يمنح الاتفاق طهران إمكانية الوصول إلى الأموال المجمدة لأغراض إنسانية، مما يمهد الطريق على الأرجح لاستئناف المحادثات النووية هذا الخريف حيث يحاول الجانبان تخفيف التوترات.
في الثامن عشر من أيلول/سبتمبر، أنهت الولايات المتحدة وإيران عملية تبادل أسرى تضمنت إطلاق سراح خمسة أمريكيين محتجزين على خلفية تهم ملفقة في طهران. ومن جانبها، أطلقت واشنطن سراح خمسة مواطنين إيرانيين متهمين بانتهاك العقوبات وجرائم فدرالية أخرى (وقد اختار ثلاثة منهم عدم العودة إلى إيران). بالإضافة إلى ذلك، مُنحت إيران إمكانية الوصول إلى حوالي 6 مليارات دولار من الأموال التي كانت محتجزة سابقاً في كوريا الجنوبية.
ويُعد منح الوصول إلى الأموال الجانب الأكثر إثارة للجدل في الصفقة وقد أدى إلى موجة من المطالبات غير المحقة. وفي جوهره، سيسمح هذا الترتيب لإيران باستخدام أموالها الخاصة وقد يحسّن وصولها إلى بعض السلع الإنسانية، مثل الغذاء والدواء. لكن الاتفاق يثير أيضاً مخاوف أوسع نطاقاً حول الكيفية التي يمكن بموجبها لواشنطن أن تردع إيران وروسيا والصين ودول أخرى من اعتبار احتجاز الرهائن مشروعاً مربحاً.
أصل الـ 6 مليارات دولار
لدى واشنطن تاريخ طويل في ربط تحويل الأموال الإيرانية بإطلاق سراح طهران لرهائن، بما في ذلك في الأعوام 1981 و 1991 و 2016، مع تنفيذ الاتفاق النووي. وفي كل حالة، توصلت الولايات المتحدة إلى تسويات مالية مع إيران متعلقة بالنزاعات التي نشأت مع الثورة الإسلامية عام 1979، والتي كانت مرتبطة بشكل مباشر أو غير مباشر بالإفراج عن الأمريكيين المحتجزين كرهائن في إيران أو لبنان. وفي عدة حالات، تم إطلاق سراح الرهائن خلال إدارة ترامب دون الإفراج عن الأموال الإيرانية.
أما الأموال في كوريا الجنوبية فهي مختلفة. فبدلاً من الأموال المرتبطة بنزاعات تعود إلى أربعين عاماً، كانت هذه الأموال عبارة عن مدفوعات للمشتريات الأخيرة لكوريا الجنوبية من منتجات الطاقة الإيرانية، وخاصةالمكثفات، وظلت قابعة في مصرفين من مصارف كوريا الجنوبية. ومن الناحية النظرية، كان ينبغي لإيران أن تكون قادرة على استخدام تلك الأموال للمشتريات الإنسانية. ولكن من الناحية العملية، لم يكن من الممكن الوصول إلى الأموال لأن الحكومة والمصارف الكورية كانت قلقة بشأن التعرض للعقوبات الأمريكية.
وفي عهد إدارة ترامب، حاولت سيئول وواشنطن تنفيذ قناة دفع مقومة بالوون الكوري للتجارة الإنسانية، إلا أن هذه القناة لم تبصر النور قط. فأصبحت الأموال بمثابة حجر الرحى حول عنق كوريا الجنوبية، وتعرضت هذه الأخيرة لضغوط متزايدة من إيران، التي استولت على ناقلة تابعة لكوريا جنوبية في عام 2021، وانتقمت من الأصناف ذات العلامات التجارية الكورية، وهددت باتخاذ إجراءات قانونية ضد سيئول.
