كان الشاه الإيراني محمد رضا بهلوي يعتقد خلال العقدين الأخيرين من سلطته أن الديمقراطية لا تناسب إيران والمجتمع الإيراني لأنها تعوق عملية التنمية في البلاد، وبات يعتقد بأن سلطة مستبدة أو ديكتاتورية، على غرار السلطة التي أقامها والده رضا شاه، أكثر إفادة للبلاد، مما جعل منه خلال هذين العقدين مصدر القرار الأوحد في إيران وفي السلطة، وهو الجهة الوحيدة التي تتخذ القرارات المصيرية وغير المصيرية.
وفي ظل الأزمات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي نتجت من سوء البرامج الاقتصادية والتنموية وما أحدثته من خلل طبقيّ، ولم تستطع إنتاج طبقة وسطى يمكنه الاعتماد عليها في بناء نظريته السلطوية، بدأت حالات الاعتراض تزداد وتتوسع داخل مختلف طبقات المجتمع، وبدأت تنذر بإمكان الانتقال إلى مرحلة جديدة من المواجهة، بخاصة مع تصاعد أعمال القمع وإطلاق يد جهاز الـ “سافاك” في ملاحقة المعترضين، مما حوّل الدولة إلى دولة بوليسية.
وعلى رغم تعدد الأسباب والمؤشرات التي تتحدث عن الشعلة الأولى للتظاهرات، فإن الرواية الرسمية للنظام الإسلامي كرّست روايتها التي تتحدث عن انطلاق التظاهرات المعارضة للنظام الملكي التي بدأت ما بعد الـ 23 من أكتوبر (تشرين الأول) عام 1977، تاريخ وفاة مصطفى نجل الزعيم الديني روح الله الخميني في مدينة النجف، واتهام جهاز “سافاك” بقتله.
إلا أن المسلّم به، إضافة إلى الحراك الذي أطلقته الجماعات والأحزاب الإسلامية، أن عوامل عدة اجتمعت وأسهمت فيها قوى سياسية وفكرية وثقافية واقتصادية، رفعت الصوت اعتراضاً على سياسات النظام والشاه وأدائه الاقتصادي والأمني، إضافة إلى اتساع دائرة الفساد والنهب الذي كانت تقوم بها الطبقة السياسية المحيطة بالشاه على حساب مصالح الشعب والبلاد.
وانطلاقاً من الشعار المركزي الذي رفعته التظاهرات الشعبية ضد النظام الملكي، وبخاصة بعد أن استطاعت القوى الإسلامية أن تفرض استحواذها على هذا الحراك، وكان يتمحور حول ثلاثة مبادئ أساس هي “الاستقلال والحرية والجمهورية الإسلامية”، وهو الذي غلب القول إن الأسباب الحقيقية للاعتراض كانت سياسية وتتمحور حول المطالبة بالحريات السياسية والحزبية والفكرية أكثر مما هي اقتصادية، على رغم أهمية هذا العامل والعدالة الاجتماعية في توسيع قاعدة النقمة الشعبية ضد النظام والشاه والطبقة الحاكمة.
ومع الإعلان عن انتصار الثورة والإطاحة بالنظام الملكي الشاهنشاهي ساد اعتقاد بأن النظام الجديد الذي سيخلف الملكية سيكون منسجماً مع الشعارات التي رفعتها التظاهرات وطالب بها الشعب، بخاصة في ما يتعلق بحريات السياسية والعمل الحزبي وشراكة مختلف القوى في هذه السلطة.
البوادر الأولى للالتزام بهذه المبادئ، الثورة الأساس، أي الاستقلال والحرية والجمهورية الإسلامية، ظهرت من خلال تشكيل الحكومة الموقتة بقيادة زعيم “حركة تحرير إيران” مهدي بازركان الذي قدم حكومة كانت غالبية أعضائها من حركته التي تحسب على “تيار الإسلام الليبرالي” إلى جانب الجبهة الوطنية، إضافة إلى شراكة هذه الجماعات في مجلس قيادة الثورة، وهذه الحكومة هي التي واكبت عمل مجلس خبراء الدستور الذي دوّن الدستور الإيراني ومن ثم الاستفتاء على إسلامية الجمهورية، إضافة إلى أنها هي التي نقلت السلطة إلى أول رئيس جمهورية منتخب محسوب على التيار المدني وهو أبو الحسن بني صدر.
