منذُ الساعات الأولى للعدوان الإسرائيليّ على قطاع غزّة، اتّخذ الرئيسُ الأمريكيّ جو بايدن موقفًا حادًا وصارمًا في دعمه إسرائيلَ عسكريًا وسياسيًا ودبلوماسيًا ومعنويًا، فيما امتنع فيه -حتى الآن- عن المطالبة بوقف إطلاق النّار، وهو ما يعني إعلاءَه قيمة العمل العسكريّ على الاعتبارات الإنسانيّة.
وقد تكون هذه هي المرَّة الأولى في التاريخ الأمريكيّ التي يمتنع فيها رئيس عن مطالبة أطراف نزاع عسكريّ خارجي- سقط فيه آلاف الضحايا المدنيين- بوقفِ القتال.
بعثَ بايدن وأركان إدارته رسائلَ لعواصم الدول الحليفة بضرورة إدانة ما قامت به حركة “حماس”، والضغط عليها للإفراج عن الرهائن المحتجزين لديها، دون الحديث عن معاناة وآلام أكثر من 2.3 مليون نفس بشرية في قطاع غزة
لا يترك بايدن فرصةً إلا ويعيد تأكيد تعهّده بدعم إسرائيل- بكل ما تملكه الولايات المتحدة- في سعيها للانتقام من هجوم حركة “حماس”. وقد منح، في خطاباته حول الأزمة، الضوءَ الأخضر لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للاستمرار في شنّ مزيد من الهجمات ضد المدنيين في قطاع غزة والتي أسفرت عن استشهاد ما يقرب من 10 آلاف، وإصابة ما لا يقلّ عن 30 ألفًا آخرين.
ويملك بايدن على مدى أكثر من نصف قرن في العمل السياسي سجلًا طويلًا من الالتزام القوي بحماية أمن إسرائيل، وتعزيز الشراكة الأميركية- الإسرائيلية، وقد اعتبر خلال حملته الانتخابية عام 2020 أن دعمه إسرائيل “شخصي للغاية ويمتدّ طوال حياته المهنية”.
وعلى الرغم من تعهّده بإعادة المبادئ الحاكمة التي وجّهت الدبلوماسية الأميركية نحو الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني- ويشمل ذلك دعم حلّ الدولتين، ومعارضة ضمّ إسرائيل الأراضيَ وبناء المستوطنات- فإنه لم يتراجع عن قرار ترامب بنقل سفارة واشنطن إلى القدس، أو الاعتراف بها عاصمة لإسرائيل، ولم يُعد افتتاح قنصليّة بلاده في القدس الشرقية.
ومع بدء العدوان الإسرائيليّ على قطاع غزة، تخطّى بايدن كلَّ مَن سبقوه من رؤساء أمريكيين في دعم حكومة إسرائيل اليمينية بأحدث ما تملكه واشنطن من أسلحة وعتاد. وعلى مدار الأسابيع الماضية، لم يتطرّق لضرورة وقف إطلاق النار أو خفض التصعيد، وبدلًا من ذلك أمر بنشر حاملتَي طائرات “جيرالد فورد” و”داويت أيزنهاور” في شرق البحر المتوسط، في رسالة دعم عسكري لإسرائيل، وردع خصومها، ولتهديد أي أطراف تفكّر في التدخل بالمعارك الجارية، هذا، إضافة إلى نشر أكثر من عشرين قطعة بحرية، وتعزيز أسراب القوات الجوية في الشرق الأوسط، وتسليم إسرائيل شحنات طارئة من الأسلحة والذخائر.
وسياسيًا، كرَّر بايدن القول: إنّ “الولايات المتحدة ودولة إسرائيل شريكان لا ينفصلان”، وإن واشنطن “ستواصل التأكد من أن إسرائيل لديها ما تحتاجه للدفاع عن نفسها وشعبها”، وأن القضاء على “حماس” ليس واجبًا على إسرائيل فحسب، بل ضرورة يجبُ عدم التراجع عنها.