كما شاهدت إيران انخفاض قيمة أموالها. وتم الاحتفاظ بالأموال بالعملة الكورية ولم تدر فوائد، وفقاً “للبنك المركزي الإيراني”، وقد أدى انخفاض قيمة الوون في السنوات الأخيرة إلى تراجع قيمة الأموال بنحو مليار دولار، مما يترك حوالي 6 مليارات دولار اليوم. كما استخدمت إيران مبالغ صغيرة من تلك الأموال لدفع مستحقاتها للأمم المتحدة عدة مرات.
القناة القطرية
في إطار صفقة الرهائن، وافقت واشنطن على تسهيل حركة الأموال الإيرانية من كوريا الجنوبية إلى قطر عبر أوروبا. وذكر المسؤولون الأمريكيون والإيرانيون أنه لن يُسمح لطهران بالوصول إلى الأموال إلا لأغراض غير خاضعة للعقوبات. وفي حين ادعى الرئيس إبراهيم رئيسي مؤخراً أن إيران ستكون قادرة على إنفاق الأموال “حيثما نحتاجها”، نفى مسؤولون إيرانيون آخرون هذا الادعاء.
وصرحت واشنطن أنها ستواصل الإشراف على المعاملات، على الرغم من أنها لم تقدم تفاصيل بهذا الشأن. وقد تتبع إطار العمل الذي حددته وزارتا الخارجية والخزانة الأمريكيتين في عام 2019، والذي يهدف إلى “ضمان شفافية غير مسبوقة في التجارة الإنسانية مع إيران”. فقد تم تصميم هذه الآلية حصرياً لتسهيل تصدير “السلع الزراعية والأغذية والأدوية والأجهزة الطبية” إلى إيران، على أن تمارس الأطراف المشاركة في عمليات النقل هذه “العناية الواجبة المعززة” وتقدم معلومات مفصلة إلى المسؤولين الحكوميين. وفي المقابل، ستبارك وزارة الخزانة الأمريكية القناة المالية، مما يطمئن الشركات والمصارف بعدم تعريض نفسهالمخاطر العقوبات.
وإذا تم تطبيق هذا الإعداد، فإنه يمكن أن يحد من صعوبة حصول إيران على بعض المواد الغذائية والأدوية. ولكن الطريق إلى الأمام قد لا يكون سلساً. ففي أوائل عام 2020، عملت إدارة ترامب مع سويسرا على إنشاء أول قناة مالية بناءً على إطار عام 2019، لكن “اتفاقية التجارة الإنسانية السويسرية” لم تعالج سوى عدد قليل من المعاملات منذ ذلك الحين. وقد واجهت عدداً من التحديات، بما في ذلك نقص السيولة وقلة الحماس من جانب المسؤولين الإيرانيين. وفي حين أن القناة القطرية لن تواجه على الأرجح مثل هذه القضايا، إلا أنه قد تطرأ مشكلة أخرى. فمع الآلية السويسرية، اشتكى المشاركون والمراقبون من أن متطلبات “العناية الواجبة المعززة” تشكل عبئاً كبيراً، ويمكن أن تواجه القناة القطرية هذا التحدي أيضاً.
وينطوي تحويل مبلغ الستة مليارات دولار على ثلاثة مخاطر محتملة. الأول هو خطر سوء الاستخدام. وكما كان عليه الحال في الماضي، يمكن لإيران إيجاد طرق للإدّعاء الاحتيالي بأن معاملة معينة هي معاملة إنسانية أو تهريب سلع إنسانية إلى الخارج لتحقيق الأرباح. ومن الناحية العملية، لا يمكن لأي آلية، مهما كانت صارمة، القضاء على هذه المخاطر مع الاستمرار في الوقت نفسه في تسهيل مبيعات المواد الغذائية والطبية. وبالإضافة إلى توخي الحذر بشأن التحويل وسوء الاستخدام، يجب على واشنطن أن تشرح للرأي العام كيف ستسعى إلى الكشف عن هذه السلوكيات وردعها باستمرار.
