أُصيبت المبادرة الفرنسية بنسختها الجديدة مع الموفد الرئاسي جان إيف لودريان بتأجيل إضافي في الاجتماع الأخير للمجموعة الخماسية (المملكة العربية السعودية وقطر ومصر وفرنسا والولايات المتحدة). فهي أجّلت وضع إطار لحلّ أزمة الشغور الرئاسي في لبنان وتنفيذ إصلاحات اقتصادية ضرورية، فأدّى ذلك إلى تأجيل زيارة لودريان لبيروت إلى أجل غير مسمّى، بعدما كانت مقرّرة خلال اليومين المقبلين.
يطابق مضمون بيان المجموعة الخماسية البيان الصادر عن اجتماع البرلمان الأوروبي في 12 تموز الجاري الذي تطرّق بشكل أكثر تفصيلاً إلى حيثيّات تقع في صلب الأداء السياسي السيّء للسلطة في لبنان، بالإضافة إلى مقاربة موضوع اللاجئين السوريين.
هذا على الرغم من الاختلاف بين موجبات المقاربة الأوروبية المستندة إلى مجموعة تقارير ومعطيات مستقاة من موفدين دوليين أو منظمات غير حكومية، أو إلى نداءات وكتب رفعتها إلى البرلمان الأوروبي جهات لبنانية سياسية أو ممثّلون عن المجتمع المدني، وبين طبيعة وموجبات المهمّة التي تقوم بها اللجنة الخماسية الممثِّلة لدول مؤثّرة ومعنيّة بالوضع اللبناني لجهة القدرة على استيعاب التناقضات الإقليمية المحيطة وإيجاد السبل للخروج من الأزمة.
أُصيبت المبادرة الفرنسية بنسختها الجديدة مع الموفد الرئاسي جان إيف لودريان بانتكاسة إضافية مع فشل الاجتماع الأخير للمجموعة الخماسية
لكنّ القاسم المشترك لِما ورد في البيانَيْن لم يتجاوز التوصيف الذي أصبح معروفاً والمتعلّق بالإصلاحات الإدارية والاقتصادية، ولا سيّما تلك التي يوصي بها صندوق النقد الدولي، وتلك القضائية لجهة التحقيق في تفجير مرفأ بيروت، إضافة إلى التشديد على أهمية تنفيذ الحكومة اللبنانية قرارات مجلس الأمن الدولي والاتفاقيات والقرارات الدولية الأخرى ذات الصلة، بما في ذلك تلك الصادرة عن جامعة الدول العربية، والالتزام بتنفيذ وثيقة الوفاق الوطني. وهذا يتقاطع أيضاً مع البيان الثلاثي الصادر من نيويورك عن السعودية وفرنسا وأميركا، في أيلول الماضي، لجهة الدعوة إلى تنفيذ القرارات الدولية وحماية اتفاق الطائف وتنفيذ الإصلاحات. ما يعني أنّ هناك إجماعاً دولياً حول هذه النقاط.
اللحظة الإقليمية لم تنضج
تؤكّد المقاربة الأوروبية الاستعداد والجاهزيّة لمواكبة ودعم أيّة إجراءات دولية قد تُتّخذ لإخراج لبنان من أزمته السياسية والاقتصادية. فيما يؤكّد إحجام بيان اللجنة الخماسية عن التطرّق إلى أيّة إجراءات متقدّمة أنّ اللحظة الإقليمية المناسبة لانطلاق مسار الخروج نحو التسوية لم تحِن بعد، وأنّ التطوّرات التي شهدتها الحدود الجنوبية في منطقة مزارع شبعا أو في الداخل اللبناني شمال قرية الغجر السورية المحتلّة وتعثُّر مسار البحث في عودة اللاجئين السوريين ليست سوى مؤشّرات لتأكيد استحالة إيجاد أيّة حلول للأزمة اللبنانية من دون الأخذ بعين الاعتبار المصالح السورية والإيرانية ومن دون المرور عبر طهران ودمشق.
