أسابيع قليلة وتدخل الحرب في أوكرانيا عامها الثاني، الحرب أعلنها الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين من أجل حماية أمن بلاده القومي من خطر التمدّد لحلف شمال الأطلسي (الناتو) إلى الحدود الروسية، عبر أوكرانيا… أرادها بوتين حرباً سريعة وخاطفة على شكل حربه في ضمّ شبه جزيرة القرم إلى بلاده عام 2014، لكن تدخّل الدول الغربية إلى جانب كييف جعل منها حرباً تدوم وتدوم، وقد لا تنتهي إلى تسويات، فهل إطالة عمر الحرب في أوكرانيا بالتزامن مع الحرب في فلسطين هو لصالح بوتين؟ أي هل عامل الوقت بات حليف روسيا في كييف وفي غزّة؟
في شرق أوروبا حربٌ يخوضها الروسي مباشرة، ولكن في الشرق الأوسط مشاركة روسيا مختلفة. ولا شكّ أن ما أحدثته حركة حماس في 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي تعتبره روسيا “هدية من السماء”، إذ وفق تقرير صحيفة لوفيغارو الفرنسية 20 أكتوبر، اعتبر أن “الردّ الإسرائيلي في قطاع غزّة على هجوم حماس شكّل نعمة لروسيا في حربها ضدّ أوكرانيا ومواجهتها ضدّ ما تسميه موسكو الغرب الجماعي”.
ليس مستغرباً أن يكون لروسيا حلفاء لها في الميدان، من جمهورية الصين الشعبية إلى كوريا الشمالية، وصولاً إلى إيران وجميع أدواتها في المنطقة. إن ما يجمعهم يبقى العداء المطلق للهيمنة الغربية بقيادة الولايات المتحدة. ولكن اليوم ظهر في الميدان حليف جديد لموسكو شكّل منذ بداية اجتياح أوكرانيا خصماً لها، وهو “عامل الوقت”، حيث تعتبر موسكو أنه كلما طال أمد القتال في أوكرانيا وغزّة ضمنت انتصارها على الغرب.
تعتبر موسكو أنه كلما طال أمد القتال في أوكرانيا وغزّة ضمنت انتصارها على الغرب
أدركت القيادات المتحالفة في وجه الغرب، والساعية إلى تغيير في النظام العالمي القائم الذي لم يعد يلبّي طموحات الدول الصاعدة، أن المطلوب إحداث صدمة تغييرية تحدّ من الهيمنة الغربية، وأنه كلما اعتمدوا “سياسة الاستنزاف” للغرب من خلال اللعب على عامل الوقت في الحروب، وعدم الانجرار إلى ردّات فعل سريعة كلما تحققت أهدافهم وجعلت الغرب يتخبطون مع شعوبهم وفي ما بينهم.
على الرغم من أن المصلحة الحقيقية والمنطقية في إطالة العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا هي للمعسكر الغربي، فإنّ الكاتبين سام غرين وألينا بولياكوفا يفترضان العكس. ففي مقال مشترك نشر لهما في موقع فورين أفيرز، كتبا أن “سيناريو إطالة الحرب في أوكرانيا سيكون حتماً في مصلحة موسكو، مستندين إلى أن بوتين يراهن على أنه سيأتي يوم يوقف فيه الغرب دعمه كييف، وقد يكون أتى هذا الوقت مع حرب غزّة، حيث شكّلت تل أبيب اهتمامات الدول الغربية”.
كلّما زادت إسرائيل في وحشيتها حصدت فلسطين داعمين لها، الأمر الذي يفتح الباب لردع جموح الغرب عبر تقليب الرأي العام الدولي على أعماله وسياساته
لقد أوجدت روسيا حلفاء لها في حربها مع الغرب، وإن “لعنة الوقت” التي رافقت بوتين بعد عدم تمكّن جيشه من إنهاء الحرب في أوكرانيا بشكل سريع، انقلبت إلى “نعمة” عنده في إطالة أمد الحرب. لقد أشارت صحيفة الغارديان البريطانية إلى أن “الوقت في صالح الرئيس بوتين، وليس في صالح كييف”، مضيفة أنه “علاوة على ذلك، انتخاب دونالد ترامب المحتمل رئيساً للولايات المتحدة سيصبّ أيضاً في مصلحة روسيا، لأن ترامب غير مهتم بمساعدة أوكرانيا”.
