الحرب الإسرائيلية على غزة سرقت الاهتمام الدولي، سياسياً وإعلامياً، من حرب روسيا على أوكرانيا، التي بقيت منذ 24 فبراير/شباط 2022 الحدث العالمي الرئيسي في نشرات الأخبار الدولية، لكنها لم تحتل منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي سوى مساحة محدودة جداً، رغم أن جبهاتها مشتعلة.
غابت أوكرانيا كلياً عن قنوات التلفزة والصحف والمواقع الإخبارية، التي تجندت في الولايات المتحدة وأوروبا، على مدى أكثر من عام ونصف العام لمواكبة الحدث الأوكراني، وبات اليوم خبر الحرب وتداعياتها والتحركات السياسية المرافقة لها في زاوية صغيرة، لا يمكن ملاحظتها إلا بعد بحث.
حتى اشتعال حرب غزة كان السبق الصحافي محصوراً بالحدث الأوكراني، لذلك انتشر القسم الأكبر من عناصر قنوات التلفزة العالمية على جبهات أوكرانيا، ولكن منذ بداية الحدث الفلسطيني الإسرائيلي، نقل هؤلاء معداتهم وصاروا يتبارون على جبهة غزة، ومن خلال بعض التغطيات، يبدو أن هذا الاهتمام مرشح للاستمرار فترة طويلة.
وتوقف سيل التصريحات من كافة عواصم العالم، ولم تعد هناك رحلات سياسية غربية باتجاه العاصمة الأوكرانية، وصارت كل الجهود موجهة نحو الحرب على غزة، التي حلت في المرتبة الأولى من الاهتمام السياسي الدولي، ويبدو أن غزة ستبقى أولوية في المدى المنظور.
الانشغال الغربي بحرب غزة
ويتسابق ساسة الولايات المتحدة وأوروبا في تسجيل مواقف الدعم لإسرائيل، وزيارات التضامن التي بدأها المستشار الألماني أولاف شولتز، وتلاه الرئيس الأميركي جو بايدن، ومن ثم رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
وهذا تعبير أن هذه الدول ذات الحضور الأساسي في حرب روسيا على أوكرانيا، باتت منشغلة بتطورات الوضع في غزة، وكيفية دعم إسرائيل كي تخرج من هذه المواجهة بأخف الأضرار، بعد أن تعرضت إلى ضربة كبيرة في 7 أكتوبر الحالي على يد حركتي حماس والجهاد الاسلامي.
تجدد الصراع في الشرق الأوسط يمثل تحولاً مرحباً به لموسكو
في هذا الوقت تستخدم روسيا الصراع في غزة لإضعاف الدعم لأوكرانيا، وخرجت موسكو عن موقفها التقليدي القائم على التوازن بين إسرائيل والدول العربية، من خلال عدم إدانة هجوم “حماس”. ويرى الكرملين في الصراع فرصة للانقلاب على ما يسميه “الغرب الجماعي”، والاتهامات الموجهة إلى روسيا بشأن عدم الامتثال للقانون الدولي بصدد الجرائم ضد المدنيين.
وتلاحظ صحيفة “لوموند” الفرنسية أنه في أعقاب هذه الهجمات، بالكاد أخفت وسائل الإعلام الروسية رضاها، على الرغم من خطر اندلاع حريق عام في الشرق الأوسط، بما في ذلك سورية.
وبعيداً عن فكرة أن الولايات المتحدة، لن تكون قادرة بالفعل على إمداد كل من كييف وتل أبيب بالأسلحة، هناك بالفعل حقيقة واقعة هي أن تجدد الصراع في الشرق الأوسط يمثل تحولاً مرحباً به لموسكو، لأنه يضعف الموقف الغربي من أوكرانيا. ولخصت صحيفة “موسكوفسكي كومسوموليتس” اليومية الشعبية في 9 أكتوبر الحالي أن “الوضع يمكن أن يعمل لصالح روسيا”.
