مع تصاعد الحديث في الفترة الأخيرة عن الخلافات داخل كتل “الإطار التنسيقي للقوى الشيعية” المشكلة للحكومة العراقية برئاسة محمد شياع السوداني، يبدو أن ربيع العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية في طريقه إلى التلاشي، مع تصعيد جماعات مسلحة لهجتها ضد واشنطن وإعطاء الحكومة العراقية “فرصة أخيرة” للتعاطي مع ملف وجود القوات الأميركية في البلاد.
وكانت “تنسيقية المقاومة العراقية” التي تتألف من ميليشيات مسلحة عدة موالية لإيران، قد منحت حكومة السوداني ما سمته “الفرصة الأخيرة” لوضع حد لـ”الانتهاكات الأميركية في العراق”، وتوعدت في بيان، في 24 يونيو (حزيران)، بإعادة العمليات العسكرية في حال تنفيذ واشنطن تهديدها باستهداف أحد “قادة الفصائل”. وأكدت الفصائل أن الهدف من “إيقاف العمليات العسكرية ضد الوجود العسكري الأميركي داخل العراق” يأتي لـ”خطورة تلك المرحلة وضرورة تجاوزها”. وتابع البيان أن واشنطن “هددت بوقاحة باستهداف أحد قادة المقاومة، مما يحتم علينا القيام بواجبنا الشرعي والوطني بالرد المناسب، إذا ما استمرت هذه الانتهاكات”. ولفت إلى أن “الهيئة التنسيقية للمقاومة العراقية وبناء على الجهود التي تروم الحكومة العراقية القيام بها، فإنها تمنح فرصة أخيرة للحد من هذه الانتهاكات، وليعلم الجميع أن لصبرنا حدوداً، ولكل فعل رد فعل، وقد أعذر من أنذر”.
وكانت إحدى منصات الجماعات الموالية لإيران نشرت في الخامس من يونيو أن السفيرة الأميركية ألينا رومانوسكي أبلغت أطرافاً سياسية عراقية بأن واشنطن تعتزم استهداف قادة ميليشيات موالية لإيران ومن بينهم زعيم ميليشيات “النجباء” أكرم الكعبي.
ويأتي بيان الفصائل المسلحة بعد نحو أسبوعين عن تسريبات تحدثت عن زيارة قام بها قائد “فيلق القدس” الإيراني إسماعيل قاآني إلى بغداد واجتماعه بقيادات في “الإطار التنسيقي”.
مناورة لتأجيل الشروط الدولية
ويعد هذا البيان هو الأول من نوعه منذ تنصيب السوداني رئيساً للوزراء، في أكتوبر (تشرين الأول) 2022، الأمر الذي يضع عديداً من السيناريوهات خلف الدوافع الرئيسة من بيان الفصائل المسلحة، وعلى رأسها محاولة حلفاء طهران “التنصل من الاشتراطات الدولية” المفروضة على حكومة السوداني، ولا تتوقف السيناريوهات عند هذا الحد، إذ يعتقد مراقبون أن ما يجري يمثل مناورة تقوم بها أطراف “الإطار التنسيقي” في محاولة لتصوير حكومة السوداني على أنها غير خاضعة لسلاح الميليشيات الموالية لإيران، ويبدو أن المراد من هذه الخطوة، بحسب مراقبين، هو تأجيل تنفيذ الاشتراطات الأميركية بما يتعلق بقضايا عدة على رأسها المطالبة بحل “الحشد الشعبي” وإنهاء سطوة الميليشيات على ملفات اقتصادية رئيسة وإيقاف تسرب الدولار للجماعات المسلحة، فضلاً عن إنهاء الاعتماد على استيراد الطاقة من إيران وإبعاد الشركات القريبة من طهران وميليشيات “حزب الله” اللبناني عن الاستثمار في العراق.
ورأى ورى يرى الباحث في الشأن السياسي أحمد الشريفي أن ما يجري في الفترة الحالية من تصعيد تقوم به الجماعات المسلحة لا يخرج عن إطار “محاولة التنصل من الاشتراطات الدولية التي تم تشكيل الحكومة الحالية على أساسها”، مضيفاً أن حكومة السوداني تشكلت على أثر الصراع مع “التيار الصدري”، وهذا الأمر “حتم على أطراف الإطار التنسيقي تشكيل الحكومة ضمن شروط واشنطن مقابل قبول المجتمع الدولي بمخرجات العملية السياسية”، ويبدو أن القبول بشروط واشنطن لتشكيل الحكومة العراقية أدى في النهاية إلى “إحداث انقسام داخل قوى الإطار التنسيقي”. ولفت الشريفي إلى أن “جزءاً من تلك القوى بات يرى ضرورة الإيفاء بالاشتراطات الدولية لتشكيل رأي عام مؤيد لها تمهيداً للانتخابات المقبلة، أما الجزء الآخر، المتمثل بالفصائل المسلحة، فيرى أن ما حصل تسبب في انهيار قواعده التي بنيت على أساس شعار مناوأة واشنطن”.