العقبة السورية الإيرانية في وجه أيّ مسار لحلّ الأزمة اللبنانية يعبّر عنها حلفاؤهما في لبنان من خلال التمسّك بالوزير السابق سليمان فرنجية مرشّحاً وحيداً لرئاسة الجمهورية تحت شعار “حماية المقاومة”. وقد يكون فشل رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني في تحقيق أيّ اختراق على صعيد مكافحة تهريب المخدّرات وتحرّكات الميليشيات عبر الحدود العراقية السورية ومسألة اللاجئين، هو الإسقاط الإقليمي لموقف دمشق، ودليلاً على إقفالها أبواب التفاوض في أيّ من تداعيات الأزمة السورية المتّصلة بأمن الدول المجاورة.
هكذا تحوّلت ملفّات الحدود المتّصلة بالمخدّرات أو بنشاط الميليشيات وملفّ اللاجئين إلى أوراق تفاوض بيد دمشق وطهران، وأصبحت خارج الممكن اللبناني مقاربة الأزمة اللبنانية من بوّابة حثّ المجلس النيابي على تطبيق الدستور والتسريع في إجراء الانتخابات الرئاسية ومطالبة الحكومة بتنفيذ قرارات مجلس الأمن، ومنها القرارات 1701 و1559. وباتت دعوة المؤسّسات الدستورية إلى إجراء الإصلاحات الإدارية ووقف الفساد واستباحة المال العامّ من قبيل أشبه بالطلب إلى قوى الأمر الواقع التخلّي عن امتيازاتها ومقوّمات استمرارها ودورها في التموضع الإقليمي القائم.
يؤكّد إحجام بيان اللجنة الخماسية عن التطرّق إلى أيّة إجراءات متقدّمة أنّ اللحظة الإقليمية المناسبة لانطلاق مسار الخروج نحو التسوية لم تحِن بعد
يؤكّد الستاتيكو الإقليمي أنّ محاولة إيجاد مسار سياسي داخلي لحلّ الأزمة اللبنانية بكلّ أشكالها هي إصرار على السير بعكس المسار المنطقي للتشكّل التراكمي لهذه الأزمة، وبشكل أدقّ هي محاولة لإيجاد حلول للأزمات الإقليمية انطلاقاً من الساحة اللبنانية، وهي محاولة عبثية من خارج المنطق للبحث عن ثابت لبناني بين مجموعة من المتغيّرات الإقليمية. وفي هذا تكرار لاستحالات يعيشها العراق واليمن وربّما سوريا إذا ما استثنينا موقف النظام المتحالف مع طهران.
يمكن الخروج من هذه الاستحالات؟
المتغيّرات الإقليمية، وفي مقدَّمها الانفتاح بين تركيا ودول الخليج العربي ومصر بأبعاده الاقتصادية والأمنيّة، إلى جانب الاهتمام الدولي، لا سيّما الصيني والهندي، بالاستثمار وبناء علاقات واتفاقات استراتيجية في الشرق الأوسط… قد تفتح أكثر من فرصة لتهيئة مناخات جديدة وقواعد جديدة للعلاقات الإقليمية ولترجمة فائض النفوذ لدى دول الإقليم، لا سيّما إيران، في مجالات مختلفة عن النموذج الميليشياوي المعروف.
إقرأ أيضاً: ما بعد الدوحة: أصداء التشدد الأميركي ضد النفوذ الإيراني
فهل تستغلّ دول المنطقة الانهماك الأميركي في الحرب الدائرة في أوكرانيا والتصعيد المتزايد في بحرَيْ الصين واليابان لبناء توجّه إقليمي جديد؟ أم هي فترة من الترقّب الحذر تستوجب تفجير خطوط التماسّ القائمة في لحظة مناسبة لاختبار خرائط النفوذ القائمة أو لتحسينها؟ وهل تأخذ المجموعة الخماسية بعين الاعتبار مخاطر ما توفّره الساحة اللبنانية من عناصر ملائمة لهذا الاختبار؟
أساس ميديا