كما شاركَ بايدن في اجتماع لمجلس الحرب الإسرائيليّ خلال زيارته لها. وأصبح بذلك أوّل رئيس أمريكي يزور دولتَين أجنبيتَين في حالة حرب، إذ سبق له زيارة أوكرانيا العام الماضي.
وقال بايدن: إنه سعيد لرؤية الحكومة الإسرائيلية موحّدة، مع انضمام المعارضة إليها بعد بدء الحرب، وكرَّر لهم قوله: “أريدكم أن تعرفوا أنّكم لستم وحدَكم.”
ودبلوماسيًا، بعثَ بايدن وأركان إدارته رسائلَ لعواصم الدول الحليفة بضرورة إدانة ما قامت به حركة “حماس”، والضغط عليها للإفراج عن الرهائن المحتجزين لديها، دون الحديث عن معاناة وآلام أكثر من 2.3 مليون نفس بشرية في قطاع غزة. ولجأت إدارته إلى حقّ النقض (الفيتو) يوم 18 أكتوبر، ضدّ قرار تقوده البرازيل يدعو إلى “هدنة إنسانية تسمح بإدخال المساعدات للمدنيين”.
ومعنويًا، أظهر دعمًا كبيرًا للضحايا الإسرائيليين ولعائلات الرهائن والأسرى لدى “حماس” من ناحية، كما منح الضوءَ الأخضر للحكومة الإسرائيلية لتقوم بما تريد من ناحية أخرى. وقد كرَّر ادّعاءات إسرائيلية عدّة مرات، ما اضطُر البيت الأبيض للتراجع وتصحيح ما جاء من أكاذيبَ على لسان الرئيس مثل أكذوبة “قطع رؤوس الأطفال”.
لا يوجد سبب واضح لفهم ما قام ويقوم به بايدن. لكن لا يمكننا استبعاد انتخابات 2024 من المعادلة، فمنافسه الرئيس السابق دونالد ترامب يتفوق في استطلاعات الرأي، وربما يحاول بايدن جعل انتخابات العام المقبل منافسة على أجندة السياسة الخارجية في ظلّ تراجع ثقة الأمريكيين في أدائه الاقتصادي، وتناوله القضايا الداخلية الحرجة كالهجرة وتأمين الحدود الجنوبية مع المكسيك.
وربما يحلم بايدن بدفع نسبة كبيرة من البروتستانت الإنجيليين، خاصة تيار المسيحيين المتصهينين بينهم، الذين يصوتون تقليديًا للمرشح الجمهوري بنسب تتخطَّى 90%، للتصويت له بعد موقفه الصلب المؤيد للجرائم الإسرائيلية.
وبفرض حصول بايدن على ما يحلم به، لن تشفعَ هذه الأصوات له لتجنّب خَسارة أصوات كثير من الشباب الأمريكيّ التقدمي الذي لن يصوت لرئيس حرب على مدنيين أبرياء، ناهيك عن خَسارته أصوات مئات الآلاف من الناخبين العرب والمسلمين في ولايات متأرجحة فاز بها بصعوبة عام 2020، وبعد موقفه من الحرب على غزة، أصبح من المستبعد الفوز بها في انتخابات 2024.
ومع الدعم المطلق من بايدن لإسرائيل، من الصعب عدم إلقاء المسؤولية على واشنطن وبايدن فيما يقوم به الجيش الإسرائيلي. وهناك شيء مختلف الآن يتجاوز الدعم الأمريكي التقليدي لإسرائيل المستمر على مدى عقود، حيث يلعب بايدن دور “محامي إسرائيل”، ولم يمتلك شجاعة الإقرار بأن قتل الأبرياء بسلاح أمريكي هو خطأ يجب أن يتوقف.
ومع تخطّي حجم العدوان وعدد ضحاياه كلّ ما سبقه من اعتداءات، سيقول التاريخ: إن بايدن لم يفعل شيئًا لوقف قتل مدنيين أبرياء، وإنه كان متواطئًا في ارتكاب جرائم حرب وحملة تطهير عِرقيّ، من هنا نجح بايدن- بلا شكّ- في جعل العدوان الإسرائيليّ على قطاع غزّة في أحد صوره “حرب جو بايدن”.