يعتقد المراقبون العسكريون أن كييف أضاعت فرصة ذهبية في العام الماضي، تحديداً مع بدء هجومها المضاد الذي دعمته كل الدول الغربية، ومدّته بالأسلحة والتدريب. ولكن الجيش الأوكراني لم يستطع استعادة الأراضي في الصيف الماضي، فبدأ الشكّ يصيب زعماء الدول الغربية في قدرة كييف على تحقيق الانتصارات، ولهذا دخلت حالة من “التململ” داخل زعماء الغرب، وبين شعوبه الذين عبّروا بمظاهرات اعتراضية على سياسات بلادهم.
يتّجه العالم اليوم بأنظاره إلى التركيز على مجريات الحرب في الشرق الأوسط، حيث إن إطالة الحرب بين إسرائيل وحماس تبقى أيضاً في مصلحة بوتين، فالعالم بدأ يغيّر في نظرته إلى أداء الجيش الإسرائيلي، بسبب الوحشية التي يمارسها بقتله آلاف المدنيين، وبدأ ينقم على داعمته الولايات المتحدة. وبدأ هذا الأمر ينعكس إيجاباً على تحسين صورة موسكو في أوكرانيا، ويعطيها غطاءً إعلامياً لأعمالها، إن لم نقل عبر “إلهاء” العالم عما يفعله الروسي في أوكرانيا.
“لعنة الوقت” التي رافقت بوتين بعد عدم تمكّن جيشه من إنهاء الحرب في أوكرانيا بشكل سريع، انقلبت إلى “نعمة” عنده
عامل الوقت اليوم هو حليف بوتين، فكلما زادت إسرائيل في وحشيتها حصدت فلسطين داعمين لها، الأمر الذي يفتح الباب لردع جموح الغرب عبر تقليب الرأي العام الدولي على أعماله وسياساته. لقد أكّد وزير خارجية جنوب أفريقيا، ناليدي باندور، على سبيل المثال، أن بلاده مع مجموعة من الدول ستتقدّم بدعوى ضد إسرائيل أمام المحكمة الجنائية الدولية لارتكابها فظائع وجرائم حرب في غزّة، ومخالفات اتفاقيات جنيف.
لم يكن منتظراً أن يصبح بوتين رجل العام، من خلال مواقف بلاده الداعمة بقوّة وقف إطلاق النار الفوري في غزّة. هو الذي خاض حروباً في أكثر من منطقة، سعياً إلى إعادة رسم الإمبراطورية الضائعة بين أحلام الاتحاد السوفييتي والقيصرية الروسية. لقد دعمه الحليف الجديد (الوقت) في أوكرانيا، ومدّه الحلفاء الحقيقيون من كوريا الشمالية وإيران بالأسلحة، كما عملت الصين على تسهيل تفلّته من العقوبات على بلاده، وذلك من أجل الاستمرار في قتال طويل في أوكرانيا لإنهاك الغرب، وضرب ثقتهم بالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي المتطلّب للسلاح والمال، من دون أن يحصدوا نتائج جدّية على أرض الميدان.
لم يكن الوقت حليفه في أوكرانيا فقط، بل كان حليفه أيضاً في حرب غزّة، التي دخلت شهرها الثاني من دون أن تستطيع إسرائيل تحقيق إنجازات عسكرية على حركة حماس. وزاد هذا الأمر من نشوة الانتصار الروسي، الذي تفلّت من الرقابة الإعلامية بشأن حربه في شرق أوروبا. كما استفاد من انخفاض الضغط عليه، عبر استبدال الغرب شحنات الأسلحة والدعم من كييف إلى تل أبيب، فأصبحت اهتماماته في الشرق الأوسط. وثمّة من يقول إن بوتين في إطالة الحرب لا يستفيد من المظاهرات الشعبية القائمة في الغرب، والتي يراهن من خلالها على تقليب السلطة من خلال “الإلهاء الذاتي” في إحداث شغبٍ أو تأثير في الانتخابات المقبلة لإيصال حكوماتٍ لا تريد الحرب، ولا تسعى إليها.