دشّنت الجولة التي أجراها هذا الأسبوع الرئيس التركي رجب طيب اردوغان على كل من السعودية وقطر والإمارات حقبة جديدة في العلاقات بين تركيا والخليج. فبعد ما يقرب من عامين على إصلاح أنقرة علاقاتها مع الرياض وأبو ظبي عقب سنوات من التوترات، وبعد فوز اردوغان بولاية رئاسية جديدة، تؤكد هذه الجولة وما تضمّنتها من إبرام اتفاقيات عديدة في مجالات مختلفة أن تركيا وكل من السعودية والإمارات قررت نقل العلاقات من مرحلة المصالحة إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية. وكانت زيارة اردوغان لقطر بمثابة تحصيل حاصل لعمق الشراكة الاستراتيجية القائمة بين البلدين منذ سنوات. وإذا كان هناك من شيء يُمكن أن يُفسر بوضوح السرعة التي انتقلت بها علاقات أنقرة مع الرياض وأبو ظبي من البرودة التي امتدت لسنوات ولم تخل من بعض الاضطرابات الكبيرة، إلى الدفء فهو البراغماتية والاقتصاد. وبالطريقة التي استخدم بها اردوغان وكل من الرئيس الإماراتي الشيخ محمد بن زايد وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان البراغماتية والاقتصاد كبوابة لإصلاح العلاقات في العامين الأخيرين، فإن قادة الدول الثلاث يستخدمون الاقتصاد لإعادة تشكيل العلاقات ونقلها إلى مستوى الشراكة الشاملة.
تحديات اقتصادية كبيرة
حقيقة أن جولة اردوغان الخليجية جاءت في وقت تواجه فيه تركيا تحديات اقتصادية كبيرة وتسعى لإعادة جذب الاستثمارات الأجنبية ورؤوس الأموال للحد من تدهور عملتها ومكافحة التضخم المرتفع، وسلّطت الضوء بشكل أكبر على الأبعاد الاقتصادية في العلاقات التركية الخليجية الجديدة. ويأمل اردوغان من خلال الاتفاقيات العديدة التي أبرمها في الجولة، ومن ضمنها اتفاقيات مع الإمارات تُقدر وحدها بنحو خمسين مليار دولار أمريكي ضخ دول الخليج استثمارات فورية في الاقتصاد التركي تُقدر بنحو عشرة مليارات دولار مبدئياً في أصول محلية ورفع مستوى هذه الاستثمارات فيما بعد إلى 30 مليار. علاوة على ذلك، يتطلع اردوغان إلى توفير الأرضية السياسية المناسبة للشركات التركية من أجل الاستثمار الواسع في الدول الخليجية الثلاث على وجه الخصوص. تُشير مرافقة أكثر من مئتي رجل أعمال تركي لاردوغان في الجولة إلى الاهتمام المتزايد لقطاع الأعمال التركي بانخراط واسع في الدول الخليجية التي تعمل على تنويع اقتصاداتها وتطوير صناعاتها. وتتنوع مشاريع الاستثمارات المشتركة بين تركيا والخليج بين مجالات الطاقة المتجددة والزراعة والغذاء والتقنيات الرقمية والتجارة الإلكترونية والتكنولوجيا المالية والتمويل والسياحة والإسكان والخدمات اللوجستية.
إلى جانب الاستثمارات، تسعى تركيا إلى رفع مستوى التبادل التجاري مع منطقة الخليج. فرغم المكانة الاقتصادية المهمة التي تتمتع بها تركيا ودول الخليج، إلا أن حجم التبادل التجاري بين الطرفين لا يزال متواضعاً نسبياً. ووصل حجم التبادل التجاري بين تركيا والسعودية العام الماضي 6 مليارات دولار. وهدف تركيا هو رفع هذا الحجم إلى 10 مليارات على المدى القريب و30 مليارا على المدى الطويل. بالنسبة لقطر، يبلغ حجم التبادل التجاري حالياً 2.2 مليار دولار. والهدف هو زيادة هذا الحجم إلى 5 مليارات دولار. وفيما يتعلق بالإمارات، فهي بالفعل أكبر شريك تجاري لتركيا في الخليج حيث يبلغ حجم التبادل التجاري حالياً 10 مليارات دولار، لكن البلدين يسعيان إلى رفعه لمستويات أعلى. وفي حال نجح اردوغان في تحقيق الأهداف الاقتصادية التي وضعها في جولته الخليجية، فإن الاستثمارات الخليجية الموعودة ستمنحه دفعة قوية لإنجاح سياسته الاقتصادية الجديدة. ولا يقل الاهتمام الخليجي برفع العلاقات الاقتصادية والتجارية مع تركيا عن اهتمام اردوغان. فالاقتصاد التركي من بين أحد أقوى الأسواق الناشئة في العالم والاستثمار فيه يُساهم في تعزيز التكامل الاقتصادي بين الخليج وتركيا.
