تؤتي التطورات الصناعية والعلمية والتقنية ثمارا واضحة في تركيا في السنوات الـ20 الماضية، وهو وضوح يأتي من حقيقة أنها تنعكس مباشرة في أرقام يمكن قياسها، بعيدا عن الكلام المرسل والدعاوى الجوفاء التي تتباهى بإنجازات لم تحدث.
وفي مواجهة هذا النجاح، نحن أمام حالة مملة ومكررة من التباهي الفارغ من قبل قوميين علمانيين لم يدقوا مسمارا واحدا أو يضعوا حجرا على حجر، في مسيرة إصلاح هذا البلد، ولم يكونوا يملكون الرؤية ولا كانوا يستطيعون، ولكنهم -رغم ذلك- يتشدقون جيئة وذهابا بأمجاد وهمية، في بلد حكموه 80 عاما فلم يكن لهم إنجاز سوى إقامة نظام سلطوي شمولي، وجعل تركيا بين أفقر دول العالم، وأكثرها غيابا عن الديمقراطية وحقوق الإنسان والحكم الرشيد، فضلا عن العلم والصناعة والتقنية.
هؤلاء الذين لم يتوقفوا عن محاولة غرس قومية منزوعة الرأس، أوجدوا مناخا تنافسيا مريضا، يتلبسه وهم أن النصر يتحقق في المباريات يمكن أن يتحقق إذا كلت لخصمك أقذع أنواع السباب وأنت واقف في المدرجات، ولا يعي هؤلاء أن النصر الحقيقي يتحقق لأولئك الذين يكونون في الملعب.
يفترض أن تكون القومية في أي أمة هي الفكرة التي تعتز بشعبها وقيمه ومعتقداته لا أن تعاديه وتتعالى عليه متبنية فهما غريبا للعلمانية.
ومن السخف والعبث إنتاج خطاب قومي يقوم على القطيعة الواضحة بين الأمة والدولة. كانت المحصلة الحتمية لهذه الممارسة هي دولة عرجاء بين دول العالم، خالية من الحريات وحقوق الإنسان، ينهدم فيها المسار الديمقراطي مرة كل 10 سنوات بتدخل مباشر، وهو دائما تحت الوصاية، مرة من نخبة أيديولوجية، وأخرى من نخبة عسكرية. بلد لم تكن له مزية تميزه، وقانونه خاضع للوصاية الأيديولوجية، والعلمانية تفرض كدين جديد واجب الاتباع، وسط تعليم جامعي منخفض، وحرية صحافة مقيدة.
كانت النتيجة بلدا لا يحقق نجاحا ولا يحمل صفة إيجابية، ولا يملك فضيلة يمكنه أن يقدمها للعالم، لكنه يروج لنفسه أنه أفضل من جميع أمم العالم، دعنا نكرر أن هناك من يحاولون التستر على ما فقدوه في الميدان بالكلمات الرنانة والشعارات الجوفاء.
ومع ذلك، فخلال فترة قصيرة لا تزيد على 20 عاما من حكم الرئيس رجب طيب أردوغان، تغير الحال، فقد افتتحت في تركيا 208 جامعات، ووصل معدل الالتحاق بالجامعة إلى أعلى مستوى في العالم حيث بلغ 8.5 ملايين طالب (10% من السكان). ومع الزيادة المنتظمة في الإنفاق على البحث والتطوير في القطاعين العام والخاص، قطعت تركيا خطوات كبيرة في مجالات لم يكن من الممكن تصورها من قبل، فأصبحت الدولة الـ12 في العالم في مجال صناعة الدفاع، وهي مرشحة لمزيد من الصعود في هذه القائمة لأن معدل نموها في هذا المجال أعلى من غيرها.
كشفت المنتجات التي عرضتها الشركات التركية في المعرض الدولي الـ16 للصناعات الدفاعية، الذي أقيم الأيام الماضية، عن الشوط الطويل الذي قطعته تركيا في وقت قصير. إذ أعلن جودت يلماز، نائب الرئيس، أن صادرات تركيا الدفاعية بلغت 2.5 مليار دولار في الأشهر الستة الأولى من العام، وستصل إلى 6 مليارات دولار في نهاية العام، وسترتفع إلى 10 مليارات دولار في العام القادم.
