مشكلة الكهرباء في العراق (الجزء الثاني): تداعيات الاتفاق الجديد للنفط مقابل الغاز مع إيران

مشكلة الكهرباء في العراق (الجزء الثاني): تداعيات الاتفاق الجديد للنفط مقابل الغاز مع إيران

تأمل بغداد في تجنب انقطاع التيار الكهربائي، وحدوث اضطرابات سياسية، وفرض عقوبات أمريكية من خلال التوصل إلى اتفاق مقايضة مع طهران، لكن الاتفاق يثير العديد من الأسئلة.

في 11 تموز/يوليو، وقّعت بغداد وطهران اتفاقاً يسمح للعراق بدفع ثمن الغاز الطبيعي الذي يستورده من إيران من خلال نقل النفط. ويهدف الاتفاق على ما يبدو إلى منع بغداد من انتهاك العقوبات الأمريكية في إطار سعيها لحماية قطاع الكهرباء العراقي الذي لا يزال هشاً للغاية ويعتمد على إيران (لمزيد من المعلومات حول مشاكل القطاع، انظر الجزء الأول من هذا المرصد السياسي). ومع ذلك، من غير الواضح ما إذا كان الطرفان قد توصلا إلى حل العديد من التعقيدات التجارية واللوجستية التي تترافق مع تنفيذ مثل هذه الخطة.

لماذا العمل على إبرام اتفاق حالياً؟
يستورد العراق في عزّ فصل الصيف 70 مليون متر مكعب من الغاز الإيراني في اليوم لتغذية محطات توليد الكهرباء في البلاد، ويولّد نحو 5000 ميغاواط من الكهرباء بهذه الإمدادات. ويعني هذا التدفق، إلى جانب عمليات الشراء المباشرة للكهرباء من إيران، أن طهران تلبي 40 في المائة من احتياجات العراق من الكهرباء بتكلفة 4 مليارات دولار سنوياً.

ولكن غالباً ما تخفض إيران إمدادات الغاز للعراق، ويساهم ذلك في بعض الانقطاع في التيار الكهربائي والاستياء العام والمشاكل السياسية. وتعزى بعض هذه التخفيضات إلى الطلب المحلي الإيراني، ولكنها تعود في حالات أخرى إلى رغبة طهران في ممارسة النفوذ وإلى تأخر بغداد في السداد. ويدين العراق حالياً لإيران بـ 12 مليار دولار مقابل واردات الغاز والطاقة، وقد تم إيداع مدفوعات هذا الرصيد في حساب في “المصرف العراقي للتجارة”. ولكن لا يمكن لطهران الوصول إلى هذه الأموال دون إعفاءات من العقوبات الأمريكية المختلفة ضد الكيانات الحكومية الإيرانية. ويسمح اتفاق المقايضة الجديد لبغداد بتجنب هذه الصعوبة والدفع بواسطة النفط.

وتشمل أسباب السعي وراء هذا الاتفاق الصعوبة التي واجهها العراق في تلبية متطلبات واشنطن بهدف الإعفاء من العقوبات. ويوضح الجزء الأول أن الإعفاءات المتعلقة بواردات الغاز مشروطة جزئياً بإحراز بغداد تقدم في تحقيق هدفين رئيسيين هما الاستقلالية عن إيران في مجال الطاقة وتقليل كمية الغاز المهدور عن طريق الحرق خلال إنتاج النفط. وشددت إدارة ترامب على الهدف الأول، بينما ركزت إدارة بايدن بصورة أكثر على الانبعاثات الناتجة عن حرق الغاز.

وتتخذ بغداد بعض الخطوات لتلبية هذه الشروط، مثل التوقيع مؤخراً على اتفاق لاحتجاز الغاز والطاقة الشمسية مع شركة “توتال إنرجيز”، وتطوير “شركة غاز البصرة” مع شركتَي “شل” و”ميتسوبيشي”، وتوسيع حقل “خور مور” للغاز في “إقليم كردستان العراق” في إطار مشروع يتضمن تمويلاً أمريكياً بقيمة 250 مليون دولار وتعاوناً مع كونسورتيوم “بيرل بتروليوم” بقيادة الإمارات العربية المتحدة. كما أطلق العراق جولة سادسة من منح التراخيص لحقول الغاز، وغيّر نموذج عقوده مع شركات النفط، وشرع في خطط لربط شبكة الكهرباء العراقية مع الأردن و”مجلس التعاون لدول الخليج العربية”، واستعان بشركة “سيمنز” لاستخراج المزيد من القوة الكهربائية من توربيناته الحالية عندما خفضت إيران إمدادات الغاز في وقت سابق من هذا الشهر.