وعلى رغم هذه الخطوات كانت الأجواء السياسية تزدحم بصراعات قاسية بين القوى المدنية والمؤسسة الدينية التي تعتبر نفسها صاحبة الثورة والفاعل الأساس في انتصارها، وبالتالي كانت الأمور تذهب إلى مواجهة مفتوحة لا بد من أن ينتصر فيها طرف على آخر، ويقود إيران نحو الاتجاه الذي يريده.
ولم تتأخر الأمور في الوصول إلى فرز واضح بين هذين التيارين داخل الثورة، واستطاعت المؤسسة الدينية وأحزابها وتشكيلاتها حسم الأمور لحسابها، وقد ساعد في ذلك التطورات الأمنية التي شهدتها إيران بعزل بني صدر واغتيال رئيس الجمهورية بعد بني صدر، محمد علي رجائي، وتراجع زعيم الثورة عن موقفه الرافض تولي أحد رجال الدين منصب الرئاسة أو الترشح لهذا المنصب، مما مهد الطريق أمام وصول المرشد الحالي للنظام السيد علي خامنئي إلى رئاسة الجمهورية.
ومنذ البداية ومن خلال التوجيه الذي أصدره السيد الخميني بتشكيل حرس الثورة الإسلامية، كان الهدف الأساس من وراء ذلك والمهمة المركزية لهذا التشكيل العسكري والأمني هو الدفاع عن “الثورة والإسلام” في مواجهة القوى العلمانية والليبرالية، والخوف من مصادرة الثورة وأخذها باتجاهات تتعارض مع مشروع “الجمهورية الإسلامية” التي رفع شعارها، وهذا التوجه الذي لخصه قرار تشكيل حرس الثورة أسس لمسار جديد في عمر الثورة الفتية، إذ أطلق يد المؤسسة والأحزاب الدينية في تصنيف الآخرين بين موال ومعارض، وبين ديني وليبرالي أو علماني أو يساري، وبالتالي وضع سياسات تؤدي إلى تصفية الحياة السياسية من هذه القوى لمصلحة تغليب القوى الإسلامية والدينية.
وقد ساعدت منظمة “مجاهدي خلق” بقيادة مسعود رجوي في إعطاء الغطاء والمسوغ للمؤسسة الدينية والأجهزة التي استحدثتها من “حرس الثورة” واللجان الثورية في تسريع عملية تصفية الأطراف الأخرى، بعد أن ذهبت إلى خيار العمل المسلح ضد النظام الجديد في محاولة لاستعادة ما تعتبره حقها في الثورة.
وخلال هذه المرحلة، ومن أجل تثبيت دعائم النظام الإسلامي وحسم هويته الدينية والأيديولوجية، لم تستغرق الأمور كثيراً من الوقت لإعلان حل جماعة “حركة تحرير إيران” ومنعها من المشاركة في الحياة السياسية، وصولاً إلى محاصرة زعيمها رئيس أول حكومة انتقالية بعد الثورة، وأحد أركان مجلس قيادة الثورة مهدي بازركان، إلى جانب كثير من الشخصيات التي لعبت دوراً إلى جانب الخميني قبل الثورة، سواء في النجف العراقية أو ضاحية “نوفل لوشاتو” الباريسية خلال المرحلة الفرنسية، فضلاً عن أحزاب أخرى مثل “الجبهة الوطنية” التي كانت شريكة أيضاً في “مجلس قيادة الثورة والحكومة الانتقالية” و”مجلس خبراء صياغة الدستور الجديد”، في حين كان مصير حزب “توده” الملاحق هو اعتقال قياداته وإعدام كثير منهم.