تعزيز الاستقرار
جاءت جولة اردوغان في الوقت الذي تحتفل فيه تركيا بالذكرى الخمسين لإقامة العلاقات الدبلوماسية مع كل من الإمارات وقطر. وأصدرت أنقرة والدوحة خلال زيارة اردوغان لقطر إعلاناً مشتركاً وقعه وزيرا الخارجية التركي هاكان فيدان ونظيره القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن جاسم آل ثاني تعهدا فيه بتعزيز العلاقات في جميع المجالات. رغم أن قطر كانت من أقوى الشركاء الاستراتيجيين الخليجيين لتركيا في السنوات الماضية، إلا أنها تنظر الآن إلى العلاقات الجديدة بين تركيا وكل من السعودية والإمارات على أنها تُساعد في تعزيز الاستقرار بين دول الخليج. ولعبت تركيا دوراً حيوياً في مساعدة الدوحة على مواجهة المقاطعة التي فرضتها في عام 2017 السعودية والإمارات والبحرين ومصر عليها.
الصناعات الدفاعية
وتُعطي الاتفاقيات العديدة التي أبرمها اردوغان أثناء زيارته للسعودية، والتي تضمنت بيع الرياض طائرات مسيرة تركية في أكبر صفقة دفاعية في تاريخ تركيا، لمحة عن الشراكة الجديدة الناشئة بين أنقرة والرياض. لقد استخدمت تركيا صعودها الكبير في مجال الصناعات الدفاعية لا سيما الطائرات المسيرة، التي غيّرت من مسار العديد من الصراعات في الأعوام الماضية مثل قره باغ وليبيا وجزئياً سوريا، كوسيلة لتعزيز علاقاتها بحلفائها وبناء شراكات مع خصوم سابقين مثل السعودية والإمارات. وكانت أبو ظبي سباقة في التركيز على الصناعات الدفاعية التركية والاستثمار فيها. وبالمثل، أبرمت الكويت مؤخراً صفقة لشراء مجموعة من الطائرات المسيرة التركية. في الوقت الذي تعمل فيه دول الخليج على تنويع شراكاتها الخارجية وتقليل اعتمادها الأمني على الولايات المتحدة الأمريكية التي لم تعد تُبدي رغبة في مواصلة الدور الذي لعبته في المنطقة والخليج خصوصاً على مدى عقود، فإن تركيا تُقدم نفسها للخليج الآن على أنها شريك يُمكن الاعتماد عليه في المجالات الأمنية.
في الواقع، عكست جولة اردوغان الخليجية أمرين مُهمين، الأول الرهانات المرتفعة التي يضعها على العلاقات الجديدة مع منطقة الخليج لمواجهة الاضطرابات الاقتصادية التي تُمثل أكبر تحد له في ولايته الرئاسية الجديدة، والثاني الكيفية التي عمل بها الاقتصاد في إعادة تشكيل العلاقات السياسية بين أنقرة وخصومها الخليجيين السابقين. وتعمل الرياض وأبو ظبي بشكل متزايد على استثمار قوتهما الاقتصادية الناعمة لدفع اردوغان إلى التخلي عن سياسته الإقليمية السابقة والتركيز على المنافع التي سيجنيها من وراء العلاقة الجيدة معهما لا سيما في المجالات الاقتصادية والتجارية. ومع ذلك، فإن الاقتصاد لم يكن سوى أحد الدوافع التي أدت إلى هذا التحول في العلاقات التركية الخليجية خلال العامين الأخيرين. علاوة على أن التنافس الحاد الذي دخلته تركيا مع السعودية والإمارات على مدى العقد الماضي أوصل العلاقات التركية الخليجية إلى مأزق استفادت منه قوى إقليمية أخرى منافسة للطرفين مثل إيران، فإن المنطقة تعيش عملية خفض تصعيد إقليمي واسع النطاق منذ عامين. ولم تعد سياسات التنافس السابقة جذابة في أنقرة والخليج عموماً. كما أن التنافس الجيوسياسي الجديد بين القوى الكبرى منح هامشاً للقوى المتوسطة مثل تركيا والخليج للتركيز على سبل إعادة ترميم العلاقات بينهما والبحث عن سبل لتهدئة التوترات الإقليمية التي أنهكت الطرفين في السنوات الماضية.