ولكن على الرغم من هذه الخطوات الجديرة بالثناء، أكد رئيس الوزراء محمد السوداني في 11 تموز/يوليو بأن على العراق بذل جهود إضافية على هذه الجبهات وأنه سيظل بحاجة إلى ثلاث سنوات أخرى على الأقل لتحقيق الاستقلالية عن الغاز الإيراني. وفي الواقع، لم تستثمر بغداد بشكل كبير في استغلال احتياطاتها الهائلة من الغاز، أو احتجاز الغاز المهدور خلال إنتاج النفط، أو تطوير خطوط أنابيب الغاز، أو تطوير التسييل. وأدت الأسباب المتنوعة وراء هذا الفشل – من البنية التحتية غير الكافية وإلى سوء الإدارة والفساد المزمن – إلى عقد اتفاق مقايضة جديد يحمل بدوره علامات استفهام كثيرة.

الشيطان يكمن في التفاصيل
يتمحور أحد الأسئلة الأكثر إلحاحاً بشأن اتفاق النفط مقابل الغاز حول كيفية تحديد الأسعار. وقد أشار مسؤول عراقي بعيداً عن الأضواء أن النفط سيُمنح لإيران بالأسعار الدولية. ولكن إيران تبيع الغاز للعراق بسعر أعلى من أسعار السوق وتبيع النفط للصين بسعر أقل من أسعار السوق. وفي الحالة الأخيرة، إيران مستعدة لدفع هذه التكاليف الباهظة للمعاملات من أجل تسهيل صادراتها النفطية غير المشروعة. ولكنها قد تخسر المزيد من الأموال إذا حاولت إعادة تصدير النفط العراقي أو استخدامه محلياً. ويشمل الاتفاق أيضاً زيت الوقود، وبالتالي يمكن لطهران تعويض بعض الخسائر المحتملة باستخدام هذه الإمدادات لأغراض صناعية محلية.

ويثير الاتفاق أسئلة أخرى ملحة أيضاً: من أين سيحصل العراق على النفط وكيف سيتم نقله؟ ينطوي أحد الخيارات على نقله بالشاحنات من “إقليم كردستان العراق”، حيث توقف منذ أشهر تصدير الجزء الأكبر من إنتاج المنطقة البالغ 450 ألف برميل يومياً. ففي آذار/مارس، دفع نزاع قانوني تركيا إلى إغلاق خط الأنابيب الذي ينقل نفط “إقليم كردستان العراق” إلى ميناء جيهان على البحر المتوسط (غالباً لإعادة شحنه إلى إسرائيل). ويمكن أن يساعد نقل هذا النفط إلى إيران “إقليم كردستان العراق” في تخفيف بعض مشاكله الداخلية، وتوطيد علاقاته مع بغداد ، وتهدئة مخاوف أربيل من توغل عسكري إيراني. وفي الماضي، قضت صفقة تبادل مماثلة بنقل النفط العراقي بالشاحنات إلى مصافي تكرير إيرانية بالقرب من الحدود.

وإذا افترضنا أن الأطراف يمكن أن تعمل على حل هذه القضايا، فهل سيحافظ اتفاق المقايضة على استقراره؟ إذا تبيّن لطهران أن العراق يحاول حقاً وقف اعتماده على الغاز والكهرباء الإيرانيَين، فقد يحاول النظام الإيراني تخريب هذه الخطة من خلال تكتيك استخدمه سابقاً، وهو التأثير على مجلس النواب العراقي لتحويل مسار مخصصات الميزانية بعيداً عن مشاريع الطاقة. وبالمثل، تمكنت إيران، من خلال مهاجمة أصول شركات النفط الأجنبية بانتظام، من ردع الاستثمار وإبطاء التقدم عندما رأت ذلك مناسباً – وهو تهديد ستأخذه بغداد على محمل الجد نظراً لأن سوء إدارتها قد أعاق أساساً استثمارات شركات النفط الكبرى مثل “شل” و “إكسون”. ويمكن أيضاً أن يعاود الفساد العراقي البروز مجدداً، بما أن نقل النفط إلى إيران سيشمل على الأرجح أفراداً وشركات مرتبطة بالميليشيات وجماعات الجريمة المنظمة.

باختصار، لا بد من أن تعالج بغداد الكثير من المشاكل لإنجاح هذه الخطة، وحتى لو نجحت، ليست هناك ضمانة على أن إدارة بايدن ستقبل ببساطة بالترتيب وتصدر إعفاءات من العقوبات. وقد تكون الحكومة العراقية قادرة على تجنب العقوبات المباشرة، لكن شركات النفط الأجنبية لن تكون محصنة بشكل تلقائي – وهو احتمال مقلق بشكل خاص إذا كان العراق يهدف إلى مقايضة النفط من “إقليم كردستان العراق”، حيث تعمل العديد من الشركات الأجنبية. وربما قد يرمي الاتفاق إلى أن يكون تكتيكاً عراقياً إيرانياً مشتركاً للضغط على واشنطن من أجل السماح لطهران بالوصول إلى أموالها المجمَّدة.