من الضروري أن ننظر إلى هذا المشهد متأملين كذلك ثقافة التكنوفست (المهرجان السنوي في تركيا للفضاء والتكنولوجيا) الذي أصبح يحظى بشعبية كبيرة منذ سنوات في البلاد تحت قيادة الإخوة بيرقدار (أصحاب شركة بايكار التي تنتج مسيرات بيرقدار). هذا مشهد يعيد إحياء الحلم بالجيل التركي المسلم المنشود، الذي يضع لنفسه هدفا واضحا يثير إعجاب ومتابعة “الجيل زد” الذي طالما ترددت الشكوى منه. إنه مشهد يجعلنا نستحق أن نشعر بالفخر كأمة، لأسباب ملموسة، لأول مرة منذ زمن طويل.
القضية، بالطبع ليست فقط الإنجازات التي تحققت في صناعة الدفاع، فهناك نجاحات في العديد من المجالات الأخرى، بما في ذلك الصحة والتعليم والنقل ودولة الرفاهية والبحث العلمي والديمقراطية وحرية التعبير. كل هذه يتغذى بعضها على بعض ويؤثر بعضها في بعض.
تعود تركيا إلى رشدها وتكسر قيود الوصاية الداخلية والخارجية. تاريخ تركيا، التي تعود إلى نفسها، يجد رموزه الثقافية الأصيلة، ويتمكن أخيرا من اكتشاف ذاته. والمحصلة النهائية لكل ذلك أن عادت تركيا إلى صدارة المشهد التاريخي. وأصبحت تملك أسبابا حقيقية للتباهي كأمة ذات إنجازات حقيقية، وتطور وتقدم ومكانة دولية لا يمكن تجاهلها عالميا.
الغريب والمضحك أن أولئك الذين لم يلعبوا دورا في تحقيق أسباب الفخر التي تملكها تركيا اليوم، بل على العكس هم من تركوها بلدا متخلفا طوال 80 عاما، أولئك أنفسهم هم من يبدون اليوم أكثر تغطرسا وعنصرية ممتطين صهوة نجاحات لا ناقة لهم فيها ولا جمل، ولا يتوقفون عن إمطارنا بالشعارات الجوفاء.
يحاول هؤلاء استغلال إنجازات العقدين الماضيين للترويج للعلمانية والتغريب وبقية نماذجهم القديمة الغامضة. وكأن ما تحقق كان وليد تلك النماذج، وهم في ذلك يقارنون تركيا بدول عربية ومسلمة أخرى، وينظرون إليهم بدونية، متجاهلين -أو محاولين إخفاء- حقيقة أن تركيا السابقة التي حكموها لم تكن تختلف عن الدول التي يتباهون بالتفوق عليها الآن. والحقيقة، أن تركيا لم تتطور إلا لأنها خرجت من المأزق الذي وضعوها فيه.
ليس لهؤلاء أي دور في نجاحات تركيا الحالية، ولا في صعودها إلى مكانة مميزة في دوري أمم العالم، بل إنهم من حاولوا باستمرار منع تطورها ونجاحها وانفتاحها. لو كان الأمر بيدهم، لما تعدت تركيا أن تكون بلدًا أفضل -قليلًا- من الأنظمة البعثية في الشرق الأوسط. وبالطبع، لن يكون لخطابهم العنصري الحماسي في ذلك الوقت الخالي من الإنجازات أرضية يقف عليها. أما اليوم، فهم يعتبرون العيش في هذا البلد الذي لم يشاركوا في نجاحه، مزية، ويحاولون تغذية دعاياتهم العنصرية من خلالها.
لقد تمكنت هذه البلاد إلى الارتقاء إلى المستوى الذي هي عليه لأنها تجاوزت أفقهم الضيق ومشاعرهم العنصرية وطموحاتهم البعثية. ولكن هؤلاء العراة من أي نجاح أو إنجاز أو مزية، لا يشعرون بالخجل وهم يواصلون تغذية مزاعمهم بالتفوق الفاشي، مستخدمين منزلة تركيا الحالية وما حققته لشعبها من تقدم ورفاه.
على مثل هؤلاء ينطبق المثل التركي: “جاء من الجبل ليسطو على حديقة العنب”.
الجزيرة