تتشكل السياسة الخارجية للدول بخصائصها القومية، وبقيم وإدراكات صانعي السياسة فيها، وبالبيئة العالمية والإقليمية المحيطة، وهو ما يطرح بدوره مسألة القدرات والفعالية الخاصة بدورها الخارجي، والفجوة بين تلك الموارد والقدرات وبين الفعالية. بهذا المعنى، تتجلى بوضوح أهمية الوقوف على محددات وركائز وفلسفة السياسة الخارجية المصرية في ظل إقليم يشهد الكثير من الاضطراب والتشابك بين قضاياه وتدخل الكثير من القوى الإقليمية والدولية المتنافسة.
إن نظرة سريعة على المنطقة العربية وتفاعلاتها مع دول الجوار، توضح أن خريطة الصراعات والتوترات والنزاعات غالبة، رغم ما تشهده بعض الملفات من تسكين وتحسين في آليات التوافق تجاه بعض الملفات؛ فمعظم البلدان العربية تعاني من تداعيات ومخاطر تلك الخريطة، وهو ما يُلقي بظلاله وبحسابات شديدة التعقيد على الرؤية، والإدراك المصري لمستقبل المنطقة، وما فرضته المتغيرات من تراجع لآليات العمل الجماعي وفعاليتها، وترهل النظام الإقليمي، وتوسع النطاق الجغرافي والاستراتيجي الذي يشمل العالم العربي، الأمر الذي يطرح المقاربة التقليدية التي تثير الكثير من الجدل والنقاش حول منظور المصلحة الوطنية، وعلاقتها بحدود الالتماس بين ما تتطلبه المكانة الإقليمية والدولية من مقتضيات وتكلفتها، وبين ما تحتمه تلك المصلحة والأهداف الاستراتيجية من ترتيب للأولويات والمسئوليات في ضوء الموارد والقدرات.
تلك المفارقة وتعقيدات الحسابات وسيولة الانتقال من أنماط ومستويات التعاون إلى الصراع والتنافس بين ملفات العلاقات الثنائية والمتعددة، تضعنا أمام شبكة من التفاعلات التي تزيد من تكلفة المحافظة على المصالح الاستراتيجية المصرية، في ظل تصورات بعض القوى الدولية والإقليمية لوجود فراغ استراتيجي في المنطقة تسعى لملئه من خلال التنافس، وعدم مراعاة مصالح الآخرين. وتجدر الإشارة هنا أن هذه الحالة لا تقتصر على مصر، ولكن على معظم القوى الرئيسية الكبرى في المنطقة العربية، وهو ما يخلف شعورا بالضبابية وارتفاع مستوى المخاطر.
وانطلاقًا من المفارقة المعنية بالرؤية المصرية للمنطقة، وتشابك المجالات الحيوية والاستراتيجية للعديد من الأطراف الفاعلة في الإقليم، تحاول هذه المقالة تحليل وتفسير السياسة الخارجية المصرية تجاه الإقليم الذي يضم العالم العربي ودول الجوار، بالتركيز على مفارقة المصالح والتكلفة في ظل المكانة والمسئولية.
أولاً: البيئة والسياق الحاكم
يشير العنوان إلى حالة شديدة التعقيد تصيغها جملة من المتغيرات الإدراكية لطبيعة المنطقة ومستقبلها، وبالتالي فالحديث عن اضطراب الإقليم أو درجة سخونة التطورات وحدتها ليس بالجديد، ولكن الجديد يرتبط بكثرة الفاعلين من داخل الإقليم، وتغير إدراكاتهم وطموحاتهم ومصالحهم وأدواتهم، ومن ثم، علاقاتهم مع دول الجوار والقوى الدولية لتتزايد وتيرة التنافس والصراع على النفوذ والثروات بدون التوافق على آليات لإدارة التنافس أو التفاعل بمنهاجيات الحد الأدنى أو القبول بالأطر المؤسسية التي ساهمت في توفير أطر التفاعل المشترك النوعي خلال مراحل تاريخية سابقة. والحقيقة البارزة أنَّ اضطراب المنطقة العربية يبدو منطقيًا، ومتوافقًا مع جملة من الأسباب والدوافع الكامنة التالية:
على الصعيد الداخلي: تشمل هذه الأسباب تراجع الفكرة القومية وفكرة الوحدة، والاكتفاء بمفهوم العروبة على المستوى الفكري والأيديولوجي، وما تلاها من تراجع وضعف على مستوى الآليات العربية المشتركة، واتساع مراكز الثقل وتعددها بدون توافر إرادة سياسية حقيقية لتطوير آليات العمل المشترك، وبلورة أطر حقيقية لمفهوم العروبة في ظل القرن الحادي والعشرين، والتعاون والتفاعل بمنهاجية “الإقليمية الجديدة” التي ترجمتها تجربة التكامل الآسيوي.
