مع الدولتين، من الخلافات. ترفض أنقرة التعامل الصيني القمعي مع المسلمين الأيغور، وترفض ضم روسيا أراضي أوكرانية، كما أن الخلاف، بل والصدام أحيانًا، كان طابعًا صريحًا للعلاقات التركية-الروسية في الساحة السورية طوال سنوات.
ليس من المتوقع أن تشهد المقاربة التركية للساحة الدولية أي تراجع ملموس عن السياسة الاستقلالية، سيما أن وزير الخارجية التركي الجديد، هاكان فيدان، كان شريكًا في صناعة هذه السياسة خلال السنوات الماضية بصفته رئيسًا لجهاز الاستخبارات الوطني. ولكن الأرجح أن أنقرة ستحاول ترميم بعض ما يمكن ترميمه من العلاقات مع الكتلة الغربية، بدون التخلي عن علاقات التعاون مع موسكو وبيجين، أو التفريط بمسائل الأمن القومي. إصرار تركيا على إتمام صفقة طائرات إف 16 الحديثة، وتوجهات التطبيع مع اليونان، تشير بوضوح إلى أن أنقرة تسعى إلى الحفاظ على علاقاتها الغربية التقليدية، وحصر مسائل الخلاف في أضيق خانة ممكنة. ولكن، من الصعب تصور انتهاء هذا الخلاف كلية، طالما أصرت الدول الغربية على مواصلة دعم حزب العمال الكردستاني، وأصرت اليونان على موقفها المتشدد في شرق المتوسط.
أما في المجال الإقليمي، فتبدو حظوظ السياسة التركية أفضل بكثير اليوم، سيما بعد الخطوات التي اتخذتها أنقرة لترميم علاقاتها العربية. تحافظ أنقرة على علاقات وثيقة بكافة دول البلقان، مع الحفاظ على مسؤولياتها في حلف الناتو. كما أثبتت منظمة الدول التركية قدرتها على الاستمرار، وعلى تطوير العلاقات بين دولها، سيما بعد أن أسست بنك التنمية الخاص بها قبل أسابيع قليلة. وعلى الرغم من الدور التركي في دعم جهود أذربيجان لاستعادة أراضيها في ناغورنو كارباخ، في مواجهة انتقادات روسية وأوروبية متعددة، أبدت أنقرة انفتاحًا على تطبيع العلاقات مع أرمينيا. والمؤكد أن حكومة أردوغان الجديدة ستواصل عملها في هذه المجالات جميعًا معًا.
في الجوار العربي، نجحت أنقرة في إعادة الدفء إلى علاقاتها مع الإمارات والسعودية، وبدأت اتصالات بطيئة للتطبيع مع مصر، يتوقع أن ينجم عنها تبادل للسفراء خلال فترة قصيرة. شهدت العلاقات مع الإمارات والسعودية قفزات ملموسة في المجاليْن، الاقتصادي والتجاري، ولكن من غير الواضح ما إن كان التطبيع التركي-المصري سيفضي إلى أي تقارب بين البلدين فيما يتعلق بترسيم الحدود في شرق المتوسط.
كما خطت تركيا، بوساطة روسية، خطوات أولية في اتجاه استئناف العلاقات مع سوريا الأسد، ليس بهدف تسهيل عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، وحسب، ولكن أيضًا لاعتراف أنقرة بأن تغيير نظام الأسد لم يعد مطروحًا، وأن من الضروري تعاون البلدين لمواجهة مخاطر الجماعات المسلحة المتمردة، والحفاظ على وحدة سوريا. ولكن الواضح، بالرغم من الإلحاح السوري، المدعوم إيرانيًّا، أن تركيا لن تقوم بسحب قواتها من شمال سوريا إلا بعد أن تحل كافة جوانب الأزمة السورية، وينتهي التهديد الذي تشكله الأزمة للأمن القومي التركي.
هذه الصورة لخارطة العلاقات التركية-العربية تجعل مهمة أصحاب القرار في أنقرة أيسر قليلًا مما كانت علية الأمور قبل خمس سنوات. ولكن هذا لا يعني أن طريق أنقرة لإعادة بناء العلاقات مع الجوار العربي تخلو من التحديات. يرى صانعو القرار التركي أن ثمة حاجة ملحَّة لبذل جهود أكبر لتعزيز العلاقات الاقتصادية مع الأسواق العربية، سيما في منطقة الخليج؛ وحاجة للتعامل مع معارضة الرياض لبناء خط نقل تجاري ونقل الطاقة من ميناء الفاو العراقي إلى تركيا، وصولًا إلى أوروبا.