ثانياً، حتى لو كانت الآلية تعمل بشكل مثالي، فإن الأموال قابلة للاستبدال في نهاية المطاف، أي أنه على الرغم من أن مبلغ الستة مليارات دولار المحوّل من كوريا الجنوبية سيقتصر على المشتريات الإنسانية، فإن الإفراج عنه سيحرر مبلغاً مساوياً من الأموال يمكن أن تستخدمه طهران لأغراض أخرى، من بينها قطاع الدفاع. ومع ذلك، فمن المرجح أن تكون الادعاءات بأن إيران ستخصص جميع هذه الموارد لتحقيق أغراض شائنة أمراً مبالغاً فيه. فلدى طهران متطلبات محلية متنافسة فيما يتعلق بأموالها، كما أن المؤسسة العسكرية والنووية لا تعاني تقريباً من نقص في الموارد.
ثالثاً، حتى لو كان التوصل إلى اتفاق لإعادة الأمريكيين المحتجزين ظلماً إلى وطنهم مبرراً، فإنه بلا شك يؤكد صحة وجهة نظر إيران بأن احتجاز الرهائن وسيلة مقبولة لتحقيق أهدافها، ويوجه الرسالة ذاتها إلى روسيا والصين. ولذلك، ينبغي على واشنطن أن تسعى إلى التوصل إلى تفاهمات مع دول مستهدفة أخرى حول نهج مشترك لمنع احتجاز الرهائن الذي ترعاه الدول، بما في ذلك ما يتعلق بما يقارب ثلاثين سجيناً أوروبياً ما زالوا في إيران. وقد يستلزم ذلك، الاتفاق على قواعد جماعية للمفاوضات أو العقوبات أو الامتيازات.
التطلع إلى المستقبل
يرتبط إطلاق سراح الأمريكيين الخمسة بالجهود الأمريكية الأوسع نطاقاًلتهدئة التوترات مع إيران. وعلى مدى الأشهر القليلة الماضية، اتخذت الحكومتان خطوات أخرى للتخفيف من التوتر القائم. فقد امتنعت واشنطن عن فرض عقوبات على إيران ذات صلة ببرنامجها النووي مما سمح بتزايد صادرات النفط الإيرانية بسرعة، أو الضغط من أجل إصدار قرارات (ضد إيران) في مجلس محافظي “الوكالة الدولية للطاقة الذرية”. كما سهلت واشنطن الوصول إلى الأموال الإيرانية في العراق. أما طهران فقد أوقفت فعلياً الهجمات بالوكالة على القوات الأمريكية، وخفضت معدل مراكمتها لليورانيوم عالي التخصيب، وسمحت بزيادات متواضعة في المراقبة النووية الدولية. ولكنها في الوقت نفسه، عرقلت عمل المفتشين ورفضت الوفاء بالتزاماتها الأخرى التي تعهدت بها “للوكالة الدولية للطاقة الذرية”.
وقد تكون الخطوة التالية هي استئناف المحادثات النووية، التي انهارت قبل عام بعد رفض إيران التوصل إلى اتفاق حل وسط. وبالنسبة للبيت الأبيض، كانت إزالة عقبة الرهائن خطوة أساسية قبل استئناف المفاوضات، التي من المحتمل أن تُستأنف هذا الخريف وقد تتضمن مفاوضات مباشرة مع إيران. ومع ذلك، لن تهدف هذه المحادثات إلى التوصل إلى اتفاق شامل قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية، نظراً للقيود السياسية القائمة في واشنطن. ومن المرجح أيضاً أن تكون طهران مترددة بشأن التوصل إلى اتفاق قد يبطله رئيس جمهوري. وبدلاً من ذلك، سيكون الهدف هو احتواء التوترات واتخاذ خطوات لاحقة لخفض التصعيد مع مناقشة ما يمكن أن يبدو عليه اتفاق نووي جديد.
هنري روم