على الصعيد الخارجي: تتمثل أهم هذه الأسباب في العوامل التي تستند إلى ما فرضته النتائج الداخلية من مستجدات ترجمتها تعدد الرؤى الفردية واتساع المجالات الحيوية، والنطاق الجغرافي لحركة أطراف عربية وإقليمية، بما يتوافق والنظرة الدولية للمنطقة من منظور ودلالة أوسع إقليميًا من كونها إقليمي عربي، لتتزايد حالة السيولة والتكتلات المتقاطعة مع دول الجوار والقوى الدولية، الأمر الذي حوّل «الفوضى الخلاقة» -التي طرحتها الإدارة الأمريكية كمدخل لإعادة هندسة المنطقة وفقًا لمتطلبات المصالح الغربية- إلى واقع لم تنج منه إلا عدد قليل من الدول.
هذه النتيجة التي تعتصر الواقع العربي، مرشحة للتزايد مع استمرار تنافس القوى الكبرى ومحاولات إعادة التموضع على قمة النظام الدولي بدرجة تفوق ما شهدته المنطقة العربية من صراعات وعدم استقرار عبر مراحل تاريخية ممتدة، سواء من خلال الاحتلال المباشر أو بزرع إسرائيل في المنطقة أو عبر سياسات الاستقطاب، وإسقاط النظم وتقسيم الدول المهيأة للانقسام. وترتكز هذه النتيجة إلى عدد من النقاط، يمكن توضيح أبرزها فيما يلي:
1- الحساسيات والمنظور الأحادي العربي لمعالجات القضايا، وتقاطعات المصالح؛ حيث إن التشخيص يجب أن يتجاوز العوارض الممثلة في درجة الاضطراب أو عدم الاستقرار إلى جوهر المشكلة الممثلة في السعي لتغيير موازين القوة والاتجاه بالمنطقة نحو قطبية إقليمية أحادية واتجاهات قوى متعددة، وفرض ذلك كأمر واقع، وبالتالي فإن ما تشهده المنطقة من عدم استقرار، وتهديد لكيانات دول، وتنامي لدور الميليشات، هي عوارض قديمة وممتدة لإعادة رسم توازنات جديدة بأدوات وأشكال جديدة.
2- تحولات المنطقة ليست منفصلة عما يشهده النظام الدولي من محاولات تغيير موازين القوى وبنيته، بل على العكس هي نتاج مباشر وصورة مترجمة لطموحات، وإدراكات لبعض القوى الإقليمية والعربية للتماهي مع سعي القوى الكبرى لإعادة التموضع في منطقتنا ومناطق أخرى في العالم. على سبيل المثال، فإن ما يحدث في النيجر لم يكن بعيدًا عما حدث في مالي وبوركينافاسو، وأفريقيا الوسطى والسودان، وضرب خط الغاز «نورد ستريم 2» الذي يربط خط الغاز الروسي بألمانيا، من حيث محاولة إفشال مد خط الغاز من نيجيريا عبر النيجر وصولاً للمتوسط فأوروبا فيما يعرف «بالحرب الهجينة». بالإضافة إلى قيام الناتو بإسقاط نظام القذافي لسعيه إلى إيجاد عملة بديلة للدولار، ومن قبل إسقاط نظام صدام حسين في العراق، ونظام «سياد بري» في الصومال، ومحاولة إسقاط نظام بشار الأسد في سوريا.
أضف إلى ما سبق، فإن ما يشهده البحر الأحمر من تنافس على المنافذ البحرية وحضور الأساطيل البحرية ليس بعيدا عن نقل الإرهابيين والمرتزقة من العراق وسوريا إلى منطقة الساحل والصحراء، وعدم القدرة العربية على التوافق حول آلية لتنسيق التعاون في البحر الأحمر، وتحويله إلى “بحيرة عربية” أو بناء منظومة عربية تحافظ وتعظم المصالح في هذه المنطقة، خاصة مع تنامي أطماع العديد من الدول والقوى غير المطلة على البحر الأحمر، مثل: إثيوبيا التي تسعى لبناء قوة بحرية في البحر الأحمر رغم عدم امتلاكها لمنفذ على البحر.