مفاجأة لواشنطن؟
لعل اتفاق النفط مقابل الغاز قد أخذ واشنطن على حين غرة، وبالتالي، حتى لو مالت إدارة بايدن أساساً إلى دعمه، فقد ترغب مع ذلك في الحصول (ويجب أن تسعى بالتأكيد للحصول) على أجوبة من رئيس الوزراء محمد السوداني قبل الموافقة بالكامل عليه. وقد يفترض ذلك تحقيق توازن مألوف بين أهداف متضاربة أحياناً. على سبيل المثال، تركز واشنطن على أهدافها الطويلة الأمد المتمثلة في تحقيق الاستقرار في العراق، وتأمين أكبر قدر من الاستقلالية لبغداد عن إيران، وسد الثغرات لجعل التهرب من العقوبات أكثر صعوبة على طهران. ولكن في السياق المباشر لأزمة الكهرباء في الصيف، قد يتطلب الاستقرار التقرب أكثر من إيران، وليس الابتعاد عنها.

ويواجه السوداني توازن مماثل بين الوقائع المتضاربة والضغوط. وعلى الرغم من أنه يريد على ما يبدو توسيع مجال مناورته السياسية لاتخاذ إجراءات باستقلالية عن إيران، فهو يدرك أنه إذا تجاوز حدوده بكثير، فبإمكان طهران استخدام وكلائها في صفوف القوات المسلحة العراقية والحكومة العراقية لتقويضه. وهو بصورة أدق بحاجة ماسة فعلياً إلى المزيد من الغاز الإيراني، ولا يمكنه الحصول عليه مجاناً.

لهذا السبب ربما تصرف على ما يبدو دون أن يسأل واشنطن – إما أنه كان يخشى أن تكون إجابتها بـ “كلا” أو أعتقد أن الإدارة الأمريكية ستكون بطيئة للغاية في التصرف. وفي المرحلة القادمة، قد يحاول استخدام اتفاق “توتال إنرجيز” لإظهار أنه يبذل جهداً حقيقياً لوقف اعتماد العراق على الغاز الإيراني، وفي الوقت نفسه، قد يوضح لواشنطن أن وقف هذا الاعتماد فجأة ليس خياراً مطروحاً إلا إذا أرادت إدارة بايدن أن تشهد على انهيار البلاد.

وقد يشير السوداني أيضاً إلى أنه يتعرض لضغوط من إيران لدفع فاتورة الغاز التي تأخر سدادها. وبما أن واشنطن لن تسمح لطهران بسحب هذه المدفوعات من “المصرف العراقي للتجارة”، فلم يكن أمامه خيار سوى السعي إلى اتفاق مقايضة. وتُعتبر هذه الحجج ذات مصداقية نظراً لسلوك إيران السابق – بعد أن سمحت إدارة بايدن لبغداد بتحرير 2.7 مليار دولار من الأموال الإيرانية للتجارة الإنسانية، عمدت طهران مع ذلك إلى قطع إمدادات الغاز عن العراق. وعلى الرغم من هذا النفوذ الإيراني المؤكد، لا يزال مسؤولو الإدارة الأمريكية مترددين في منح المزيد من الإعفاءات لعمليات السحب من “المصرف العراقي للتجارة” (في الثامن عشر من تموز/يوليو، أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية عن إعفاء جديد مدته 120 يوماً يسمح لبغداد بدفع ثمن الكهرباء لطهران عبر البنوك غير العراقية، على الرغم من وجود قيود مختلفة قد تحد من هذا المسار أيضاً). ومن ثم، فمن المرجح أن يوافق البيت الأبيض على اتفاق المقايضة في النهاية، حتى لو كان ذلك فقط لتجنب زيادة عدم الاستقرار في العراق خلال انقطاع الكهرباء في الصيف.

ولكن لا يزال يتعين على المسؤولين الأمريكيين استخدام نفوذهم لوضع خطة متفق عليها لوقف اعتماد العراق على الغاز الإيراني، بما في ذلك معالم واضحة، وربما فترات إعفاء أقصر مدة (على سبيل المثال، العودة إلى فترات 60 أو 30 يوماً التي مُنحت خلال إدارة ترامب). وبالطبع، سيكون من الصعب تحديد هذا الجدول الزمني. ولكن ما لم تتماشى ترتيبات المقايضة الجديدة مع استراتيجية أوسع نطاقاً لتعزيز قدرة الحكومة العراقية على العمل بشكل مستقل عن إيران، فستواجه بغداد وشركاؤها الدوليون مراراً وتكراراً أزمة تعود بالفائدة على طهران.

بلال وهاب

معهد واشنطن