لا يبدو أن حرب روسيا ستأخذ إجازة بسبب اشتعال جبهة أخرى، وهي غير مرشحة للانكفاء إلى الوراء قليلاً، بسبب انشغال الأطراف الدولية بالحرب الاسرائيلية على غزة، خصوصاً الولايات المتحدة، التي سخرت جزءاً كبيراً من قوتها العسكرية لإسناد إسرائيل، وأرسلت إلى منطقة الشرق الاوسط حاملتي الطائرات “جيرالد فورد” وهي الأحدث والأكبر في القوات الأميركية، والحاملة “يو أس أس دوايت أيزنهاور” ، كما زودت إسرائيل بأسلحة وذخائر نوعية، وأرسلت أكثر من ألفي جندي، من الخبراء في التجسس والمعلومات والعمليات الخاصة.
قلق زيلينسكي من تجاهل أوكرانيا
دفعت هذه المخاوف الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، للإعراب عن قلقه من أن تؤدي الحرب الدائرة بين إسرائيل و”حماس” إلى “حرف أنظار” العالم عن الأزمة الأوكرانية. وأعرب في مقابلة مع قناة “فرانس 2” الفرنسية عن تخوفه من “أن يتم حرف أنظار الاهتمام الدولي عن أوكرانيا”، مشدّداً على أنه “ستكون لذلك تداعيات”.
السؤال الذي بدأ يطرحه كثير من المراقبين هو إلى أي مدى ستحول الحرب الإسرائيلية على غزة الاهتمام الغربي عن حرب أوكرانيا؟ لا أحد يستطيع تقديم إجابة دقيقة، ولكن الثابت هو أنها ستأخذ منها قسطاً من الاهتمام، وتتقاسم معها الإمكانات العسكرية، وستغطي عليها إعلامياً وسياسياً.
من الناحية العسكرية، يتوقف الأمر على تطورات الحرب في غزة والعوامل التي تتدخل فيها، وما إذا كانت ستبقى محصورة في جبهة قطاع غزة، أم أنها ستتوسع على جبهتي جنوب لبنان والجولان، وما إذا كانت ستأخذ بعداً إقليمياً بمشاركة إيران.
هذه الأسئلة والاحتمالات هي التي ستتحكم، وتوجه الجهد العسكري الغربي، الذي يدعم أوكرانيا بصورة كبيرة كي تواجه الحرب الروسية، وفي جميع الأحوال لن تتصرف الدول الغربية بنفس السخاء، لأنها ستكون مضطرة إلى دعم إسرائيل، خصوصاً الولايات المتحدة، التي قدمت 10 مليارات دولار لدى زيارة الرئيس جو بايدن إلى إسرائيل في 17 أكتوبر الحالي.
البيت الأبيض (Getty)
اقتصاد دولي
البيت الأبيض يطلب 106 مليارات دولار.. أغلبها لأوكرانيا وإسرائيل
ويرى خبراء غربيون أن الالتزام الأميركي التقليدي بأمن إسرائيل واستمرار تفوقها لن يتأثر، بل سيزداد تبعاً للضربة الكبيرة التي تلقتها، والحالة التي ظهر بها جيشها في 7 أكتوبر الحالي. ويعتبر الخبراء أن إعطاء الأولوية لإسرائيل على أي طرف آخر أمر غير قابل للنقاش.
وقال الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي في تصريحات “إن المحرقة اليهودية حصلت في أوروبا وليس في الشرق الأوسط، ولذا فإن أمن إسرائيل مسؤولية غربية”، وبالتالي سيحتل الأولوية على أي جزء آخر من العالم، وهو محل إجماع بين قوى اليمين واليسار، ومثال ذلك الحزبان الجمهوري والديمقراطي في الولايات المتحدة، اللذان يختلفان على دعم أوكرانيا، ويتفقان في موضوع إسرائيل.
الذخيرة والأسلحة تتدفق على إسرائيل، وحسب المعلن فإن المزود الأساسي هي الولايات المتحدة، التي فتحت مخازنها الاحتياطية داخل إسرائيل، ووضعتها تحت تصرف الدولة العبرية.
كما شرعت بتزويدها بأسلحة أخرى بدأت تصل تباعاً إلى ميدان المعركة، وهذا أمر من المؤكد أنه سينعكس على تزويد أوكرانيا بالسلاح، التي تعاني أصلاً من نقص على هذا المستوى، حتى قبل 7 أكتوبر الحالي، ما استدعى العمل على إنشاء مصانع ذخيرة غربية على أراضيها.