التعديل الوزاري ومزيد من الانشقاقات
ولعل ما تسبب في نشوء توتر في المرحلة الحالية، بحسب الشريفي، هو دخول فترة “تنفيذ الشروط الأميركية”، مبيناً أن هذا الأمر تمثل بـ”مطالبة السفيرة الأميركية بالإصلاح الوزاري ما سيشمل بما لا يقبل الشك الوزارات المسيطر عليها أو المدعومة من قبل الفصائل المسلحة”. وتابع الشريفي أن التعديل الوزاري الذي تطالب به واشنطن “أدى إلى مزيد من الانشقاقات داخل أروقة الإطار التنسيقي للقوى الشيعية”.
المسلحة داخل منظومة السلطة في العراق في الفترة الحالية عند هذا الحد، إذ رأى الشريفي أن الإشكالية الأخرى تتعلق بـ”مطالبات حل الحشد الشعبي”، وهو الأمر الذي “سيجعل الفصائل المسلحة في حال انهيار تامة إذا ما تم تحقيقه”، ويبدو أن كل تلك العوامل ستؤدي في النهاية إلى “رفع منسوب الأزمة، وربما تصل إلى الصدام بين السوداني الذي يتماهى مع تنفيذ الشروط الأميركية والفصائل الرافضة”. ولفت الشريفي إلى أن ذهاب السوداني نحو تنفيذ هذه الشروط “سيعزز رصيده عند واشنطن”، واستبعد أن يتم تحويل الصراع إلى صدام مباشر أو حتى ضرب المصالح الأميركية في العراق، خصوصاً أن “قادة الميليشيات باتوا يدركون عدم القدرة على المناورة الميدانية في المرحلة الحالية”. وختم الشريفي أن ما يجري يعطي انطباعاً واضحاً بأن الميليشيات المسلحة باتت في مرحلة ضمور الأمر الذي يعلل “سلوكها المنفعل هذه الفترة” نتيجة “خسارتها الدعم الإقليمي وعلاقتها بطهران وانهيار شعاراتها”.
محاولة للحفاظ على شعارات “المقاومة”
في المقابل، استبعد مراقبون أن يكون بيان الفصائل المسلحة ينطوي على تهديدات فعلية للمصالح الأميركية في العراق. وقال المتخصص في العلوم السياسية هيثم الهيتي إن ما يجري من محاولات تصعيد من قبل الجماعات الموالية لإيران لا يتعدى كونه محاولة لـ”رفع الحرج عن شهر العسل الطويل الذي تعيشه هذه الجماعات مع واشنطن”. وأضاف أن الفترة الحالية في العراق تشهد حضوراً بارزاً للسفيرة الأميركية في بغداد مع قادة الأحزاب الموالية لإيران، وهذا الأمر يعني أن واشنطن باتت تلعب دوراً رئيساً في “صناعة التوازن وإدارة التوافقات حتى داخل أروقة الإطار التنسيقي”. وأشار إلى أن ما يجري في الفترة الحالية لا يعدو كونه “محاولة للحفاظ على الشعارات التي تطلقها تلك الجماعات أمام الرأي العام، ولن يقدم أحد على التصعيد مع واشنطن”.
رسالة سياسية
ومنذ تشكيل حكومة السوداني، في أكتوبر 2022، تشهد الساحة العراقية هدوءاً أمنياً خصوصاً في ما يتعلق بتصعيد الجماعات الموالية لإيران إزاء واشنطن ومصالحها في العراق، لا سيما بعد لقاءات عدة جمعت السفيرة الأميركية مع عدد من قادة “الإطار التنسيقي”، وتدفع هذه المعطيات مراقبين إلى التقليل من شأن التهديدات التي أطلقتها الفصائل المسلحة، فيما يرى آخرون أنها لا تتعدى سوى محاولة إرسال الرسائل لأطراف محلية ودولية للحصول على مكاسب.
ورأى المتخصص في العلوم السياسية عصام الفيلي أن “الإطار التنسيقي” ليس كتلة متماسكة تحمل مشروعاً موحداً، إذ إنها تشكلت على أساس مواجهة مشروع “التيار الصدري”، ولذلك بدأت الانشقاقات بالظهور مع كل أزمة، وعلى رأسها الموقف من العلاقة مع واشنطن، واستبعد الفيلي أن تكون التهديدات التي تطلقها الفصائل المسلحة حقيقية، مشيراً إلى أن ما يجري لا يخرج من إطار “البروباغندا الدعائية لتلك الفصائل التي تدرك أن أية محاولة للتصعيد ضد واشنطن في الفترة الحالية ستفضي إلى إشكالات كبيرة لها، وعلى رأسها عودة ملاحقة قادة تلك الجماعات”، ولعل ما يعزز احتمال أن يكون هذا التصعيد في خطاب الميليشيات “مجرد رسالة سياسية” بحسب الفيلي، هو استبعاد احتمال أن تقدم أي من تلك الجماعات على أي تحركات “تقوض التفاهمات الإيرانية – الأميركية بخصوص العراق”. وأشار إلى أن مفاد الرسالة التي تحاول الفصائل المسلحة إيصالها إلى واشنطن هو “تخفيف حدة الإجراءات التي تنوي اتخاذها في شأن العراق”.
ولم تصدر الحكومة العراقية أي تعليق على بيان الفصائل المسلحة حتى الآن.
اندبندت عربي