وما شهده البحر الأبيض المتوسط من تنافس على موارد الطاقة لم يكن بعيدًا عما شهدته سوريا من ضرب لكيانها كدولة ومحاولة تقسيمها، وما سعت إليه العديد من دول المتوسط ومن غير المتوسط لتعزيز آليات التنافس والربح كجزء من ضمان لمصادر الطاقة، وتعزيز المكانة والوصول بها إلى أوروبا وتوظيفها كورقة ضغط تجاه ملفات أخرى.
3- يشهد العالم تنامي لمؤشرات المخاطر الفيزيقية والاجتماعية بعد أن تجاوزت العديد من المخاطر القدرات البشرية في التحكم في آثارها الجانبية، ومنها: قضايا تغير المناخ والأوبئة، فضلا عما صاحب الحرب الروسية – الأوكرانية من تصاعد لكل من أزمتي الغذاء والطاقة، وتداعياتهما على معدلات الفقر والمجاعة، وهو ما يلقي بظلاله على الأمن والاستقرار الدوليين، ويضعنا أمام مزيد من الانحدار أمام ما يعرف «بمجتمع المخاطر» العالمي.
بهذا المعنى، نحن أمام مشهد لن يستقر لفترة ليست بالقصيرة، وما تشهده العديد من مناطق العالم ومنها منطقتنا العربية بتحولها لساحة للاشتباك والصراع الدولي، سواء بشكل مباشر أو عبر وكلاء هو تجسيد لطبيعة التحولات وخطورتها، وما تمثله من مرآة عاكسة لما يشهده النظام الدولي من تطورات لإعادة هيكلته.
ثانيًا: الرؤية والإدراك المصري
الحديث عن السياسة الخارجية المصرية تجاه المنطقة العربية أو تجاه المجالات الحيوية للعديد من القوى العربية والإقليمية التي تتقاطع مع المصالح الاستراتيجية العليا لمصر، وما تشهده هذه التقاطعات من رؤى وخطوات متسارعة لتغيير بنية وهيكلة القوة في تلك المنطقة، يقودنا إلى تلك المعادلة السابق الإشارة إليها من كون المحافظة على المصالح العليا للدولة المصرية تقتضي ارتفاع التكلفة، فإن الخلاف أو النقاش سوف يرتبط بحدود الإمكانيات، وعلاقاتها بمتطلبات التنمية والبناء وتقوية الدولة الوطنية كسبيل لتفعيل «الدور»، و«المكانة»، وهو ما يتطلب قدرا كبيرا من الفعالية، والنشاط، وتكامل الأدوات، وهنا يمكن التأكيد على النقاط التالية:
1- الفكر السياسي المصري والتوجهات الخارجية
إدراك مصر لمكانتها ودورها على المستويين الإقليمي والدولي، يمثل أحد المداخل المهمة لتفسير التوجهات الخارجية للسياسة الخارجية المصرية، ولا يلغي ذلك بطبيعة الحال تأثير البيئة والسياقين الإقليمي والدولي، كما أن شخصية رئيس الدولة تلعب بدورها عامل ترجيح واضح في صياغة الرؤية والفلسفة الحاكمة لعملية صنع واتخاذ القرارات وتحديد توجهات السلوك وتفاعلات الأدوات. بهذا المعنى، نحن نتحدث عن منظورين لفهم العلاقة بين ثوابت السياسة الخارجية المصرية، ومتغيرات النظرة للمصالح في ضوء اضطراب المنطقة العربية واتساع النظرة الدولية للمنطقة من منظورين جيوسياسي وجيو-اقتصادي.
وفيما يلي يمكن تناول ثلاثة ملامح ومرتكزات أساسية حاكمة للنموذج المصري والعاكسة لخبرة المدرسة الدبلوماسية:
الملمح الأول، يرتكز إلى المجال الاستراتيجي للدولة المصرية، وتقاطعه العربي والأفريقي والمتوسطي، من موقع هويتها، ومكانتها التاريخية، وما يقتضيه هذا العمق الاستراتيجي من تحركات وثوابت داعمة لثقل مصر الإقليمي، وإن أخذت شكل الموجات في درجات الاهتمام وأولويات القضايا، فهذا الاهتمام لا يرتبط بفترات التوتر والأزمات فقط، ولكن يرتبط أكثر بالرؤية والفكر الداعم للاستقرار والتنمية. وهنا يمكن ملاحظة النهج المصري الداعم لمفهوم الدولة الوطنية، من خلال بناء نموذج متكامل للتنمية والأمن يستند إلى عدم التدخل في شئون الدول كسبيل لتعزيز الاستقرار، وتحمل القوى والمنظمات الدولية مسئولياتها تجاه الدول الفقيرة والنامية.