ولابد أن أنقرة ستعمل في المرحلة المقبلة على أن ينعكس التحسن في العلاقات مع العواصم العربية الرئيسة على مناطق الأزمات ذات الصلة بتركيا، مثل سوريا وليبيا. كما ستعمل على تطوير مقاربة متوازنة لموقفها من المسألة الفلسطينية، بعد أن استأنفت العلاقات مع إسرائيل، ونجحت الأخيرة في تطبيع علاقاتها مع عدة دول عربية، تحافظ من خلالها على موقفها التقليدي من الوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة.
انضباط في الداخل ومرونة في الخارج
لم تتح لحزب الشعب الجمهوري، حزب المعارضة الرئيس، فرصة انتخابية، منذ انتقلت تركيا إلى الحياة الديمقراطية في 1950، كما أتيحت له في الانتخابات الأخيرة. لم يستطع حزب الشعب العودة إلى الحكم منفردًا بعد خسارته الفادحة أمام مندريس في 1950، ولم يحكم من جديد لسنوات قليلة ومتفرقة إلا بقوة الانقلابات العسكرية، أو عبر ائتلافات حزبية هشة. في هذه الانتخابات، نجح حزب الشعب في بناء ائتلاف انتخابي غير مسبوق، ضم قوى من اليمين واليسار والوسط، تلقَّى دعمًا صريحًا ومضمرًا من القوى الغربية، وصنع انطباعًا بأنه لم يعد حزب النخبة الاجتماعية، الحزب العلماني المفرط في خصومته مع مواريث الشعب، الحزب الحاكم الوحيد وثقيل الوطأة لأكثر من ربع قرن. ولكن الشعب الجمهوري، على الرغم من ذلك كله، لم يحقق الفوز في الانتخابات.
وهذا ما يدفع كثيرين إلى الاعتقاد بأن العدالة والتنمية، أو أي تجمع سياسي محافظ آخر، بإمكانه الاستمرار في الحكم، ومنع حزب الشعب من تسلم مقاليد السلطة مرة أخرى، لعدة عقود مقبلة، إن توافر عدد من الشروط غير المستحيلة: أولها: نجاح الحكومة الحالية في معالجة أولويات البلاد والتصدي للأزمة الاقتصادية. الثاني: التحرر قليلًا من ضغوط التحالف مع حزب الحركة القومية وإحياء مسار السلم والتعامل مع الملف الكردي. والثالث: اختيار خليفة مقنع ومؤهل، سياسيًّا ووطنيًّا، للرئيس أردوغان في الوقت المناسب.
على الصعيد الخارجي، يمكن القول: إن مطالب البعض بأن تقوم حكومة أردوغان الجديدة بوضع إستراتيجية عمل شاملة للعلاقات الخارجية هي في جوهرها مطالب مثالية، لا تأخذ في الاعتبار وزن تركيا النسبي في الساحة الدولية. فبالرغم من حالة النهوض التي تعيشها تركيا منذ أكثر من عقدين، تظل تركيا قوة متوسطة، يصعب عليها وضع أهداف ثابتة، والالتزام بتحقيق هذه الأهداف مهما كانت العقبات والمتغيرات الإقليمية والدولية. تركيا ليست الولايات المتحدة، ولا هي الصين، أو روسيا. وحتى هذه القوى الكبرى يصعب عليها إمضاء سياساتها الإستراتيجية عندما تجد نفسها في مواجهة قوى كبرى أخرى، كما تشهد على ذلك الحرب الروسية في أوكرانيا.
للمحافظة على حالة النهوض، تحتاج تركيا انضباطًا سياسيًّا داخليًّا، يعمل على تجنب العودة إلى حقبة التشظي والتدافع وعدم الاستقرار الداخلي، ومرونة أكبر في المجال الخارجي، تساعد على اقتناص الفرص، والمغامرة المحسوبة، ومنع الأزمات من التفاقم. وربما يمكن القول: إن النظام الرئاسي سيحافظ على الانضباط الداخلي، وإن اتباع سياسة خارجية براغماتية سيوفر المرونة الضرورية في المجالين الدولي والإقليمي.
مركز الجزيرة للدراسات