أسلحة لإسرائيل كانت مخصصة لأوكرانيا
ونقل موقع “أكسيوس” الأميركي الأسبوع الماضي معلومات عن مصادر إسرائيلية، مفادها أنه تم إرسال عشرات الآلاف من قذائف المدفعية عيار 155 ميليمتراً لإسرائيل من الولايات المتحدة. وذكر الموقع أن تلك الشحنات كانت مخصصة لأوكرانيا، ورجح مسؤولون أميركيون ألا يكون لتحويل وجهة القذائف إلى إسرائيل “تأثير فوري” على قدرة أوكرانيا في القتال، لكن من غير الواضح ما إذا كان من الممكن زيادة الإمدادات العسكرية الأميركية لأوكرانيا، إذا تحولت الحرب بين إسرائيل و”حماس” إلى صراع إقليمي أوسع.
الدعم الغربي لأوكرانيا بدأ بالفعل في التراجع، حتى من قبل اندلاع المواجهات في غزة
وأضاف الموقع أن الولايات المتحدة شرعت منذ مطلع العام الحالي بسحب قذائف مدفعية عيار 155 ميليمتراً من مخزوناتها الكبيرة في إسرائيل، بهدف إرسالها إلى أوكرانيا، وذلك بعد أن وافق الجيش الإسرائيلي على العملية، وأبلغ رئيس الوزراء آنذاك يئير لبيد ووزير الأمن السابق بيني غانتس، أنه لا يوجد سيناريو فوري تحتاج فيه إسرائيل إلى إمدادات طارئة من القذائف، لكن كل ذلك تغير بعد 7 أكتوبر الحالي، حسبما أفاد مسؤولون إسرائيليون لـ”أكسيوس”.
القضية، في كافة الأحوال، تتجاوز مجرد إدراج الحرب على أوكرانيا في التسلسل الهرمي للنشرات الإخبارية التلفزيونية. يتعلق الأمر بالجهود التي يبذلها الغربيون منذ فبراير 2022 لعزل روسيا وحشد الدول المصنفة على أنها تنتمي إلى الجنوب العالمي ضدها.
وهذه الجهود، التي توجت بنجاح نسبي، هي الآن في طور التبخر، سواء في الرأي العام، أو بين عدد معين من الحكومات في الشرق الأوسط، وأفريقيا، وآسيا، وأميركا اللاتينية.
الدعم الغربي لأوكرانيا بدأ بالفعل في التراجع، حتى من قبل اندلاع المواجهات في غزة، تحديداً في الولايات المتحدة، وثمة معارضة قوية داخل الكونغرس، خصوصاً من نواب الحزب الجمهوري، لمنح المزيد من المساعدات لكييف.
ومن المفترض أن يتضح هذا الأمر خلال فترة قريبة، عندما يناقش الكونغرس طلب بايدن الموافقة على صرف نحو 106 مليارات دولار، تتضمن مساعدات عسكرية قدرها 61 مليار دولار لأوكرانيا و14 مليار دولار لإسرائيل.
بات الطريق ممهداً بقوة أمام معارضي دعم أوكرانيا بلا حدود، وسيتجاوز الموقف دعوات المراجعة من أجل ضبط وتقنين المساعدات المادية والعسكرية، إلى قرارات صارمة توجه الدعم الغربي لإسرائيل، خصوصاً إذا تطور النزاع، وأخذ شكل الحرب الإقليمية، التي ستكون لها انعكاسات كبيرة على الدول الأوروبية الداعمة لأوكرانيا، تحديداً بريطانيا وألمانيا.
تحرك الشارع في أوروبا للتضامن مع غزة، من شأنه أن يصرف قسطاً من الاهتمام الأساسي بالقضية الأوكرانية، وستكون له تأثيرات سياسية واقتصادية وإعلامية، على حساب المجهود الذي كرسته أوروبا لمساندة الشعب الأوكراني.
“هدية من السماء” للكرملين. يتكرر هذا التعبير مراراً وتكراراً في تعليقات الدبلوماسيين الغربيين والمراقبين الخارجيين. إن الرد الإسرائيلي في قطاع غزة على هجوم “حماس” في 7 أكتوبر الحالي يشكل نعمة لروسيا في حربها ضد أوكرانيا، والمواجهة بينها وبين حلف شمال الأطلسي.