الملمح الثاني، يمكن رصده وتعكسه السياسة المصرية على مستويات متعددة، يأتي في مقدمتها الدبلوماسية الرئاسية التي انتهجها الرئيس السيسي بكثافة وفعالية خلال العشر سنوات الماضية، لاسيما تجاه القارة الأفريقية، ليتحقق توازن التحرك المصري في مجالها الاستراتيجي، ويعكس هذا التوازن بدوره فعالية التحرك المصري تجاه العديد من المعادلات الحاكمة والأجندات المطروحة على الساحتين الإقليمية والدولية، وهو ما يتجلى بوضوح في أكثر من مسار، مثل: تكلفة البناء وتفعيل مقومات التنمية وتقوية مرتكزات الدولة الوطنية، والتصدي لتداعيات “الفوضى الخلاقة” وما تحملته -ومازالت تتحمله حتى الآن- من نتائج وتأثيرات سلبية من ناحية، وتصديها بخطابها القاري المعبر عن أحلام وآمال القارة الأفريقية في توفير متطلبات التنمية والمحافظة على الثروات الطبيعية وجني ثمارها، والحد من استغلال الشركات الدولية لهذه الثروات على حساب الشعوب الفقيرة، من ناحية ثانية.
وقد تجلت تلك الرسائل بوضوح من خلال بروز دور الدبلوماسية الرئاسية في اجتماعات وقمم جماعية كثيرة، من ذلك البريكس، التي حضر الرئيس السيسي قمتها التاسعة في سبتمبر 2017 بالصين، وقمتها الـ 14 بالصين أيضًا في يونيو 2022، وقمة «محيط واحد» في فبراير 2022 المخصصة للحفاظ على البيئة، والقمة الأفريقية – الأوروبية في فبراير 2022 بفرنسا، والقمة العربية الأمريكية في جدة التي جمعت قادة مصر، والعراق، والأردن، ودول مجلس التعاون الخليجي، والولايات المتحدة الأمريكية في يوليو 2022، ثم حوار «بطرسبورج» للمناخ في نفس الشهر، والقمة العربية الصينية الأولى بالمملكة العربية السعودية في ديسمبر2022، والقمة الأمريكية الأفريقية في نفس الشهر، ثم قمة الحكومات في دولة الإمارات في فبراير 2023، والقمة المالية العالمية في باريس في يونيو 2023.
الملمح الثالث، أن السياسة الخارجية المصرية تستند إلى عدد من المرتكزات، مثل: دعم السلام والاستقرار في المحيطين الإقليمي والدولي، ودعم مبدأ الاحترام المتبادل بين الدول، والتمسك بمبادئ القانون الدولي، واحترام العهود والمواثيق الدولية، ودعم دور المنظمات الدولية وتعزيز التضامن بين الدول، إضافة إلى الالتزام بمبدأ عدم التدخل في الشئون الداخلية للدول الأخرى.
2- المجال الحيوي والاستراتيجي المصري
تفرض العديد من الملفات والمصالح العليا المصرية التعامل مع بعض الأزمات بمنظور أوسع من نطاق أطرافها؛ فتشابكات الوضع في اليمن وليبيا والسودان والبحر الأحمر، على سبيل المثال، تشير إلى تقاطعات مع ملف السد الإثيوبي وإمكانية تسويته في مراحل مبكرة في حال تغيرت بعض الحسابات والمواقف لبعض القوى الإقليمية. كما أن وضع خطوط حمراء في ليبيا حال دون مزيد من التدهور والتدخل الأجنبي. كذلك أظهرت محاولات تسكين واستعادة الاستقرار في السودان صحة النهج المصري الداعم للمحافظة على كيانات الدول، فكان التحرك المصري باتجاه دول الجوار ومنها إثيوبيا وأطراف أخرى إقليمية ودولية للمحافظة على كيان السودان ومحاصرة تداعيات الأزمة الراهنة والحيلولة دون مزيد من التدخل.