ظروف ملائمة لشراكة شاملة
عندما وصل الرئيس جو بايدن إلى السلطة، بدأت علاقات واشنطن والرياض وأبو ظبي تتراجع تدريجياً. يسود اعتقاد على نطاق واسع في الخليج بأن الولايات المتحدة قد تتخلى عن دورها في المنطقة قريباً بسبب تحول اهتماماتها الخارجية نحو التركيز على روسيا والصين. لقد دفع هذا الاعتقاد دول الخليج إلى العمل على تنويع شراكاتها الخارجية كوسيلة للتحوط من خلال تعزيز العلاقات مع قوى إقليمية ودولية لم يكن لديها تأثير قوي في الخليج سابقاً مثل تركيا والصين وروسيا. في العامين الأخيرين، بدأت تركيا انعطافة إقليمية واسعة لإعادة إصلاح علاقاتها مع دول خليجية ومصر وإسرائيل. وعكس هذا التوجه رغبة تركيا في أن تكون لاعباً أساسياً في النظام الجديد الذي يتشكل في الشرق الأوسط بهدف تعزيز مصالحها الأمنية في المنطقة وتعزيز تموضعها في المنافسة الجيوسياسية مع اليونان وقبرص الجنوبية في شرق البحر الأوسط. من المرجح أن تحظى الشراكة الجديدة الناشئة بين تركيا والخليج بترحيب في العواصم الغربية لا سيما واشنطن، طالما أن هذه الشراكة تُساعد الولايات المتحدة في مواصلة تخفيف ارتباطها بالمنطقة والاعتماد على حلفائها لإدارة شؤونهم الإقليمية باعتماد أقل عليها.
تبدو الظروف اليوم لإنشاء شراكة شاملة بين تركيا والخليج مناسبة على نحو كبير. فمن جانب، تكتسب هذه الشراكة أهمية اقتصادية لكلا الجانبين ومن جانب آخر، تخلق هذه الشراكة آفاقاً لتطويرها إلى شراكة جيوسياسية أيضاً. بالنظر إلى أن العامين السابقين شكّلا فترة اختبار لكل من أنقرة والرياض وأبو ظبي لاختبار الجدية في إصلاح العلاقات وإعادة ترميم الثقة على مستوى القادة، فإن فوز اردوغان بولاية رئاسية ثالثة يُشكل حافزاً قوياً للسعودية والإمارات للمضي قدماً في تطوير العلاقات الجديدة مع تركيا. مع أنه لا يزال من المبكر قياس التأثير المحتمل للعلاقات الجديدة بين تركيا والخليج على الوضع الإقليمي، إلا أن الأبعاد السياسية في جولة اردوغان أعطت لمحة عن هذه التأثيرات. كما أن التطورات التي طرأت على سياسات تركيا والخليج في العامين الأخيرين تُشير إلى تناغم متزايد في القضايا الإقليمية. في أعقاب زيارة اردوغان للسعودية، أصدر البلدان بياناً مشتركاً تطرّق إلى بعض القضايا الإقليمية مثل التأكيد على أهمية التزام إيران بسلمية برنامجها النووي والتعاون مع الوكالة الذرية، وأهمية استقرار أسواق الطاقة وضرورة التزام طرفي الصراع في السودان بوقف إطلاق النار والبناء على إعلان جدة، فضلا عن الدعم الكامل للجهود الأممية والإقليمية للتوصل إلى حل سياسي للأزمة اليمنية.
وتعمل التحولات التي طرأت على الوضع الإقليمي في العامين الأخيرين على مواءمة السياسات التركية والخليجية مع بعضهما البعض. وسبق أن توسطت قطر في ترتيب أول لقاء بين اردوغان ونظيره المصري عبد الفتاح السيسي على هامش افتتاح المونديال في الدوحة العام الماضي. ويُعتقد أن الإمارات، لعبت دوراً في تسهيل قنوات التواصل بين تركيا والنظام السوري. وفي الملف السوري، تبدو سياسات تركيا والخليج الآن أكثر تناغماً مقارنة بسنوات الصراع الماضية. في الوقت الذي أعادت فيه الرياض وأبو ظبي علاقاتهما الدبلوماسية مع دمشق، شرعت تركيا في حوار مع النظام برعاية روسية لإعادة إصلاح العلاقات. وفي حين أن أفق الحوار بين تركيا والنظام السوري لا يزال غير واضح، إلا أن التعاون بين أنقرة ودول الخليج في الملف السوري يُمكن أن يُساعد الطرفين في مواءمة مصالحهما. وفي العراق كما سوريا، تتداخل مصالح تركيا والخليج في نقطة رئيسية وهي الحد من النفوذ الإيراني في هذين البلدين.
القدس العربي