لم يعرف العراق، منذ تأسيس دولته الوطنية قبل مائة عام، مآزق وأزمات أكثر من التي عاشها في الأعوام العشرين الأخيرة، إذ كلما تبدّى للعراقيين أن ثمّة حلولا تلوح أمامهم، وأن هناك من المخارج ما يمكن أن يضع أمورهم على الطريق السويّ، حتى يكتشفوا أن تلك الحلول والمخارج لا تقود إلا إلى أزمات ومآزق أخرى. وهكذا ما أن فرغ الوسط السياسي من متابعة ردود الفعل على دعوة زعيم التيّار الصدري مقتدى الصدر، المهيمن على قطاع واسع في الشارع الشيعي، إلى مقاطعة الانتخابات المحلية المقرّر إجراؤها في منتصف الشهر المقبل (ديسمبر/ كانون الأول)، حتى فوجئ بقرار المحكمة الاتحادية إقالة محمد الحلبوسي من عضوية البرلمان، والذي أحاطت به شكوكٌ كثيرة، حتى عدَّه بعضُهم بمثابة “شغل إيراني”، مردّه تجاوز الحلبوسي خطوطا حمرا وضعتها طهران أمامه مقابل موافقتها على تسنّمه رئاسة البرلمان، ومطالباته المتكرّرة بسنّ قانون العفو العام، وإبعاد المليشيات عن المدن، وإعادة النازحين والمهجّرين إلى مساكنهم. وبالطبع، تُخالف مطالباتٌ كهذه خطط التغيير الديموغرافي الذي تعمل طهران على ترسيخه في مدنٍ عراقية. وبغضّ النظر عما له وما عليه، استطاع الحلبوسي أن يحقق له ولحزبه نفوذا في الشارع السنّي في زمن قياسي، تخطّى به ما يمتلكه منافسوه من نفوذ وتأثير، ما أوجد خصوما له، حتى بين بعض أعضاء كتلته التي دخل بها الانتخابات البرلمانية.
واللافت أن الأزمة قوبلت بكومة ردود فعل ملتبسة من أطراف مختلفة، عكست الهلع من مضاعفاتٍ محتملةٍ تودي بما هو قائم، إذ التقى رئيس الجمهورية بالحلبوسي، لبحث “حيثيات قرار المحكمة”، والتقى رئيس الوزراء به أيضا، مؤكّدا على “أهمية التواصل والحوار”، كما اجتمع الحلبوسي بزعيم تيار الحكمة عمّار الحكيم، الذي عبّر عن تثمينه جهود الحلبوسي في رئاسة البرلمان. ودخل العامل الخارجي على الخطّ، إذ التقت السفيرة الأميركية ألينا رومانوسكي بالحلبوسي، ووصفت القرار بأنه خطير على البلد، وشدّدت، في لقاء لها برئيس مجلس القضاء فائق زيدان، على “أهمية وجود قضاء مستقل يستند في قراراته إلى الدستور”. أما إيران فلاذت بالصمت، على غير عادتها في أزماتٍ سابقة، تاركة لوكلائها النافذين مهمّة التعبيرعن موقفها الداعم لقرار المحكمة. وفي أحاديث المجالس السياسية هناك انتظار لما يمكن أن تقرّره الولايات المتحدة باعتبارها الراعية للعملية السياسية. ويقال إن السفيرة أوصت بتأجيل عقد جلسة للبرلمان لانتخاب بديل، وهو ما جرى فعلا، إذ أجلت الجلسة إلى موعدٍ لاحق.
عوّدت السنوات العشرون العجاف العراقيين على أن يصحوا كل يوم على وقع مفاجآت جديدة وأزمات جديدة… هذا هو قدرهم
ومن ناحية ثانية، دفعت الأزمة ناشطين سياسيين معارضين إلى إحياء فكرة تحقيق حكومة انتقالية التغيير المطلوب. أما كيف يتم ذلك، فيقول هؤلاء الناشطون إن قرارا واحدا من مجلس الأمن يضع العراق تحت الوصاية الدولية، ويشكل حكومة انتقالية تلتزم بأساسيات المواطنة، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، وتوفر الجهود لبناء دولة راشدة وسليمة تضمن للعراق إعادة ممارسة دوره المتقدّم على الساحتين الإقليمية والدولية. وبالطبع، لا يبدو هذا الأمر ممكنا في الحال الحاضر، وقد يكون مستحيلا، وخصوصا أن الولايات المتحدة لا تغامر بدعم فكرة كهذه، من خلال مخاوفها من تردّي الحال أكثر، ولانشغالها بمعالجة قضايا عالمية أكثر أهميةً لها من قضية العراق.
هيمنت كل هذه الوقائع على الوسط السياسي العراقي في الأسبوع الأخير وأربكته، وكشفت، مرّة أخرى، عورات “العملية السياسية” الطائفية التي جاء بها الأميركيون بعد الاحتلال، والتي وضعت العراق عمليا تحت الهيمنة الإيرانية المباشرة، وأوجدت تركيبة سياسية هجينة، تنظر إلى مواقع السلطة العليا، وإلى خزائن المال العام على أنها “غنائم حرب” يتوافق اللاعبون المهيمنون على الاستئثار بها وقسمتها كما يقتسم اللصوص الكعكة الذهبية، على حد وصف نائبة في البرلمان!
وهكذا يدخل العراق، مرّة أخرى، حالة استعصاء وعجز تنذر بمخاطر كثيرة تنعكس آثارها على المواطن العادي المهموم، والمنشغل بالبحث عن رغيف خبز وفسحة أمن وأمان، وليس ثمّة حل في الأفق، بعدما راكمت السنوات العشرون “رصيدا” مهولا من الأزمات والمآزق التي يصعب التصدّي لها بحلول إصلاحية مبتسرة، أو بمعالجاتٍ قاصرة. يرافق ذلك نوع من اليأس لدى الجمهور العام من إمكانية أن يحدُث تغيير، مع أن بعضهم ما زال يأمل بأن يحقق له القابضون على السلطة ما يريده، وهؤلاء مثلهم مثل من تناولتهم نكتةٌ شاعت في السنوات الأخيرة من عمر الاتحاد السوفييتي السابق. قالت النكتة إن أناسا كانوا مسافرين في قطار، ولسببٍ ما توقف القطار، وإذ لم يجدوا حلا لمشكلتهم، أسدلوا ستائر النوافذ، وتصرّفوا كما لو أن القطار يسير.
وعلى أي حال، عوّدت السنوات العشرون العجاف العراقيين على أن يصحوا كل يوم على وقع مفاجآت جديدة وأزمات جديدة… هذا هو قدرهم.