خريطة الصراعات في المنطقة ومظاهر عدم الاستقرار، أثبتت صحة النهج المصري الداعم للمحافظة على كيانات الدول وتماسك المجتمعات، رغم تحفظ ومعارضة البعض له وتقديم المصالح والرؤى والأولويات الاستراتيجية، وهو ما تجلى في ارتفاع تكلفة تفتيت الدول وانعكاسها على معادلة استقرار المنطقة العربية، الأمر الذي أدى لإعادة الحسابات، وتغيير السياسات تجاه سوريا والعراق، ومن المأمول أن تتم تجاه السودان قبل فوات الأوان.
هذا التشابك الكبير والمتعدد الأطراف والأبعاد، يشير بوضوح إلى مرتكز الاستقرار والأمن الذي انتهجته السياسة المصرية للتخفيف من التداعيات الشديدة للصراعات، ومحاولة وقف منحى التدهور والمخاطر على المنطقة وخارجها، والتحذير من تأثيراته السلبية على الأمن الإنساني وتنامي قضية اللاجئين. ورغم تلك التحذيرات فقد حرصت مصر على تحمل نصيب كبير من تكلفة هذه الصراعات رغم ظروفها الاقتصادية الضاغطة، وهو ما يتجلى بوضوح في تزايد أعداد اللاجئين والمقيمين في مصر إلى ما يقرب من 9 ملايين (وفقًا لبعض التقديرات) من جنسيات متعددة سودانية وسورية ويمنية وصومالية واريترية ومن جنوب السودان، وغيرها من الجنسيات الأخرى.
3- حدود التكلفة وسياسة النفس الطويل
العلاقة بين طرفي هذه المعادلة، من شأنها أن تفسر الكثير من التوجهات والمسارات التي انتهجتها السياسة المصرية تجاه العديد من الملفات والعلاقات، تاريخيًا وحتى اليوم، كما تشير إلى طبيعة الجدل والنقاش حول مؤشرات قياس التكلفة وطبيعة مستويات التكلفة، سواء عبر التدخل أو الانعزال أو الحياد، وهو نقاش لم ينقطع على الأقل خلال السبعين عاما الماضية، بين التنفيذيين والأكاديميين والسياسيين والرأي العام، حول الثمن الباهظ الذي دفعته مصر وانعكس على مسيرة التنمية والتقدم، انطلاقًا من إدراكها لمسئولياتها ومكانتها من جانب والتكلفة البشرية والمادية التي حتمتها تلك المسئوليات من جانب ثان، ووقع هذه المسئوليات على تفاعل القوى الكبرى وإدراكهم لدور مصر في الإقليم، من جانب ثالث.
النقاش والجدل المصري حول التكلفة الكبيرة التي دفعتها مصر ولازالت، لم ينقطع نتيجة استمرار العلاقة الارتباطية بين ثوابتها، وما تتطلبه المكانة وفعالية الدور من المحافظة على هذه الثوابت، حتى في أدق الظروف وأحرجها بالنسبة للدولة المصرية (2011 وحتى 2013). ومع توقع تزايد تلك التكلفة في ظل تعدد الأطراف الفاعلة والمتنافسة، وما يستتبعها من سيولة في بناء العلاقات وأطر التعاون وتعقد التفاعلات حتى في الملف الواحد، تظل الحسابات الكلية للمصالح العليا لمصر، هي المحدد الحاكم لهذه التكلفة.
وهنا يمكن الإشارة على سبيل المثال، إلى النهج التفاوضي ودعم الخيارات السلمية مثل قضية تحكيم طابا، وتطور العلاقات مع السودان رغم ما حمله نظام البشير من عداء وتجاذب واستناده لفكر الإخوان المسلمين، وما نشهده من تعثر وتعنت إثيوبي في ملف التعاون المائي داخل حوض النيل وتجاه السد الإثيوبي، وحتى تجاه السودان في العديد من فترات المحادثات مع إثيوبيا، فكان اللجوء إلى الأساليب الدبلوماسية والسياسية وإشراك المؤسسات الدولية والقارية، هو المنهاج الرئيسي لمواجهة المراوغات والتعنت الإثيوبي، رغم امتلاك مصر للعديد من الأدوات والخيارات الخشنة التي كان يمكن تفعيلها.
أضف إلى ما سبق، فإن المنهاج المصري الداعم للتعاون كسبيل لتحقيق قاعدة عدم الإضرار، هو منهاج تاريخي استندت له مصر طوال سنين التفاوض منذ عام 2000 وحتى 2010 عندما توقفت آلية التفاوض الجماعية بتوقيع بعض دول حوض النيل على اتفاق عنتيبي، لتنقل إثيوبيا الصراع مع مصر لمرحلة أكثر تقدمًا بالإعلان عن بناء السد كتطبيق واقعي لاتفاق عنتيبي، الذي لم يُفعل حتى الآن، مستغلة حالة الاضطراب والفوضى التي شهدتها مصر خلال عام 2011. بل إن طموح إثيوبيا ومشروعها للهيمنة على المياه وتسويق مشروعها الإقليمي، دفعها لزيادة تخزين السد من 14 مليارم3 إلى 74 مليارم3، وهو ما يؤكد ويوضح الحلم الإثيوبي لتغيير توازنات القوة في منطقة القرن الأفريقي وحوض النيل؛ فالقضية ليست الهيمنة المائية ولا ترسيخ نفسها كقوة إقليمية وحيدة في هذه المنطقة، ولكن تسويق هذا الدور إقليميًا ودوليًا لتجسيد الحلم الإثيوبي الذي عبر عنه بوضوح مليس زيناوى رئيس وزراء إثيوبيا الأسبق، ويترجمه في الوقت الراهن آبي أحمد، ويتمثل في تغير البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتقديم إثيوبيا كدولة مركزية حتى لو على حساب بعض مواطنيها ومصالح بعض القوى الإقليمية التي تنافسها ومنها مصر بطبيعة الحال.
وهنا تتجلى بوضوح مسألة التكلفة ومعايير الترجيح بين الخيارات وقياس الوزن النسبي لتكلفة كل خيار، وتوقيت التصعيد في ظل الوصول إلى تهديد حقيقي للأمن المائي والقومي المصري.
ثالثًا: الإمساك بأبعاد الأزمات وإدارة المخاطر
القدرة على حل الأزمات ومواجهة التحديات التي تعترض المصالح المصرية العليا، أو تلك التي تؤثر بشكل غير مباشر على الاستقرار والتنمية، تشير إلى معضلة التكلفة، وعدم القدرة على حل الأزمات أو حسم الصراعات أو إنهاء التنافس من خلال وضع قواعد واضحة وآليات فعالة لمواجهة تلك المخاطر بمنهاج جماعي أو شبة جماعي؛ فسيولة التفاعلات وتعدد منهاج ونماذج التدخل في الأزمات يشير لطبيعة المرحلة. ذلك أن محاصرة التداعيات الناتجة عن سرعة التحولات ومرونة التحالفات زادت من صعوبة القدرة على حل الأزمات أو إنهاء الصراعات؛ حيث لم يعد في مقدور أي طرف إقليمي أو دولي أو منظمة إقليمية أو دولية تقديم حلول لإنهاء الأزمات؛ فتشابك الأزمات راجع لحالة السيولة وتشابك المصالح، وتغير قواعد وهندسة القوة في الإقليم وعلى المستوى الدولي، ولذا تظل قضايا السودان وليبيا واليمن وسوريا والصومال بدون حسم والدوران في سلسلة الفوضى، وتعاني لبنان وتونس من تأثيرات عدم الاستقرار، وتعاني مصر من صعوبات اقتصادية تضغط على آفاق التنمية، وتشهد منطقة الخليج تحولات سياسية وثقافية تعيد النظر في مفهوم دولة الرفاهة الريعية بما يلقي بظلاله على مستقبل العلاقة بين الدولة والمجتمع.
ومن ثم، فإن استرجاع الاستقرار النسبي، ومواجهة موجات الاضطراب، وارتفاع تكلفة تحقيق المصالح، تتطلب تحديد خريطة المصالح وتباينات الأولويات الاستراتيجية بين دول المنطقة، من خلال حوارات استراتيجية قادرة على تعظيم التوافقات تجاه أجندة التعاون والتنافس والصراع وتجاه دول الجوار والقوى الدولية ذات المصالح (إقليميًا ودوليًا)، لذا فقد ارتكزت مسارات التحرك المصري إلى مجموعة المقاربات الأساسية لتسكين أو تصفير بعض الخلافات، والحد من إطالة أمد الأزمات، والتي يمكن توضيح أبرزها فيما يلي:
1- طرح مقاربة شاملة ومشتركة: وذلك بهدف تعزيز القدرات الجماعية للدول العربية في مواجهة الأزمات استنادًا إلى أسس واضحة تقوم على تكريس مفهوم الوطن العربي الجامع من ناحية، والدولة الوطنية ودعم مؤسساتها من ناحية أخرى، وبما يسهم في تعزيز الاستقرار، وحفظ السلم الاجتماعي وترسيخ ركائز الحوكمة والمواطنة.
2- الشراكة الفعالة: كان تدشين ما يعرف بـ «دول الشام الجديد» منطلقًا من الحرص المصري على دفع مستوى التعاون والتنسيق العربي نحو بناء أطر تكاملية للقدرات المتباينة التي من شأنها تشكيل منظومة إقليمية عربية صلبة قادرة على مواجهة التحديات المشتركة، والأزمات الدولية المستجدة. لذا فقد شكل تجمع الشام الجديد الذي يضم دول العراق والأردن إلى جانب مصر خطوة مهمة وأساسية نحو بناء آليات لتنظيم التفاعلات العربية، ورسم مسارات جديدة لأطر التعاون، وتحفيز التعاون الإقليمي على المستويين السياسي والاقتصادي.
3- تعزيز آفاق التعاون بين دول حوض النيل: وذلك على النحو الذي يساهم في تعزيز الاستقرار الإقليمي وربطه بمثلثات التنمية (الماء، والغذاء، والطاقة) وعدم قصر التعاون على المائي فقط، ليكون تحقيق الأمن الإنساني كرؤية مستقبلية مستندة لمنظومة متكاملة من المشروعات البينية الداعمة للبنية التحتية والتنموية للتعاون بين كافة دول حوض النيل.
4- تنسيق وتعظيم الفوائد الاقتصادية بين الدول المطلة على البحر الأحمر: بحيث يصبح ذلك ركيزة مهمة لبناء تكتل إقليمي قادر على التفاعل مع تواجد، وتنافس العديد من القوى الدولية على الاستفادة من ثروات البحر الأحمر وموقعه؛ فالتنافس على الموانئ لا يقل في أهميته عن تزايد رغبة الشركات العالمية في بناء شبكة كابلات للاتصالات والإنترنت تمر بالبحر الأحمر، وبشكل مباشر من شرق وغرب أفريقيا والشرق الأوسط إلى أوروبا، مثال مشروع 2 Africa لخدمة القارة الأفريقية ومنطقة الشرق الأوسط، ومشروع “بلو رامان” الذي يربط أوروبا بالهند، وهي تطورات تتطلب التنسيق والتعاون بين الدول المتشاطئة وتحديدًا جيبوتي (باعتبارها مركزًا رئيسيًا لكابلات الاتصالات) ومصر والسعودية والأردن.
ختامًا، إن تحقيق المصالح المصرية وأهدافها الاستراتيجية في ظل الثوابت والمرتكزات المصرية، تظل مستندة إلى مكانة الدبلوماسية المصرية وخبراتها التي أكدتها العديد من الأحداث بطرحها لرؤيتها المحافظة على مقومات الدولة الوطنية كمدخل لاستقرار المنطقة، وذلك برفض التدخلات الأجنبية في الصراعات، والمحافظة على الجيوش العربية وتقويتها في مواجهة المليشيات، والحد من التنافس وتحمل مسئولية الاستقرار من جانب كافة الأطراف الفاعلة. بالإضافة للعمل على توفير الإرادة السياسية، لإعادة قدر من التوازن والاستقرار لمسار التفاعلات العربية- العربية من ناحية، وتجاه دول الجوار من ناحية أخرى. وعلى الرغم من الإقرار بصعوبة الحديث عن آفاق لرؤية عربية لقضايا المنطقة ومستقبلها في الأجل القريب، إلا إن الرهان على ارتفاع تكلفة الصراعات والتنافس يظل محفزًا ودافعًا نحو صياغة متدرجة لهذه الرؤية.
كما إنها تتطلب في المقابل مزيدا من الجهد والتحرك المصري في مسارات متعددة، وبالقدر الذي يشير بوضوح إلى النموذج الخاص بالسياسة الخارجية المصرية بما يتضمنه من مصالح وأهداف استراتيجية تجاه مجالها الحيوي، ويعكس أيضًا تنوع وقدرات أدواتها ويعزز نفوذها ومكانتها.